بناء الثقة!

دوافع الهند والصين للاتفاق على إنهاء المواجهة العسكرية في جبال الهمالايا

13 November 2024


في محاولة لتسوية النزاع الحدودي المُعقَّد بين الهند والصين، أعلنت الدولتان بشكل متزامن في أواخر شهر أكتوبر 2024، عن توصلهما إلى اتفاق بشأن حل أزمة المناطق الحدودية المتنازع عليها. يتضمن الاتفاق إجراءات لتسيير دوريات عسكرية على طول الخط الفاصل بين هذه المناطق، أو ما يُطلَق عليه خط السيطرة الفعلية، في جبال الهيمالايا؛ وذلك بهدف "إنهاء الارتباط"؛ ومن ثم تسوية الخلافات التي شهدتها هذه المناطق على خلفية المواجهات العسكرية المباشرة على طول حدود الدولتين في غرب جبال الهيمالايا في عام 2020، والتي ترتب عليها تدهور العلاقات الثنائية بين نيودلهي وبكين إلى أدنى مستوياتها.

وفي حين لا يزال النزاع الحدودي الأكبر بين الدولتين من دون حل؛ فإن الاتفاق يسمح باستئناف الدوريات على طول الحدود في منطقة لاداخ من قِبَل جنود الدولتين؛ مما يسمح لكل منهما بتأكيد مطالباتها الإقليمية، ولكن مع ضمان التزام كل طرف بالاتفاق الذي تم التوصل إليه؛ الأمر الذي قد يُمهِّد الطريق لتحسين العلاقات السياسية والتجارية بين العملاقين الآسيويين، ولكنه يتطلب المزيد من الجهود إذا ما كانت هناك إرادة فعلية لإنهاء هذا النزاع الحدودي الأكثر تعقيداً واستمراراً.

جهود متواصلة رغم الخلافات:

أشار تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية في نوفمبر 2023، إلى أن الحدود بين الصين والهند، والتي تمتد عَبْرَ جبال الهيمالايا، تُعد أطول حدود دولية متنازع عليها في العالم، وأدت إلى توتُّر العلاقات بين نيودلهي وبكين على مدى سبعة عقود. ففي عام 1959، اقترحت الصين إقامة حدود فعلية، يُطلَق عليها خط السيطرة الفعلية، وهو الاقتراح الذي وافقت عليه الهند رسمياً في عام 1993، باعتباره آلية مؤقتة لتسوية الخلاف الحدودي بين الدولتين. وبالرغم من ذلك؛ فإن الحدود الصينية الهندية لم يتم ترسيمها بشكل فعلي حتى الآن، في ظل اختلاف موقف الدولتين بشأن مكانها الحقيقي، وكذلك طولها الفعلي.

ويتكون خط السيطرة الفعلية من ثلاثة قطاعات، الغربي والأوسط والشرقي، مع اختلافات واضحة بين وجهات نظر الدولتين حول موقعها عند طرفيها، حيث تسيطر الصين على 38 ألف كيلومتر مربع من منطقة أكساي تشين، التي تزعم الهند أنها جزء من منطقة لاداخ، بينما تصر الصين أنها كانت جزءاً من الإمبراطورية الصينية القديمة، وتقع في القطاع الغربي، والذي يمثل نقطة التقاء كل من الهند وباكستان والصين. كما تقول الصين إن 90 ألف كيلومتر مربع من الأراضي التي تقع حالياً في ولاية أروناتشال براديش الهندية جزء من التبت، حيث يمتد القطاع الشرقي من الحدود الثلاثية بين الهند وبوتان والصين إلى منطقة الحدود بين الهند والصين وميانمار، على طول ولايتي أروناتشال براديش وسيكيم الهنديتين. أما القطاع الأوسط، حيث تواجه التبت ولايتي هيماشال براديش وأوتاراخاند الهنديتين، فهو أقل إثارة للجدال.

لقد أدى عدم ترسيم الحدود وغياب الإجماع بشأن مكان خط السيطرة الفعلية إلى تبادل التُّهم بالتوغل بين الدولتين، وكذلك حدوث مواجهات بين الجيشين الصيني والهندي، وصلت إلى حد اندلاع حرب بين الدولتين في عام 1962. ورغم استمرار التوترات والمناوشات على جانبي الحدود، فقد حرصت الدولتان على إرساء السلام بينهما، حيث اتفقت بكين ونيودلهي في عام 1988، على العمل على التسوية السياسية لقضية الحدود وفصلها عن العلاقات الثنائية. وعلى مدى العقدين التاليين، اتفقت الدولتان على تدابير للحفاظ على الوضع الراهن، والحد من خطر التصعيد؛ ومع ذلك، فقد استمرت العقبات في طريق الحدود المتفق عليها. وثبت أن توضيح الوضع الراهن، أو أين يقع خط السيطرة الفعلية، يُشكِّل تحدياً هائلاً.

