تحديات مستقبلية:

توظيف "العقوبات المالية" في مواجهة المخاطر

30 June 2016


إعداد: أحمد عبدالعليم

ثمة حاجة ماسة إلى وجود نظام مالي عالمي قادر على محاصرة أي معاملات مالية مشبوهة يمكن أن تؤثر بشكل كبير على الاستقرار والسلم الدوليين، مثل تلك المعاملات المتعلقة بتمويل أعمال إرهابية أو أنشطة تتعلق بالأسلحة النووية أو غيرها من الأعمال الأخرى التي يجرمها المجتمع الدولي.

وانطلاقاً من ذلك، تأتي الدراسة المُعنونة: "التكاليف الحقيقية للعقوبات المالية"، والتي أعدها "أرون أرنولد" Aaron Arnold، باحث مشارك في مشروع إدارة الذرة بمركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية في جامعة هارفارد، حيث يتطرق إلى العقوبات المالية كآلية مستخدمة في السياسة الخارجية الأمريكية، مع تقييم قدرة النظام المالي العالمي على مواجهة المخاطر المرتبطة بالأنشطة غير المشروعة، وصولاً إلى تحديد التكاليف المرتبطة باستمرار العقوبات المالية كوسيلة لمحاصرة أي عمليات مشبوهة مستقبلاً.

العقوبات المالية كأداة للسياسة الخارجية

في صيف عام 2015، قامت مجموعة (5+1)، التي تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والصين ومعها ألمانيا، بعقد اتفاق تاريخي مع إيران بشأن برنامجها النووي، وشمل الاتفاق تخفيف العقوبات التي وقُعت على طهران في فترات سابقة، وأثَّرت بشكل كبير على الاقتصاد الإيراني. ويؤكد الكاتب أن العقوبات الاقتصادية والمالية كانت أداة ناجحة وفعَّالة في الضغط على إيران من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات السياسية.

وكانت الولايات المتحدة قد بدأت في عزل إيران عن النظام المالي العالمي منذ عام 2006 رداً على أنشطتها النووية واتهامها بدعم الإرهاب والقيام بانتهاكات ضد حقوق الإنسان، وقد شمل تخفيف العقوبات مؤخراً رفع الحظر المفروض على قطاعات النفط في إيران، فضلاً عن توفير إمكانية الوصول إلى عشرات المليارات من الدولارات المُجمدة خلال السنوات السابقة، علاوةً على أن طهران باتت أكثر قدرة على النفاذ إلى النظام المالي العالمي من خلال رفع الحظر على البنوك الأجنبية التي تجري تعاملات مالية مع البنك المركزي الإيراني.

وهكذا، يرى الباحث أن العقوبات المالية تعتبر إحدى أدوات السياسة الخارجية المُفضلة للولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة من أجل مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التصدي لانتشار التطرف العنيف أو معاقبة الدول التي تقوم بانتهاكات ضد حقوق الإنسان. وتعتمد واشنطن في تطبيق ذلك على هيمنتها على بنية النظام المالي العالمي، حيث تمثل الولايات المتحدة نحو (23%) من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ناهيك عن أن (60%) من الناتج العالمي يرتبط بالدولار.

البنوك لاعب رئيسي ضد الإرهاب

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، اكتسب استهداف الأنشطة المالية غير المشروعة زخماً كبيراً خاصةً في ظل نجاح الجماعات الإرهابية في إجراء تبادلات مالية، وقد ترتب على ذلك إصدار "قانون باتريوت" الأمريكي الذي طلب من المصارف والمؤسسات المالية التدقيق في سجلات كل عميل، والمراجعة الشاملة على أي معاملات مالية مشبوهة. وبالتالي باتت البنوك هي اللاعب الرئسي في الحرب ضد الإرهاب، حيث منحها هذا القانون قدرة الضغط على الجهات الفاعلة من غير الدول والأنظمة الاستبدادية المارقة. وكانت البنوك مضطرة للعب ذلك الدور من أجل ألا تفقد وجودها ضمن النظام المالي الأمريكي.

