• Login

مسارات متفاوتة:

الضغوط الـ 10 لحرب أوكرانيا على الاقتصاد العالمي

14 March 2022


بات الاقتصاد العالمي، الذي لم يتعاف بشكل كامل من فيروس كورونا ومتحوراته المستجدة، بعد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022، عُرضة لمخاطر جسيمة؛ أبرزها تعميق حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي العالميين، حيث إن الحرب الحالية هي الأخطر في أوروبا والعالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وذلك نظراً لما صاحبها من توترات جيوسياسية وانقسامات سياسية حادة على مستوى العالم، علاوة على فرض كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهم عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على موسكو.

ولن تتوقف خسائر الحرب الروسية - الأوكرانية عند حدود البلدين، بل ستتجاوز إلى أوروبا وباقي دول العالم. فبحسب التقييمات الأولية، سيتكبد الاقتصاد العالمي خسائر تُقدر بنحو تريليون دولار، في شكل انكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحوالي 1% بنهاية عام 2022، مع زيادة التضخم العالمي بنحو 3 نقاط مئوية خلال هذا العام، وذلك في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من اختناق سلاسل الإمداد والتوريد، وتزايد حدة أزمة الطاقة، وارتفاع أسعار الغذاء، فضلاً عن أزمة الديون العالمية المتفاقمة. ومن هذا المنطلق، يناقش هذا التحليل التداعيات المحتملة للغزو الروسي لأوكرانيا على استقرار الاقتصاد العالمي.

تداعيات مختلفة:

يفرض التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تداعيات سلبية جمة على الاقتصاد العالمي، وهي عُرضة للتفاقم مع طول فترة الحرب ونطاقها، وتشديد العقوبات الغربية على موسكو، وحال فرض الأخيرة أيضاً عقوبات مضادة على الغرب. ويمكن توضيحها على النحو التالي:

1- تراجع نمو الاقتصاد العالمي: أربكت الحرب الحالية في أوكرانيا الاقتصادي العالمي بشكل غير مسبوق، وأضعفت من ثقة المستثمرين والمستهلكين في النشاط الاقتصادي العالمي، وسط ارتفاع تكاليف أسعار السلع الأساسية ومنها الطاقة والغذاء، وارتفاع تكاليف المعيشة للعديد من الأسر حول العالم. وفي ظل تطورات الحرب الحالية، خفضت الصين، أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي، لمعدل نموها المستهدف في عام 2022 إلى 5.5% مقارنة بــ 8.1% في عام 2021؛ الأمر الذي سيسفر عنه، إلى جانب التراجع المُحتمل للاقتصادات الأوروبية، انخفاض الناتج الإجمالي العالمي بأكثر من 1% في عام 2022، مع استمرار تراجعه خلال عام 2023.


2- صعود قوي لأسعار النفط: شهدت أسعار النفط ارتفاعاً قوياً في ظل التطورات الأخيرة؛ حيث صعدت أسعار خام برنت لأعلى مستوياتها منذ عام 2008، لتسجل قرابة 130 دولاراً للبرميل في الأسبوع الثاني من مارس 2022، فيما تم تداول 200 عقد آجل لخام برنت تسليم مايو في البورصة الأوروبية Intercontinental Exchange عند مستوى قدره 200 دولار للبرميل. وفي ضوء الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، سترتفع احتمالات حدة التقلبات في أسعار النفط، لتتراوح بين 100 و200 دولار للبرميل.

3- قفزة أسعار الغاز الطبيعي: أدت الحرب الأوكرانية إلى ارتفاع كبير في أسعار الغاز في أوروبا مع تنامي المخاوف وعدم اليقين بشأن مستقبل إمدادات الغاز الروسية عبر خطوط الأنابيب إلى الأسواق الأوروبية، خاصة مع تعليق ألمانيا المصادقة على تشغيل خط "نورد ستريم 2". وفي حال استمرار الحرب الحالية، قد تشهد أسعار الغاز موجة جديدة من الارتفاعات، خاصة مع زيادة إقبال المستهلكين الأوروبيين على شراء المزيد من شحنات الغاز الطبيعي المُسال من السوق الفوري، لضمان تأمين مخزونات كافية.

4- ارتفاع حاد في أسعار السلع الغذائية: منذ بداية الأزمة الأوكرانية، شهدت أسعار القمح ارتفاعاً حاداً بنسبة بلغت 40% لتصل إلى 396 دولاراً للطن، وهو أعلى مستوى لها منذ 14 عاماً، فيما ارتفعت أسعار الذرة بنسبة 21% نتيجة لتعطل حركة الصادرات الزراعية من أوكرانيا، بسبب التدخل العسكري الروسي. ومن المتوقع حدوث زيادات إضافية في تكلفة الغذاء على المستوى العالمي، خاصة مع ارتفاع أسعار الأسمدة مع زيادة أسعار الغاز الطبيعي، واحتمالية تعطل إمدادات الأسمدة من روسيا.

