عرض: باسم راشد – باحث في العلوم السياسية
لا تزال قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 تشغل الرأي العام في الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل تطوراتها المستمرة، والشواهد التي تتكشف يومًا بعد يوم، والتي تشير معظمها إلى تدخل موسكو في توجيه نتائج تلك الانتخابات، لكنها لا تُثبتها بشكل قاطع حتى الوقت الحالي.
وقد انعكس ذلك في الكتابات الأمريكية التي ظهرت في العامين الأخيرين، والتي تضع تلك القضية محورًا لها، ولم يكن كتاب "حقائق ومخاوف: وقائع قاسية من واقع الحياة في المخابرات" لمدير الاستخبارات القومية الأمريكية السابق "جيمس كلابر" سوى أحد تلك الكتابات التي اهتمت بالقضية بشكل واضح ومركّز، حيث يستعرض الكتاب نجاحات وإخفاقات جهاز الاستخبارات الأمريكية عبر أحداث مفصلية، مثل: مقتل السفير الأمريكي لدى ليبيا "كريستوفر ستيفنز" في سبتمبر ٢٠١٢، ومقتل الزعيم السابق لتنظيم القاعدة "أسامة بن لادن" في مايو ٢٠١١، وانتهاءً بالتدخل الروسي المزعوم في انتخابات 2016.
تأكيد التدخل الروسي:
ينظر "كلابر" إلى نفسه على الدوام بأنه "رجل الحقيقة في السلطة"، وقد نشأ في ظل قناعة تشير إلى أن جوهر العمل الاستخباراتي هو الجمع الدقيق للحقائق، وتحليلها بعناية، وتقديمها بكل ثقة لصانعي القرار مهما كانت نتائجها غير سارة لهم.
من هنا، أكد "كلابر" أن جميع المعلومات الاستخباراتية تشير إلى أن روسيا تدخلت بشكل واضح في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ويضيف أن الرئيس "فلاديمير بوتين" الذي كان أحد رجال المخابرات الروسية، قد أشرف على تنفيذ تلك العملية بنفسه.
كما يُشير "كلابر" إلى أن الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" قد طلب من أجهزة الاستخبارات الأمريكية مجتمعة تقريرًا واحدًا مفصَّلًا عمَّا قام به الروس في الانتخابات الأمريكية لعام ٢٠١٦، وبالفعل تم إعداده، وقد أثبت عدة حقائق تؤكد أن "بوتين" أمر بحملة متعددة الأوجه ضد مرشح الحزب الديمقراطي "هيلاري كلينتون". ولعلَّ أبرز تلك الحقائق:
1- قامت مجموعات القراصنة "الهاكرز" التابعة لروسيا باختراق أجهزة وإيميلات مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية الخاصة بـ"هيلاري كلينتون"، واستطاعوا الوصول إلى جميع المعلومات الموجودة بها، مثل: بيانات المانحين، ورسائل البريد الإلكتروني، والرسائل الصوتية.
2- استخدمت روسيا التجسس الإلكتروني ضد المنظمات السياسية الأمريكية، وكشفت علنًا عن البيانات التي جمعتها من خلال مواقع مثل "ويكيليكس" و"جوسيفر 2" وغيرها، كما تم توثيق الاختراقات الإلكترونية الروسية لقوائم الناخبين المحليين في الولايات الأمريكية.
3- استخدمت روسيا ما يُعرف بـ"التدابير النشطة" والدعاية السوداء من أجل التأثير على "كلينتون"، وذلك باستخدام منصاتها الإعلامية مثل "روسيا اليوم" و"سبوتنيك نيوز"، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي أسسوا عليها حسابات مزيفة، للترويج للمعلومات التي تضر بـ"هيلاري كلينتون" في الانتخابات الرئاسية.
4- اعتمدت روسيا على شبكات التواصل الاجتماعي ومنصاتها الإعلامية في شن حملة ترويجية مؤيدة لـ"دونالد لترامب" الذي وجده الروس مرشحًا متوافقًا مع أفكار الرئيس الروسي "بوتين"، ويخدم أهداف روسيا الاستراتيجية، وذلك بأقل تكلفة ممكنة، وبدون ضرر كبير لمصالحها الخاصة.
ويضيف "كلابر" أن عمليات القرصنة الروسية أثرت على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث يؤكد أن أصوات كثير من الولايات الأمريكية تأثرت بهذا الجهد الهائل من جانب الروس.
وبرغم تلك الشواهد، لا يؤكد "كلابر" أنه كان هناك تواطؤ بين حملة "ترامب" -أو المرشح نفسه- وبين الوكلاء الروس، وذلك لأنه ليس لديه دليل يقدِّمه يؤكد هذه المزاعم. لكن ما يصفه "كلابر" بـ"اللا مبالاة العدوانية" التي أظهرها "ترامب" على العرض التفصيلي الذي قدَّمته أجهزة الاستخبارات عن الأنشطة الروسية وتدخلها في الانتخابات الأمريكية، هو في رأيه أكبر دليل على تورطه في هذا الأمر.
