الإمارات اليوم:

الانخراط الإقليمي والدولي يكرّس الانقسام في ليبيا

12 September 2022


بات العامل الخارجي محدداً حاسماً في تطورات المشهد في ظل الجمود السياسي والعسكري، الذي يطغى على الملف الليبي. وشهدت الفترة الأخيرة تصاعد الانخراط الدولي والإقليمي في الأزمة الليبية، في ظل وجود تحركات مكثفة تقوم بها هذه الفواعل للتوصل إلى ترتيبات جديدة لحلحلة الأزمة السياسية الراهنة.

وتمارس الولايات المتحدة ضغوطاً قوية، حالياً، على أطراف الأزمة الليبية لإنجاز القاعدة الدستورية، وتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات كأولوية، وهو ما وضح في اللقاءات المكثفة التي عقدها المسؤولون الأميركيون مع الأطراف الليبية. ولاتزال واشنطن متمسكة بمقاربتها القائمة على تثبيت الأمر الواقع لحين إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، أي الإبقاء على وجود حكومتين متنافستين مع تولي كل منهما مسؤولية إجراء الانتخابات في النطاق الجغرافي الذي يسيطر عليه، ولكن شريطة عدم تصعيد حدة الصراع الداخلي لمستوى المواجهات العسكرية، وهو ما كان قد عبّر عنه صراحة السفير الأميركي في ليبيا.

في المقابل، وعلى الرغم من انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية الراهنة، فإنها قامت أخيراً بإعادة الكثير من عناصر «فاغنر» الروسية إلى ليبيا مرة أخرى، حيث بات عددهم يقدر بنحو 5000 جندي، كما ستتحول ليبيا إلى ساحة تنافس بين روسيا والولايات المتحدة، خلال الفترة المقبلة، لاسيما بعد إسقاط طائرة أميركية مسيّرة بسلاح روسي، والتي كانت تحلق بالقرب من مركز قيادة الجيش الليبي بمنطقة الرجمة شرق ليبيا، وتقوم بعمليات استطلاع بشأن نشاط عناصر «فاغنر»، في ليبيا. ويبدو أن موسكو أرادت توصيل رسائل إلى واشنطن مفادها أن هذه المنطقة باتت منطقة نفوذ روسي.

تراجع النفوذ الأوروبي في ليبيا خلال الفترة الأخيرة بسبب السياسات المنفردة التي تنتهجها الدول الأوروبية تجاهها، والتي تتسم في كثير من الأحيان بالتنافس وتضارب الأدوار، لاسيما بين فرنسا وإيطاليا. وازداد الموقف الأوروبي ارتباكاً بسبب الانشغال بتداعيات الحرب الأوكرانية على أوضاعها الداخلية. ولاتزال إيطاليا وفرنسا تلعبان دوراً مؤثراً في ليبيا. وتركز روما على زيادة حصتها من النفط والغاز الليبي. وتسعى باريس في المقابل لتعزيز حضورها في ليبيا عبر دعم فتحي باشاغا، إذ إن محاولته الأخيرة لدخول العاصمة طرابلس جاءت بتنسيق ودعم رئيس من فرنسا.

وتدعم بريطانيا حكومة عبدالحميد الدبيبة، غير أن هذا الموقف قد يتغير مع تولي ليز تراس رئاسة الحكومة، لاسيما مع وجود مارك فولبروك، في قيادة حملتها، والذي يتوقع أن يصبح أحد عناصر حكومتها المقبلة، حيث كان فولبروك يضغط على حكومة بوريس جونسون لدعم موقف مجلس النواب الليبي وحكومة باشاغا.

وتمكنت الأمم المتحدة، أخيراً، من تعيين مبعوث أممي جديد في ليبيا، هو الدبلوماسي السنغالي، عبدالله بيتلي، بعد تعثر دام لنحو تسعة أشهر، وهو ما قد يدفع نحو تفعيل الدور الأممي في الملف الليبي خلال الفترة المقبلة. وجاء اختيار بيتلي بناء على ضغوط روسية وصينية وإفريقية. كما ألمحت بعض التقارير إلى أن اختيار بيتلي يحظى بدعم فرنسي كذلك، نظراً للعلاقات القوية التي تربط باريس بالدبلوماسي السنغالي منذ توليه منصب نائب المبعوث الأممي لبعثة «مينوسما» في مالي عام 2013.

انخراط إقليمي

حافظت أنقرة على موقفها الحيادي من الصراع القائم بين الدبيبة وباشاغا، حيث استضافتهما، في 2 سبتمبر 2022، بعد اشتباكات طرابلس نهاية أغسطس الماضي، وعقدت اجتماعات منفصلة مع كل منهما بمقر المخابرات التركية.

وتعتمد المقاربة التركية الراهنة، تجاه ليبيا، على انفتاحها على الأطراف كافة، لضمان تعظيم مصالحها هناك، والعمل على التوصل لتوافقات سياسية، مع رفض تغيير الوضع القائم بالقوة، وهو ما يتضح في استخدام القوات التابعة للدبيبة طائرات مسيرة تركية من طراز «بيرقدار تي بي 2» في صدها تقدم المجموعات المسلحة التابعة لباشاغا صوب طرابلس.