5- تزايد الضغوط على قطاعي الطيران والسياحة: أدى التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى حظر واسع للطيران في كل من روسيا وأوكرانيا، وإغلاق عدة دول لمجالها الجوي أمام الخطوط الجوية الروسية، ما تسبب في إنشاء مناطق محظورة ضخمة وزيادة وقت الرحلات الجوية الدولية؛ وهو ما سينجم عنه حدوث زيادة في التكاليف التشغيلية لشركات الطيران الروسية بحوالي 25 ألف دولار لكل رحلة ذهاباً وإياباً. كما ألغت كبرى الشركات السياحية البحرية جميع رحلاتها المستقبلية إلى روسيا، الأمر الذي قد يعيد تشكيل خريطة الطيران والسياحة عالمياً.

6- تكريس أزمة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية في البحر الأسود: في ضوء الحرب الراهنة، تم تصنيف البحر الأسود كمنطقة مرتفعة الخطورة بداية من شهر مارس 2022، مما أدى إلى رفع أقساط التأمين المطلوبة لشحن البضائع، وتأخر الشحنات، وازدحام الموانئ، فضلاً عن تعطيل خطوط إنتاج السيارات بسبب ارتفاع مخاطر نقص الرقائق بين شركات صناعة السيارات في روسيا، حيث تعتبر الأخيرة ثالث أكبر مورّد في العالم للنيكل المُستخدم في صناعة بطاريات الليثيوم، كما توفر 40% من البلاديوم، في حين يأتي 90% من مواد النيون المطلوبة لصناعة أشباه الموصلات من أوكرانيا، الأمر الذي يضيف المزيد من العراقيل أمام سلاسل التوريد الضعيفة بالفعل. 

7- تفاقم أزمة الشحن والنقل العالمي للبضائع: أدت الحرب الأوكرانية وما صاحبها من تعطل النقل في البحر الأسود وبحر البلطيق، إلى ارتفاع أسعار "نوالين" الشحن البحري بحوالي 6 أضعاف في عام 2022 مقارنة بعام 2019، وزيادة أسعار تأجير السفن بنسب تخطت 20%، علاوة على ارتفاع الرسوم المُقررة لكافة الخدمات المرتبطة بسوق النقل البحري، وارتفاع وقود النقل البحري لارتباطه بأسعار النفط؛ الأمر الذي سينعكس في زيادة أسعار البضائع عالمياً خلال الفترة المقبلة.

8- تخبط أسواق المال العالمية: شهدت أسواق المال العالمية اضطراباً حاداً في مختلف الأسواق الدولية في ظل موجات بيع الأسهم العالمية وعزوف المستثمرين عن شراء الأسهم، بالإضافة إلى الانخفاض الواسع النطاق في عوائد السندات. وتواكب ذلك أيضاً مع استبعاد الأسهم الروسية من مؤشري "ستاندرد آند بورز" و"داو جونز" الأمريكيين.

9- شبح الركود التضخمي: في ظل الحرب الدائرة، تتصاعد بشدة مخاطر حدوث ركود تضخمي في العالم، حيث شهدت أسعار السلع والمعادن والطاقة والحبوب ارتفاعات قياسية وسط تراجع آفاق نمو الاقتصادات العالمية. ويتوقع المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا NIESR)) أن الحرب في أوكرانيا قد تضيف 3 نقاط مئوية إلى التضخم العالمي المُتفاقم بالفعل، بينما قد تمحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي هذا العام.

10- تكاليف إضافية: ستضيف تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا أعباءً أخرى أمام الاقتصاد العالمي، خاصة مع تزايد أعداد اللاجئين الأوكرانيين للدول الأوروبية المجاورة، والتوقعات بزيادة حجم الإنفاق العسكري خاصة لدول أوروبا، وتسريع وتيرة استخدام العملات الرقمية جنباً إلى جنب مع التصاعد المُحتمل للهجمات الإلكترونية في العالم، والتغير المُحتمل لنظام التجاري العالمي في ضوء التطورات الأخيرة. 


استجابات محفوفة بالمخاطر:

ستدفع أزمة التضخم المُمتدة في العالم، مع الارتفاع القياسي في أسعار الطاقة والغذاء، البنوك المركزية في معظم دول العالم للإسراع من تشديد السياسات النقدية ورفع أسعار الفائدة في محاولة لكبح جماح التضخم. وسيبدو مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بعد تطورات الحرب الحالية، أكثر استعداداً لاستخدام أدوات سياسته النقدية، للحيلولة دون تفاقم معدلات التضخم الحالية.