ما وراء التدخل:
يؤكد "كلابر" أن مزاعم التواطؤ ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠١٦ تعد ثانوية بالنسبة للتهديد العميق الذي تفرضه روسيا على النظام الأمريكي؛ إذ إن "بوتين" مقتنع بأن الولايات المتحدة تتحمل على نحوٍ ما المسئولية عن تقويض انتصار حزبه في الانتخابات البرلمانية الروسية عام 2011، والتي أعقبتها احتجاجات واتهامات واسعة بالاحتيال.
ويعترف "كلابر" بأنه في حالات أخرى كثيرة، حاولت الولايات المتحدة التأثير على الانتخابات، وتغيير الأنظمة في دول مختلفة، ويستشهد في ذلك بتقرير للباحث بجامعة كارنيجي ميلون "دوف ليفين" يشير إلى جهود واشنطن للتدخل في 81 انتخابات أجنبية بين عامي 1946 و2000. لكن رجل المخابرات السابق يبرر ذلك بقوله: "ببساطة، لطالما نظرت إلينا تلك الأنظمة على أننا "الأخيار"، ونحن كان لدينا على الأقل نوايا نبيلة من هذا التدخل".
أما بالنسبة لروسيا، فمن المؤكد أن الرئيس الروسي لم يكن ينظر إلى الأمريكيين على أنهم "الأخيار"، وبعد عام 2011 كان لديه عداء خاص تجاه وزيرة الخارجية -آنذاك- "هيلاري كلينتون" التي أعربت عن "مخاوف جدية" بشأن إجراء تلك الانتخابات البرلمانية الروسية. ومن ثم حينما أعلنت "كلينتون" ترشحها للرئاسة في عام 2015، قرر "بوتين" رد الضربة بقوة لها.
وبحلول ذلك الوقت، كان ضم موسكو لشبه جزيرة القرم والحرب الدموية في أوكرانيا، قد أدى إلى عزل موسكو وتوقيع العقوبات عليها، لذا رأى "بوتين" أنه لو فازت كليتون في الانتخابات الرئاسية فإن العقوبات الدولية المفروضة على موسكو ستستمر، لكن على الجانب الآخر أعرب المرشح "ترامب" عن رغبته في التقارب مع "بوتين".
وقد دفع ذلك الأمر روسيا إلى دعم "ترامب" بقوة من أجل تحقيق أهداف روسيا الاستراتيجية، مثل: حل حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)، وتفكيك الاتحاد الأوروبي، بل والتشكيك في قدرة المؤسسات الأمريكية على حماية نفسها من الاختراق، والتشكيك في مصداقيتها من خلال تشكيك "ترامب" الدائم في تقارير المؤسسات الديمقراطية والأمنية الأمريكية.
تشكيك "ترامب" في المخابرات:
يؤكد "كلابر" أنه أُثيرت ضد "ترامب" العديد من الملفات الشائكة منذ أن أعلن ترشحه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وحتى الآن، ومن أبرز ما ظهر ضده الملف الشهير الذي جمعه الجاسوس البريطاني "كريستوفر ستيل"، والذي عرض فيه بالتفصيل علاقة "ترامب" بالكرملين، ووصف المؤامرة بين الرئيس الأمريكي والروس بأنها "ضخمة للغاية"، كما أشار إلى العلاقات النسائية لـ"ترامب".
لكن الرئيس "ترامب" قرر أن يُشكك في التقرير بأكمله قبل أن يراه بشكل كامل وتفصيلي، مدعيًا أنه كان مجرد مؤامرة من قبل الديمقراطيين لتبرير خسارتهم في الانتخابات، كما شكك في موثوقية وقدرات المجتمع الاستخباراتي كله، مؤكدًا أنهم يعتمدون على معلومات غير موثوقٍ في صحتها، ولا يوجد أي إثبات عليها.
ويُشير "كلابر" في كتابه إلى العديد من الوقائع عن الفشل العلني لأجهزة الاستخبارات الأمريكية منذ حرب فيتنام وحتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، والتي قد تدعم -بشكل غير مقصود- وجهة نظر "ترامب" في تشكيكه في عمل المخابرات الأمريكية.
ويُشير "كلابر" إلى أن جواسيس الولايات المتحدة أخطئوا في انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1989، كما فشلوا في نظرتهم لـ"صدام حسين" بأنه كان يخادع بشأن غزو الكويت في عام 1990، وفشلوا في التنبؤ بأي هجوم محتمل لتنظيم "القاعدة" على الولايات المتحدة في سبتمبر 2001، وقد أساءوا بشكل كامل استخدام الأدلة المتوافرة حول أسلحة الدمار الشامل المفترضة لدى "صدام حسين" في العراق، والتي أعطت إدارة "جورج دبليو بوش" الذريعة التي أرادتها لغزو العراق عام 2003، مع كل العواقب الكارثية التي أعقبتها.
