انعكاسات مباشرة:

كيف تتعامل الحكومة الجزائرية مع الضغوط الاقتصادية؟

17 October 2017


أثارت حزمة السياسات المالية التي تبنتها الجزائر مؤخرًا لتمويل عجز الموازنة العامة مخاوف لدى العديد من الأوساط الاقتصادية من أن تؤدي إلى زيادة معدل التضخم بوتيرة سريعة وبما سيؤثر بشدة على المستويات المعيشية في الفترة المقبلة، وهو ما يتزامن مع تراجع الحكومة عن خطط الانفتاح الاقتصادي التي أعلنتها في العامين الماضيين وتبنيها مجموعة من الحلول التي قد تفرض تداعيات اقتصادية عديدة خلال الفترة المقبلة.

وفي الآونة الأخيرة، وضعت الحكومة خطة لسد الفجوة التمويلية للموازنة العامة تعتمد على طباعة البنك المركزي للنقود لمدة خمس سنوات مقبلة، بجانب حزمة إصلاحات أخرى تشمل زيادة أسعار الوقود مجددًا وزيادات ضريبية أخرى. ومن شأن تطبيق هذه الآليات معًا أن تؤدي إلى ارتفاع مستويات التضخم في ظل الزيادة المتوقعة للمعروض النقدي.

وعلى ضوء ذلك، رجحت اتجاهات عديدة أن تقود تلك السياسات لاحقًا إلى تدهور الثقة في بيئة الاستثمار والاقتصاد بشكل عام، ومن ثم فإن الجزائر، على ما يبدو، بحاجة للتخلي عن الحذر في الانفتاح على الاقتصاد العالمي وتشجيع القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب على المشاركة في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وبما قد يساهم في دعم القطاعات غير النفطية وتوفير السيولة المالية لتنفيذ المشروعات التنموية.

تأثيرات بارزة:

 فرض هبوط الأسعار العالمية للنفط منذ منتصف عام 2014 تأثيرات مباشرة على الاقتصاد الجزائري، حيث أدى تراجع عائدات صادرات النفط إلى زيادة وتيرة عجز الموازنة العامة والانخفاض الشديد في العملة المحلية بالتوازي مع هبوط الاحتياطيات المالية للدولة، وبما دفع الحكومات المتعاقبة على مدار الأعوام الثلاثة الماضية إلى إعادة النظر في النموذج الاقتصادي للبلاد القائم على دور الدولة في تنفيذ المشروعات التنموية.

 ومن هنا، أدركت تلك الحكومات ضرورة تشجيع القطاع الخاص ليس بهدف توفير السيولة المالية لاستدامة تنفيذ المشروعات التنموية في البلاد فحسب، وإنما أيضًا لتطوير القطاعات غير النفطية. لكن على ما يبدو، لم يكن هناك اتجاه بارز لتشجيع الانفتاح الاقتصادي في البلاد، وهذا ما انعكس بدوره في ثلاثة مؤشرات رئيسية خلال الفترة الماضية: يتمثل أولها، في اتجاه الحكومة الحالية برئاسة أحمد أويحى إلى الاعتماد على التمويل عبر البنك المركزي لسد عجز الموازنة العامة في البلاد، متخلية بذلك عن وسائل التمويل الأخرى مثل الاقتراض الخارجي.

ويتصل ثانيها، باستمرار جمود التشريعات الاقتصادية بما لا يجذب الاستثمارات الأجنبية في البلاد. ورغم إقرار الحكومة لأهمية تعديل قانون النفط بهدف جذب المستثمرين الأجانب، إلا أنها أكدت، في أكتوبر الماضي، أنها ستُبقي، حال إصدار قانون جديد، على قاعدة تخصيص 51% من الملكية للحكومة مقابل 49% للمستثمرين، والتي ثبت عدم فعاليتها في جذب شركات النفط الأجنبية في جولات امتيازات النفط في الأعوام الماضية، لا سيما في عام 2014، عندما أرست الجزائر أربعة عقود فقط من بين 31 امتيازًا للنفط والغاز.

وينصرف ثالثها، إلى تراجع الحكومة عن دعم القطاعات غير النفطية مثل قطاع السيارات، الذي يعد أكثر القطاعات جذبًا للمستثمرين نظرًا لكبر حجم سوق الاستهلاك المحلي. وفي هذا الصدد، أصدرت الحكومة، في 31 يوليو الماضي، قرارًا بوقف تقديم الرخص لمشاريع تجميع السيارات مع استنزاف استيراد مكونات السيارات للنقد الأجنبي. ورغم موضوعية دوافعها في اتخاذ ذلك القرار في الوقت الراهن، إلا أنه يمثل تهديدًا لصناعة يمكن تطويرها وزيادة تنافسيتها على المدى الطويل بالتعاون مع الشركاء الأجانب.