وإضافة إلى ذلك، فقد تبنت الصين موقفاً متشدداً إزاء مسألة الحدود، ولاسيما مع تنامي طموحاتها في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو ما ترتب عليه تزايد وتيرة المواجهات بين القوات المسلحة للدولتين، خاصة في عهد الرئيس شي جين بينغ، ورئيس الوزراء ناريندرا مودي. كذلك، أدى التنافس المتزايد بين القوتين الآسيويتين إلى تضخيم مخاوف كل منهما بشأن تصرفات الأخرى على طول نقطة الاشتعال الرئيسية المشتركة بينهما. وسرعان ما شهد الشك المتبادل عودة الحوادث الحدودية إلى الظهور، في أعوام 2013 و2014 و2017 و2021 و2022. كما احتجت الهند بشدة، في أغسطس 2023، على قيام الصين بإصدار نسخة 2023 من خريطتها القياسية التي أظهرت منطقة أكساي تشين، وولاية أروناتشال براديش في شمال شرق الهند، المتنازع عليها بين الدولتين، داخل الأراضي الصينية.

وقد مثلت الاشتباكات التي جرت بين قوات الدولتين في منطقة لاداخ في عام 2020، أخطر تلك الحوادث؛ إذ أسفرت عن مقتل 20 هندياً و4 صينيين، كما أدت إلى حدوث انتكاسة كبيرة في العلاقات بين الدولتين.

وعلى الرغم من الفتور الذي شاب العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين منذ اشتباكات منطقة لاداخ في الهيمالايا عام 2020، فقد استمرت الدولتان في التواصل على المستويين الدبلوماسي والعسكري، من أجل التخفيف من حدة التوترات الحدودية بينهما؛ فقد اتفق زعيما الدولتين، خلال لقائهما على هامش قمة مجموعة "البريكس" في جنوب إفريقيا، في أغسطس 2023، على تكثيف الجهود للحد من التوترات على طول الحدود. والتقى وزير الشؤون الخارجية الهندي، إس جايشانكار، بوزير الخارجية الصيني، وانغ يي، على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في كازاخستان في يونيو 2024، حيث اتفقا على تكثيف المحادثات لحل القضايا على طول حدودهما. كما التقى وزيرا خارجية الصين والهند مرتين في يوليو 2024؛ مما يشير إلى سعي حثيث من جانب الطرفين إلى التوصل إلى حل للخلافات الحدودية بينهما. وفي سبتمبر 2024، صرح جايشانكار بأن نحو 75% من مشكلات "الانسحاب" على حدود الهند مع الصين تم حلها.

وبجانب ما سبق، حرصت الدولتان على عقْد اجتماعات آلية العمل للتشاور والتنسيق بشأن قضية الحدود، بما يشير إلى وجود سعي متواصل لدى الجانبين بالعمل على تسريع حل المواجهة الحدودية وإعادة العلاقات الثنائية إلى مسارها الصحيح، حيث أظهرت الاتصالات والمفاوضات بين الصين والهند بشأن قضايا الحدود تقدماً إيجابياً في الفترة الأخيرة.

دوافع الاتفاق:

جاء الاتفاق الأخير في أكتوبر 2024 لتسوية الخلاف الحدودي بين الهند والصين نتيجة العديد من الدوافع والاعتبارات التي دفعت الدولتين إلى منْح الأولوية لخيار تهدئة الأوضاع وعدم تصعيدها على طول الحدود المشتركة بينهما. على الصعيد العسكري، تسعى الهند إلى تهدئة الأوضاع المتوترة على طول حدودها مع الصين، وإعادتها إلى الفترة السابقة لعام 2020، بما يترتب عليه تحسين العلاقات الثنائية في مختلف المجالات؛ ومن ثم تجنُب حدوث أي تصعيد آخر على الحدود. كما تهدف الدولتان إلى إنجاز إجراءات "فك الارتباط" بين قوات الحدود واستئناف الدوريات السلمية من جانب كل طرف، فضلاً عن التقليل من احتمالية وقوع اشتباكات حدودية جديدة، وضمان قدرة الدولتين على التعامل العاجل في حالة نشوب أي نزاعات.