في المقابل، تركز مصر، حالياً، على إحداث تقدم في مسار القاعدة الدستورية التي ستنظم الانتخابات المقبلة. وفي هذا السياق، استقبلت القاهرة، في أغسطس، رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، في أعقاب زيارة الأخير إلى أنقرة، حيث تسعى مصر إلى بلورة تفاهمات بين صالح والمشري حول القاعدة الدستورية، مع تمسك القاهرة بشرعية حكومة باشاغا المكلفة من قبل البرلمان، ونهاية ولاية حكومة الدبيبة، وهو ما انعكس بوضوح في انسحاب الوفد المصري، في 6 سبتمبر، من اجتماعات الجامعة العربية، احتجاجاً على شغل نجلاء المنقوش، وزيرة خارجية حكومة الدبيبة، مقعد ليبيا أثناء الدورة الحالية للجامعة.

وفي هذه الأثناء، يمثل الملف الليبي أحد أبرز أولويات السياسة الخارجية للجزائر في الوقت الراهن، حيث تحاول الأخيرة تعزيز حضورها في هذا الملف، وهو ما انعكس في استقبالها للدبيبة، في أبريل 2022، فضلاً عن زيارة وزيرة خارجيته، نجلاء المنقوش، للجزائر، في يوليو الماضي، كما عمدت الجزائر إلى تعيين سفير لها في ليبيا العام الماضي، بعدما أعادت فتح سفارتها بطرابلس، والتي كانت قد أغلقتها في مايو 2014، فيما عينت حكومة الدبيبة سفيراً لها في الجزائر في أغسطس 2022، وهو البرلماني، محمد همة بكدة، بعدما ظل هذا المنصب شاغراً منذ 2018.

وتعد الجزائر هي الدولة الوحيدة التي تعترف صراحة بشرعية حكومة الدبيبة، وتسعى من خلال علاقاتها القوية به إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي في غرب ليبيا، ويجري حالياً التحضير لعقد اجتماع بين البلدين من أجل إعادة فتح المعابر الحدودية بينهما، خصوصاً معبر «غدامس»، فضلاً عن المباحثات الراهنة بين البلدين في عودة الخطوط الجوية بينهما، وبحث إمكانية فتح خط بحري يربط الجانبين.

وباتت تونس أقرب إلى الموقف الجزائري بشأن الصراع الراهن في ليبيا، بعدما كانت تونس في وقت سابق أقرب لدعم حكومة باشاغا، ويبدو أن ذلك نتاج التفاهمات المتنامية بين الجزائر وتونس. وتسعى الجزائر لتشكيل تكتل إقليمي بقيادتها بديلاً عن مجموعة دول الجوار الليبي، في ظل المواقف المتباينة بين الجزائر ومصر حول ليبيا، والتنافس الحاد بين الأولى والمغرب.

ارتدادات داخلية

من المرجح أن تشهد الفترة المقبلة تزايد التركيز على المسار الدستوري، ومحاولة صياغة توافقات بين مجلسي النواب والدولة يمهد الطريق لصياغة قاعدة دستورية يتم الاعتماد عليها لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، خصوصاً في ظل الضغوط الأميركية الراهنة.

وأشارت بعض التقديرات إلى أن ثمة تحركات راهنة لطرح خارطة طريق جديدة خلال الفترة المقبلة، في ظل التوافقات النسبية الراهنة في علاقات القوى الإقليمية الفاعلة في الملف الليبي. ويبدو أن ثمة تصوراً أميركياً بشأن ملامح هذه الخريطة، وهو ما عبّر عنه سفير واشنطن لدى ليبيا، وبالتالي يمكن أن يقود المبعوث الأممي الجديد خلال المرحلة المقبلة عملية المشاورات لطرح هذه الخريطة الجديدة.

وفي الختام، يبدو أن الدور الإقليمي والدولي بات مؤثراً في تطورات المشهد الليبي في الوقت الراهن، بصورة قد تساعد على التوصل لتوافقات في ما يتعلق بالمسار الدستوري وإجراء الانتخابات المبكرة، مع محاولة منع الحكومتين المتنافستين من اللجوء إلى القوة العسكرية لحسم الصراع الجاري على السلطة. ويلاحظ أن التوافق على المسار الدستوري لن يكون بالعملية اليسيرة، خصوصاً في ظل تعثر الجهود السابقة، وهو ما يعني استمرار وجود حكومتين موازيتين في ليبيا في المدى المنظور.

• تراجع النفوذ الأوروبي في ليبيا، خلال الفترة الأخيرة، بسبب السياسات المنفردة التي تنتهجها الدول الأوروبية تجاهها، والتي تتسم في كثير من الأحيان بالتنافس وتضارب الأدوار.

• تعتمد المقاربة التركية الراهنة تجاه ليبيا على انفتاحها على الأطراف كافة، لضمان تعظيم مصالحها هناك.

• 5000 عنصر من «فاغنر» يوجدون في ليبيا حالياً.

*لينك المقال في الإمارات اليوم*