آليات مختلفة:

وفي هذا السياق، لجأت الحكومة الجزائرية لمجموعة من الحلول التي يمكن أن تنتج ضغوطًا تضخمية في البلاد خلال الفترة المقبلة، ويتمثل أبرزها في:

1- طباعة النقود: مع استبعاد إمكانية الاقتراض الخارجي، خاطرت الحكومة مؤخرًا بالاتجاه نحو تمويل عجز الموازنة العامة عبر طباعة النقود من قبل البنك المركزي أو ما يعرف بـ"عمليات السحب على المكشوف" لتوفير احتياجاتها التمويلية في الفترة المقبلة، ويأتي ذلك بعد موافقة البرلمان، في أكتوبر الجاري، على تعديل قانون النقد والقرض الذي سيسمح للحكومة بالاقتراض من البنك المركزي على مدار السنوات الخمس القادمة. وبحسب تقديرات الحكومة، من المتوقع أن يبلغ عجز الموازنة في عام 2018 نسبة 9% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، أى بما يناهز 21 مليار دولار.

2-إصلاحات مؤثرة: تحت وطأة الضغوط المالية، تواصل الحكومة خطتها نحو إعادة هيكلة الإنفاق والإيرادات العامة. ووفق خطة الموازنة عام 2018، من المقرر أن تشهد أسعار البنزين والديزل المدعومة للعام الثالث على التوالي زيادة كبيرة وذلك من أجل تقليص الاستهلاك المحلي والواردات، في الوقت الذي قدرت فيه وفورات زيادات أسعار الوقود في العام الماضي بمبالغ ضئيلة لا تتجاوز 372 مليون دولار.

كما  تخطط الحكومة لتبني حزمة جديدة من الإصلاحات الضريبية ستشمل استحداث رسوم جديدة على سلع محلية ومستوردة مثل التبغ في العام المقبل، بالإضافة إلى فرض ضريبة على الثروة، وذلك بعد أن زادت الحكومة في موازنة عام 2017 ضريبة القيمة المضافة من 17% الى 19%  وكذلك الرسوم على العقارات والوقود والتبغ واستحداث رسم على الأجهزة الكهربائية التي تستهلك الكثير من الطاقة.

3- استخدام الاحتياطيات المالية: مع هبوط أسعار النفط منذ عامين، شهدت الاحتياطيات المالية للجزائر استنزافًا تدريجيًا، حيث بلغت 108 مليار دولار في منتصف 2017 مقارنة بـ192 مليار في منتصف عام 2014. وعلى ضوء ذلك، تعرض الدينار الجزائري لضغوط متواصلة طيلة العامين الماضيين وليصل حاليًا إلى نحو 115 دينار للدولار الواحد، بما يشكل انخفاضًا بنسبة 45% عن قيمته في عام 2014.

 ومع استمرار هبوط العملة المحلية، انتعشت عمليات شراء وبيع العملات الأجنبية في السوق الموازية بدعم من اتجاه الأفراد لتحويل مدخراتهم للعملات الأجنبية وليصل حجمها إلى حوالي 6 مليار دولار في الفترة الماضية، ونجم عن ذلك زيادة الفجوة بين سعر الصرف في السوقين الرسمي والموازي إلى حدود 60% بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي في يونيو الماضي.  

مخاطر محتملة:

   وفي واقع الأمر، فإن الآليات التي تبنتها الحكومة في معالجة التشوهات الاقتصادية الراهنة لا تقدم إلا حلولاً قصيرة الأجل، ومن المتوقع أيضًا، وفقًا لاتجاهات عديدة، أن تفرض تداعيات سلبية على الاستقرار الاقتصادي والنقدي في البلاد خلال الفترة المقبلة. وثمة مخاوف متنامية لدى الأوساط الاقتصادية من أن السياسات الراهنة ستسفر عن ارتفاع معدل التضخم في العامين القادمين، ومن ثم تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الذي سيكون له انعكاسات سلبية على المستويات المعيشية.

معدل التضخم السنوي في الجزائر (%)  

               

المصدر: البنك الدولي، المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أكتوبر 2017

وقد كان تدهور قيمة الدينار الجزائري احتمالاً متوقعًا في إطار سياسة تمويل الموازنة العامة عن طريق طباعة النقود، والتي ستؤدي إلى تضاعف المعروض النقدي دون أن تقابله زيادة موازية في السلع والخدمات، وهو ما سيقود إلى ارتفاعات متوالية في أسعار السلع والخدمات. ومما قد يزيد من أعباء التضخم توجه الحكومة أيضًا نحو رفع المستويات الضريبية وزيادة أسعار الوقود في الفترة المقبلة.

وبناءً عليه، ستظل توقعات الحكومة بوصول التضخم في العام المقبل إلى 5.5% محل شك كبير، حيث قد يصل إلى ضعف هذه المستويات، وهو أمر من شأنه ليس انخفاض القوى الشرائية للمواطنين فقط، وإنما أيضًا فقدان الثقة الدولية في بيئة الأعمال في وقت تحتاج فيه الدولة بشدة لجذب الاستثمارات الأجنبية خلال المرحلة القادمة.