وعلى الصعيد السياسي والاستراتيجي، تحتاج الهند إلى التعامل مع التأثير السلبي للأزمات العالمية، في ظل حالة عدم اليقين بشأن نهج الرئيس الأمريكي المُنتخَب ترامب تجاه الصين، ويساور الهند القلق بشأن ما قد يترتب على تنامي التعاون بين شركائها وبكين من مخاطر بالنسبة لمصالحها. كذلك، تسعى الدولتان من خلال الاتفاقية إلى تخفيف التوترات التي تشوب علاقاتهما الثنائية، ورغبة زعيمي الدولتين في إظهار حرصهما على حماية المصالح الوطنية والحفاظ عليها؛ بما يكسبهما المزيد من المكانة والشعبية داخلياً.

أما على الصعيد الاقتصادي، فيمكن إرجاع حرص الزعيمين الصيني والهندي على تسوية الخلاف الحدودي بين دولتيهما إلى رغبتهما المشتركة في توسيع التفاعلات الاقتصادية التي تصب في مصلحة الجانبين، ولاسيما أن الصين تُعد الشريك التجاري الأول للهند، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية بينهما 118.4 مليار دولار في عام 2023. وتُعد الصين أكبر مُصدِّر للسلع إلى الهند وأكبر مُورِّد لها للمنتجات الصناعية من أجهزة الاتصالات إلى المواد الخام إلى صناعة الأدوية الهندية. ويتمثل أحد الدوافع الرئيسية وراء إقدام الهند على تسوية الخلاف الحدودي مع الصين، في بروز الدعوات إلى إعادة المشاركة الاقتصادية الهندية الانتقائية مع الصين، بما في ذلك من بعض الشركات الأمريكية. ويذهب محللون إلى أن ضغوط مجتمع الأعمال الهندي أدت دوراً مهماً في التوصل إلى الاتفاق، خاصة وأن الهند فرضت قيوداً شديدة على الاستثمارات والتأشيرات الصينية بعد اشتباكات عام 2020.

انعكاسات الاتفاق:

سوف يترتب على توصُل الهند والصين إلى الاتفاق الأخير بشأن تسوية الخلافات الحدودية العديد من الانعكاسات المهمة التي تشمل العديد من مجالات العلاقات الثنائية، وكذلك علاقات الهند مع الولايات المتحدة. على المستوى السياسي، تمثلت أولى ثمار هذا الاتفاق في عقد أول اجتماع رسمي منذ خمس سنوات بين الرئيس الصيني شي جين بينغ، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، على هامش قمة مجموعة "البريكس"، التي عقدت في مدينة قازان الروسية، حيث اتفقا على إحياء العديد من الآليات لحل النزاع الحدودي وتطبيع العلاقات الثنائية.

كذلك، تم الإعلان عن إحياء المشاورات المتوقفة بين الدولتين، بما في ذلك محادثات الممثلين الخاصين، والتبادلات المنتظمة بين وزراء الخارجية وغيرها. كما يُرجَّح أن يدعم الاتفاق موقف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في مواجهة مزاعم المعارضة بأنه تنازَل عن أراضٍ للصين، عَبْرَ تأكيد أن الهند احتفظت بموقفها ونفت احتلال الصين للأراضي الهندية.

وعلى المستوى العسكري، أعلنت نيودلهي عن اكتمال فك الارتباط، والذي يُمثِّل المرحلة الأولى من اتفاق تسوية المواجهة الحدودية لعام 2020، والتي تضمنت انسحاب القوات الهندية والصينية وتفكيك البنية التحتية المؤقتة في منطقتي ديبسانغ وديمشوك من منطقة الحدود المتنازع عليها بالقرب من لاداخ في القطاع الغربي من خط السيطرة الفعلية، ويانغتسي في القطاع الشرقي؛ وهو الأمر الذي من شأنه تقليل احتمالات حدوث أي تصعيد عسكري بين الدولتين.

أما على الجانب الاقتصادي، فيُتوقَّع أن يؤدي إحراز تقدُم في تنفيذ الاتفاق؛ ومن ثم تحسُن العلاقات، إلى ضخ مزيد من الزخم في التعاون الاقتصادي بين الدولتين في المستقبل القريب، في ضوء بحث كلتيهما عن فرص اقتصادية أكبر؛ إذ يُتوقَّع أن تقوم الهند بتخفيف ومراجعة القيود التي فرضتها على التعاون مع الصين، ومنها إعادة استئناف الحوارات المختلفة على المستويات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، واستعادة الرحلات الجوية المباشرة بين الدولتين، وإجراء المزيد من التفاعلات مع المجتمع المدني، ومنْح المزيد من التأشيرات، والتعاون في القضايا المتعددة الأطراف، ومنها على سبيل المثال؛ إصلاح الحوكمة الاقتصادية العالمية، فضلاً عن إعادة المشاركة الاقتصادية الانتقائية. ومن جانبها، سوف تعمل الصين على توظيف الاتفاق من خلال محاولة إيجاد فرص لشركاتها للقيام باستثمارات مباشرة في الهند، يمكن أن تُولِّد فرص العمل، خاصة في قطاعات تصنيع الألواح الشمسية والبطاريات.