كما أن البنوك إذا لم تقم بتنفيذ العقوبات المفروضة على بعض الدول، كان يتم معاقبتها، مثلما حدث في عام 2005 عندما قامت إدارة الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش" بإجراءات ضد بنك "دلتا آسيا" الصيني نظراً لدوره في الأنشطة غير المشروعة لكوريا الشمالية. وفي عام 2007 قامت البنوك الأمريكية بقطع كل العلاقات مع بنك "دلتا آسيا"، وتم تجميد حساباته في النظام المصرفي الأمريكي، بما أثّر سلباً على التعاملات الدولية للبنك.

وتزامناً مع ذلك، قامت المؤسسات المالية الأجنبية الأخرى بقطع علاقاتها مع هذا البنك من جانب واحد، ومنها كذلك البنوك الصينية التي شعرت على نحو متزايد بالقلق إزاء احتمال استبعادها من النظام المصرفي الأمريكي. وكانت تلك الإجراءات بمثابة عُزلة لكوريا الشمالية عن النظام المالي العالمي، وجعلتها أكثر مرونة في تقديم تنازلات سياسية.

حماية النظام المالي العالمي ضد الانتشار النووي

تشير الدراسة إلى الأموال غير المشروعة المتدفقة عبر الشركات أو المؤسسات الوهمية باعتبارها أحد أبرز الأدوات التي يتم من خلالها عمل أسلحة نووية، وتدلل على ذلك بأن الأب الروحي للبرنامج النووي الباكستاني عبدالقدير خان كان قد نجح في مطلع سبعينيات القرن الماضي في بناء شركات وهمية يقوم من خلالها بالحصول على المواد اللازمة لعمل المفاعل النووي الباكستاني. كذلك فإنه خلال حقبة الثمانينات، كانت هناك العديد من البنوك السيئة التي تدير أنشطة غير مشروعة من خلال جمعيات خيرية مُعفاة من الضرائب، بهدف دعم أنشطة مشبوهة تتعلق بالأسلحة النووية.

وبالرغم من أن أغلب تلك العمليات قد توقف خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي بيد أن ثمة تدفقات هائلة من التجارة العالمية مازالت متعلقة بالطلب المستمر على الصواريخ والتكنولوجيا النووية، ما يعتبر تحدياً كبيراً للدول، وهو ما دفع مجلس الأمن الدولي، في عام 2004، إلى إصدار القرار رقم (1540)، والذي يؤكد على ضرورة أن تمتنع جميع الدول عن تقديم أي شكل من أشكال الدعم للجهات التي تحاول استقدام أسلحة نووية أو كيميائية أو بيولوجية، مع اتخاذ التدابير الفعَّالة لمنع انتشار هذه الأسلحة أو استخدامها خاصةً في الأعمال الإرهابية. كذلك فإن القرار قد تضمن وضع ضوابط على الأموال أو الخدمات المالية التي يمكن أن تُستغل في هذا الشأن.

تكاليف العقوبات المالية

يرى الكاتب أن نجاح العقوبات المالية يرتبط بشكل كبير بهيمنة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية والبنوك المختلفة، بما يُشكل ضغطاً هائلاً ليس فقط لفرض حظر تجاري من جانب واحد، ولكن لعزل أي خصم عن النظام المالي العالمي بأسره. ولكن ثمة بعض التكاليف المرتبطة بآلية العقوبات المالية والتي قد تحد من قدرة الولايات المتحدة على توظيفها في المستقبل، وتتمثل في الآتي:

1- ارتفاع تكلفة المخاطر للبنوك: إذ إن امتثال البنوك للقواعد الصارمة التي تفرضها الولايات المتحدة تجعلها عُرضة لمخاطر جمَّة، تصل للحدّ الذي تقوم فيه بعض البنوك التجارية بإغلاق فروعها نظراً لتكبد تكاليف كبيرة إثر الامتثال للعقوبات المالية. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، فرضت الولايات المتحدة غرامات كبيرة على العديد من البنوك التي انتهكت العقوبات المفروضة على بعض الدول، حتى أنه في عام 2014 قامت واشنطن بتوقيع غرامة مالية بلغت نحو 9 مليار دولار ضد بنك "بي إن بي باريبا" الفرنسي نظراً لعدم احترامه لقانون فيدرالي أمريكي يمنع التبادلات التجارية والصفقات المالية مع ثلاث دول وهي كوبا وإيران والسودان. وحدث نفس الأمر أيضاً مع بنك "كريدي أجريكول" مؤخراً الذي اضطر إلى دفع غرامة بلغت حوالي (330) مليون دولار بسبب انتهاكات متُعمدة بتمرير معاملات إيرانية عبر النظام المالي الأمريكي.

وفي ذات السياق، تُبرز الدراسة أنه في مقابل تكثيف الجهود الدولية لملاحقة أي أنشطة مشبوهة أو غير مشروعة، فإن هناك تطوراً كبيراً في عمليات غسيل الأموال من خلال إخفاء مصادر العائدات غير المشروعة، وعبر استخدام وسطاء وشركات وهمية. وبالتالي، فإن البنوك باتت أقل قدرة على الوصول إلى المعلومات الحقيقية للمستخدم النهائي.

2- البحث عن نظام مالي بديل: فقد أدى استبعاد بعض الدول من النظام المالي العالمي إلى محاولة بعضها الحدّ من احتكار الغرب للنظام المالي القائم. فعلى سبيل المثال، تحاول روسيا اتخاذ تدابير وقائية لتطوير البدائل الشرعية للنظام المالي العالمي الحالي، وذلك من خلال السعي إلى خلق مؤسسات جديدة تواجه المؤسسات المالية الغربية. وأبرز مثال على ذلك، "تجمع البريكس" الذي يسعى إلى مواجهة هيمنة الغرب على النظام المالي العالمي. وفي ذات السياق، فإن الصين تحاول أن تُعظم من قيمة عملتها في التجارة العالمية في مواجهة هيمنة الدولار، وقد بذلت جهوداً كبيرة حتى باتت العملة الصينية تمثل ما يقرب من (2.5%) من المدفوعات العالمية.

ختاماً، تخلص الدراسة إلى أن العُزلة التي تتعرض لها بعض الدول من خلال العقوبات المالية الكبيرة يمكن أن تقوض من استراتيجية نجاح هذه العقوبات مُستقبلاً، وذلك من خلال محاولة هذه الدول الخروج من النظام المالي العالمي الحالي، وخلق أخر بديل، وهو ما لفت انتباه وزارة الخزانة الأمريكية إلى مخاطر العقوبات المالية المفرطة التي تكون دون مبررات كافية أو أسباب غير جديّة، خاصةً وأن ثمة توجُّهاً من جانب بعض الدول إلى تجنب القيام بأيَّة عمال تجارية في الولايات المتحدة أو بالدولار كخطوة وقائية ضد أي عقوبات مالية محتملة.

ويؤكد الكاتب على ضرورة إحداث تغييرات جذرية في النظام المالي العالمي القائم، وأن يكون ذلك مُقترناً بآليات أكثر فاعلية في مواجهة أي أنشطة غير مشروعة، وبقواعد ومعايير أكثر مصداقية ومرونة.


* عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان: "التكاليف الحقيقية للعقوبات المالية"، والصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) في يونيو 2016.

المصدر:

Aaron Arnold, The True Costs of Financial Sanctions, Survival: Global Politics and Strategy, vol. 58, no. 3, (London: The International Institute for Strategic Studies, June- July 2016) pp 77-100