تراجع لا مراجعة:

نهضة تونس حين تُبعد الدعوى عن السياسي

22 May 2016


لا يمكن فهم الخطوة التي أقدم عليها راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية بإبعاد العمل "الدعوي" عن "السياسي" في قابل الأيام، بعيداً عن الظروف المحلية والإقليمية الصعبة التي تمر بها هذه الحركة التي حازت السلطة بعد رحيل الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي"، وبعدها زحزحها الشعب التونسي عنها. فحال حركة النهضة الآن، بعد أن تراجعت شعبيتها، وما جرى لجماعة الإخوان في مصر، وما ألحقته التنظيمات السلفية الجهادية في ليبيا وسوريا واليمن والعراق من عار بمسار "الإسلام السياسي" كله، ربما هو الذي أجبر الغنوشي على أن يعلن هذا فجأةً، ومن دون أي مقدمات.

تبدو هذه هي القراءة المباشرة لهذا الحدث، الذي ذهب البعض في الترحيب به إلى درجة اعتباره انقلاباً أو ثورة في مسار الحركات التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، لكن إمعان النظر فيها يستوجب الذهاب في مسارات أخرى، يجود بها التحليل، في ظل نقص المعلومات الدقيقة عن الخلفيات التي شكلت أسباباً ودوافع حدت بالغنوشي إلى الذهاب في هذه الطريق الوعرة.

وهنا يمكن أن فهم تلك الخطوة في ركاب التصورات الآتية:

1- مبادرة ذاتية: أي أن الغنوشي قال ما قاله، وعزم على أن يفعل ما نطق به، من تلقاء نفسه، وربما بالتشاور مع الدوائر الضيقة المحيطة به في حركة النهضة نفسها، لكنه لم يطلع التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، التي تعد النهضة أحد فروعه، على هذه الخطوة، وإنما فاجأه بها، مثلما فاجأ الجميع. ولو كان الأمر كذلك، فمن المتوقع أن تحارب "الجماعة الأم" في مصر خطوة الغنوشي، وترى أنها تخصه وحده، والجماعة إما أن تعلن عن هذا الرفض جهاراً نهاراً، أو تبديه في إطار داخلي. ولا يُعول في هذا على قيام مجموعة إخوانية بالترحيب بإعلان الغنوشي، فهذه مجموعة هامشية في الإخوان، إذ إن ركائز القوة المالية والتنظيمية والسياسية والرمزية ليست في يدها.

2 ـ مبادرة مُتفق عليها، وهنا يمكن النظر في احتمالين على النحو التالي:

أ- أن يكون ما أقدم عليه الغنوشي هو إجراء وقع ضمن القاعدة التي اتفقت عليها جماعة الإخوان منذ عقدين من الزمن، على الأقل، وهو أن تترك "الجماعة الأم" في مصر، لفروعها في مختلف البلدان أن ترتب وتوفق أوضاعها حسب الظروف المحلية التي تمر بها، بما يحافظ على وجودها وتمددها وتحركها نحو الهدف الأساسي، وهو الانتقال من مرحلة "الصبر" إلى مرحلة "التمكن"، والاتجاه إلى إقامة ما يُسمى "أستاذية العالم".

ب- أن تكون خطوة أولية متفقاً عليها بين قيادات التنظيم الدولي، تبدأ بتونس، ولا تنتهي فيها، إنما تنتقل تباعاً إلى فروع الجماعة في بلدان أخرى، حتى تأتي إلى الجماعة الأم في مصر، التي تعيش مأزقاً حقيقياً، وتبحث عن مخرج، ويبحث معها أولئك الذين وظفوها "حصان طروادة" ضد الدولة المصرية منذ أن أنشأت المخابرات البريطانية تنظيم الإخوان في عام 1928 وحتى الآن، فتعلن هي الأخرى خطوة من هذا القبيل، بغية تعويم نفسها اجتماعياً وسياسياً.

في الحالتين، يبدو ما أقدم عليه الغنوشي تراجعاً وليس مراجعة، فهو لم ينطق بما يصنع قطيعة معرفية وسياسية مع الماضي، إنما تلاعب بالألفاظ، من حديث عن "إسلام سياسي" إلى "مسلمين ديمقراطيين"، وهو هنا لم يأت بجديد، إذ إن ادعاء التنظيمات والجماعات السياسية ذات الإسناد الديني بأنها ديمقراطية هو ادعاء دائم. وكل ما وعد به الغنوشي هو أن يكون هناك من يعملون بالسياسة، وهناك من يعملون بالدعوة الدينية، داخل الحركة نفسها، ومن الناحية التطبيقية لا يوجد أي ضمان بألا تختلط الأدوار.

والغنوشي نفسه، كفرد، سبق أن تراجع كثيراً عن الأفكار التي ساقها في المجال السياسي والفكري العام منذ تسعينيات القرن العشرين وحتى عودته من المنفى إلى تونس عقب الإطاحة بـ"بن علي"، إذ ذهبت عنه نزعته الإصلاحية، وبدا وكأن كل ما كتبه ونشره من قبل، كان مجرد دعايات لا يؤمن بها، أو محاولات لتسويغ وجوده في الخارج.

وربما لم يتخل الغنوشي عن أفكاره، لكنه استسلم للرؤى المحافظة والمتسلفة لأعضاء حركة النهضة في الداخل، الذين لم يتطوروا بالقدر الكافي، وفرضوا تصورهم على الجميع على مدار السنوات الخمس الماضية. وعندها لا يوجد أيضاً ما يضمن ألا يفرض هؤلاء رؤيتهم من جديد، وهي رؤية لا ترى أي انفصال بين السياسي والدعوي في مسار حركة النهضة ومصيرها، ما يعني أنهم سيتصدون للغنوشي ويفرغون إعلانه تباعاً من مضمونه، لينضم إلى ما اعتادته الجماعات الدينية من هوة واسعة بين القول والفعل، وبين الخطاب والممارسة.

يزيد على هذا أن راشد الغنوشي لم يتحدث عن فصل الدين عن السلطة السياسية، ولا حتى التمييز الواضح بين المجالين، إنما قام بتوزيع الأدوار داخل جماعته، وهو أمر طالما تتشدق به الدعوة السلفية في مصر أيضاً، التي تقول طيلة الوقت إنها لا تتدخل في أعمال حزب النور، الجناح السياسي لها، وأن جهدها منصب على الدعوة، بينما الواقع عكس ذلك طيلة الوقت، وهو أمر لا يُعتقد أن تدابير وتصرفات حركة النهضة ستختلف عنه في المستقبل، لتبقى خطوة الغنوشي الأخيرة مجرد حملة علاقات عامة للداخل التونسي وللخارج أيضاً.