ومن الناحية الاستراتيجية، من المُحتمَل أن تستمر الهند في الحفاظ على موقفها التنافسي تجاه الصين في المجالات المؤسسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، فضلاً عن تعميق علاقاتها مع الشركاء الذين يركزون على مواجهة القوة الصينية مثل الحوار الأمني الرباعي "كواد".

من جهة أخرى، من غير المُرجَّح أن يؤدي الاتفاق بين الهند والصين إلى حدوث تحوُّل جوهري في مسار العلاقات بين الهند والولايات المتحدة، والتي تعمقت في السنوات الأخيرة، حيث تسعى الأخيرة إلى نيودلهي للعمل كثقل موازن لبكين؛ وهو ما يفسر ترحيب واشنطن باتفاق الهند والصين على تسوية الخلاف الحدودي بينهما، رغم نفيها ممارسة أي دور في التوصل إلى الاتفاق.

مخاطر كامنة:

على الرغم من أهمية الاتفاق الأخير بين الهند والصين بشأن تسوية الخلاف الحدودي، في محاولة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما؛ فإن هناك العديد من العقبات والتحديات والمخاطر الكامنة التي تَعترِض سُبُل التوصل إلى حل نهائي للأزمة الحدودية بين العملاقين الآسيويين؛ فقد أشار بعض المحللين إلى أنه لا يمكن اعتبار هذا الاتفاق بدايةً لحدوث انفراج كبير في العلاقات بين الدولتين؛ وذلك بالنظر إلى العديد من التوترات التي تشوب هذه العلاقات بسبب المنافسة الجيوسياسية، ولاسيما في ظل تنامي الوجود البحري للصين في المحيط الهندي، وعلاقاتها العميقة مع باكستان، فضلاً عن متانة العلاقات بين الهند والولايات المتحدة.

ويُمكِن النظر إلى الاتفاق باعتباره إجراءً لبناء الثقة، وهذا أمر جيد للعلاقات التي تراجعت إلى مستويات منخفضة في السنوات الأخيرة، لكن لا يُمكِن النظر إليه باعتباره بدايةً لجهود أوسع نطاقاً لوضع العلاقة في مسارها الطبيعي.

وعلى الرغم من ترحيب روسيا بالاتفاق الهندي الصيني الأخير بشأن فك الارتباط بين القوات على خط السيطرة الفعلية؛ فإن موسكو أكدت ضرورة توافُر التصميم والثقة من جانب الدولتين لحل النزاع الحدودي بصورة ودية، مؤكدة أن هذا النزاع يُعد "قضية مُعقَّدة للغاية" وتتطلب "عملية مفاوضات صعبة وطويلة".

كذلك، تشير الخبرة التاريخية إلى وجود استعداد لدى الصين لخوض مواجهات مسلحة عندما يتعلق الأمر بما تعتبره سيادة لها على مناطق نزاعات حدودية، كما حدث في حالة الصراع الحدودي الصيني السوفيتي في عام 1969، والحرب الصينية الفيتنامية في عام 1979؛ وهو ما ترتب عليه الدخول في مفاوضات وتسوية الحدود رسمياً مع روسيا وفيتنام. من هنا، وفي ظل غياب أي إطار قانوني مُعترَف به من قِبَل الدولتين بشأن تحديد خط الحدود الدولية بينهما؛ فإنه لا يُمكِن استبعاد تكرار المواجهات؛ وهو ما يتطلب ضرورة قيام الهند والصين بالتحوط ضد المخاطر المُحتمَلَة، من خلال إنشاء المزيد من المناطق العازلة بين قواتهما، وتعزيز آليات إدارة الأزمات، فضلاً عن استئناف الحوار السياسي بشكل منتظم للتقليل من حدة التنافس المتزايد في علاقتهما؛ بما يؤدي إلى تعزيز أمن واستقرار الدولتين؛ وهو أمر مهم للعالم في سياق التحولات الدولية الراهنة.