وفي هذا السياق، من المرجح أن يمضي الفيدرالي الأمريكي قُدماً في خططه لبدء رفع أسعار الفائدة بداية من 16 مارس الجاري، بمقدار ربع نقطة أساس على الأقل كما تم إعلانه في السابق، ثم إقرار أربع زيادات أخرى في الأشهر المقبلة خلال عام 2022. وليس مستبعداً أن يتخذ البنك المركزي الأوروبي إجراءً مماثلاً للفيدرالي الأمريكي، على أن يقوم برفع أسعار الفائدة في القريب العاجل لاحتواء التضخم، في الوقت أيضاً الذي يدرس فيه هذا البنك إصدار مزيد من السندات لتمويل الحكومات الأوروبية ومساعداتها على مواجهة أعباء تكاليف تدفق اللاجئين وزيادة الإنفاق العسكري جراء الحرب الحالية. 

بيد أن تشديد السياسة النقدية سيعمل بالتبعية في صالح تعزيز عوائد السندات الأمريكية، وسيقابله خروج رؤوس الأموال الأجنبية من أسواق الأسهم والأدوات الثابتة في الأسواق الناشئة، مما سيفرض ضغوطاً إضافية على أسواق العملات العالمية. كما سيخلق رفع أسعار الفائدة مزيداً من الضغوط الاقتصادية على الدول المدينة والفقيرة؛ نظراً لارتفاع تكلفة خدمة ديونها، فضلاً عن التباطؤ المتوقع لاقتصاداتها.

سيناريوهات متوقعة:

ثمة صعوبة في التنبؤ بمسار الحرب الأوكرانية في ظل ارتفاع حالة اللايقين السياسي والاقتصادي في العالم، بيد أن هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية متوقعة لآفاق الاقتصاد العالمي على خلفية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وهي على النحو التالي: 

- السيناريو الأول (متفائل): يرتكز هذا السيناريو على فرضية أساسية وهي نجاح سلسلة المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني في خفض التوترات ومن ثم إنهاء الحرب الحالية، إلى جانب استمرار تدفق النفط والغاز الروسي إلى أوروبا مع استثناء قطاع الطاقة الروسي من العقوبات الأوروبية، بالرغم من تعرضه للعقوبات الأمريكية. وفي ضوء ذلك، سيبقي التعافي الحالي للاقتصاد العالمي على مسار نموه الصحيح، مع انخفاض معدلات التضخم في منطقة اليورو والولايات المتحدة بنهاية عام 2022، لكن بدون شك سيطال الاقتصادات العالمية كافة أضرار جانبية قصيرة الأجل لا يمكن تفاديها على أية حال بسبب هذه الحرب.

- السيناريو الثاني (حذر): يفترض أن فترة الحرب ستطول بين روسيا وأوكرانيا، مع احتمالية تعطل صادرات النفط والغاز الروسية إلى الأسواق الدولية بشكل جزئي؛ مما سينجم عنه استمرار ارتفاع معدلات التضخم في منطقة اليورو والولايات المتحدة. وستلجأ كبرى البنوك المركزية إلى تشديد سياستها النقدية ورفع سعر الفائدة بشكل أكبر حتى عام 2023؛ لمواجهة التضخم المُفرط. وفي ظل هذا السيناريو، من المتوقع انخفاض الناتج المحلي العالمي بشكل كبير.

- السيناريو الثالث (سيئ): تقوم فرضيات هذا السيناريو على استمرار تصاعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا، واشتداد المواجهة بين موسكو والغرب لتشمل انقطاع صادرات النفط والغاز الروسية إلى الأسواق الدولية، مما سيؤدي إلى انخفاض كبير في الناتج المحلي الأوروبي والأمريكي، خاصة إذا تباطأت البنوك المركزية الرئيسية في اتخاذ ما يلزم من سياسات لاحتواء هذه الأزمة، ومن ثم سيكون الاقتصاد العالمي على شفا دخول مرحلة الركود التضخمي. 

ختاماً، يمكن القول إن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا سيترتب عليه تداعيات وخيمة للاقتصاد العالمي، ستشمل ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وتفاقم أزمة سلاسل الإمداد، وتزايد الضغوط على قطاعات الطيران والسياحة والنقل البحري؛ مما سيحد من نمو الاقتصاد العالمي. وكلما طال أمد الحرب الحالية مع توسع الغرب في فرض عقوبات ضد موسكو؛ ستتزايد خسائر الاقتصاد العالمي، على نحو سيدفعه لموجة من الانكماش المصحوب بالتضخم المفرط.