ويُضيف أن مجتمع المخابرات لم يكتشف أو يوقف تدفق الوثائق السرية للجيش الأمريكي التي سربتها "تشيلسي مانينغ" إلى ويكيليكس، والتي كانت "محرجة"، كما قال "كلابر". كما غابت الاستخبارات تمامًا عن الأنشطة الأكثر إضرارًا التي قام بها "إدوارد سنودن"، وغيره من الذين هرّبوا بكميات كبيرة أسرار الولايات المتحدة الأكثر تحفظًا حول عمليات المخابرات. ثم فشلت الوكالات السبع عشرة في جهاز الاستخبارات في توقع هزيمة الجيش العراقي من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عندما استولى على الموصل في عام 2014.
ومن واقع كل مظاهر الفشل لأجهزة الاستخبارات الأمريكية الذي عرضه "كلابر" في كتابه، من الممكن تمامًا أن يشكك "ترامب" في مصداقية التقارير والمعلومات التي ترد منها، كما يمكن أن يجادل بشكل أكبر بأنهم لا يعرفون غالبًا ما يتحدثون عنه، وبالطبع قد يجد صدى إيجابيًّا لذلك التشكيك المستمر.
لكن الوضع يزداد سوءًا في واقع الأمر بالنسبة لمجتمع الاستخبارات في ظل إدارة "ترامب"، لأن منتجهم الأساسي قد أصبح فاقدًا لمصداقيته في ظل عدم وجود أدلة على ما يقدمونه، وآخرها تواطؤ حملة "ترامب" مع روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
بالإضافة إلى ذلك فإن "ترامب" يريد أن يقنع مؤيديه المتشددين بأن أشخاصًا مثل "كلابر" ورجال ونساء مجتمع المخابرات وإنفاذ القانون الذين عمل معهم "كلابر" لسنوات عديدة مثل "جيمس كومي" و"روبرت مولر"، كانوا يمثلون السلطة الحقيقية في البلاد قبل تولي "ترامب" السلطة، أما الآن فهو، أي "ترامب"، الوحيد الذي يقول الحقيقة للمجتمع الأمريكي.
مستقبل أمريكا في خطر:
يشير "كلابر" إلى أن انتخاب "دونالد ترامب" رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية كان -ولا يزال- له آثار سلبية على مستقبل الولايات المتحدة من عدة نواحٍ، منها:
أولًا- أنه شكك في مصداقية المؤسسات الأمنية الأمريكية وأثَّر بالسلب على المؤسسات الديمقراطية الأمريكية بشكل عام.
ثانيًا- أنه يساهم بشكل كبير في إذكاء حالة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي؛ خاصة أن "ترامب" يحقق نجاحات على بعض المستويات، ومن ثم فإن المتشددين لصالحه يؤكدون أنه يحقق إنجازات ملحوظة في السياسة الأمريكية، فيما على الجانب الآخر فإن الرئيس الأمريكي يتعرض لضغوط قانونية متزايدة من خلال التحقيق الذي يجريه المحقق الخاص المكلف من قبل وزارة العدل الأمريكية للتحقيق في مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية "روبرت مولر".
ثالثًا- يساهم "ترامب" في تحقيق أهداف "بوتين" الاستراتيجية، وأهمها حل حلف الناتو، أو على الأقل خروج الولايات المتحدة منه، واعتماد الدول الأوروبية على نفسها كما أكد "ترامب" مرارًا، ومن ناحية أخرى تفكيك الاتحاد الأوروبي، فقد كان "ترامب" من أوائل المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد، ومن ثم فإن تحقيق هذه الأهداف سيؤثر على مصير الولايات المتحدة، ويُقوِّض نفوذها كقوة عظمى، وسيعطي المساحة الأكبر لموسكو لاستعادة مكانتها ونفوذها في النظام الدولي.
واختتم "كلابر" كتابه بجملة تُعبر عن حالة الانقسام والانهيار التي تواجه الولايات المتحدة في عهد "ترامب"؛ إذ يصف مشاهدة مقطع لنفسه في برنامج حواري فيقول: "عندما نظرت إلى تسجيل ذلك المقطع، شعرت بالتعب، لكن هذه المرة لم أكن متعبًا من العمل على مدار الساعة لعدة أشهر، لكن لأن رحلتي التي بلغت 76 عامًا قد دفعتني إلى مكان يجب أن يكون المنزل، ووجدت أن أساسات هذا المنزل بدأت تنهار، وكانت الأعمدة التي دعمت سقفه تهتز".
المصدر:
James R. Clapper and Trey Brown, Facts and Fears: Hard Truths from a Life in Intelligence, (New York: Viking, 2018).