وجهات جديدة:

هل تحل آسيا محل أوروبا كوجهة مُفضّلة للمهاجرين؟

17 September 2024


شهدت كثير من الدول الآسيوية ذات الاقتصادات الكبرى والصاعدة نمواً اقتصادياً لافتاً على مدار العقود الماضية، والمسألة لم تقتصر على تحقيق معدلات نمو سريعة والتوسع في أسواق المال؛ بل شملت تطوير البنية التحتية، وتعزيز الابتكار، وتحسين بيئة الأعمال، وتبني سياسات أكثر انفتاحاً ومرونة لاجتذاب المهاجرين لسد الأزمة الديمغرافية ومواكبة احتياجات التحول الاقتصادي والتنمية من الأيدي العاملة؛ مما دفع بتطور ملحوظ في موقعها من موجات الهجرة الدولية، وشكل تصوراً بإمكانية أن تحل آسيا محل وجهات كبرى للمهاجرين كأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في ظرف بضع سنوات. 

الهجرة إلى/في آسيا: 

على مدار العقدين الماضيين، شهدت أعداد المهاجرين الدوليين في آسيا زيادة مضطردة؛ فوفقاً لتقديرات إدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية لعام 2020 تمتلك آسيا ثلث عدد المهاجرين الدوليين على مستوى العالم؛ أي حوالي 86 مليون مهاجر دولي (انظر الشكل رقم 1).

  

وتشكل الهجرة الداخلية في قارة آسيا أكثر من ثلثي تلك التقديرات (حوالي 69 مليون مهاجر) بزيادة ملحوظة تبلغ 93% بالمقارنة بالسنوات العشرين الماضية. أما بالنسبة للمهاجرين الدوليين (من غير الآسيويين) المقيمين في آسيا، فما زالت أعدادهم مُنخفضة نسبياً، ومعظمهم من أصول أوروبية أو إفريقية، كما هو موضح في الشكل رقم 2. 

                                                                                                                                             

تحوّلات مُحرِّكة: 

جاءت الزيادة المضطردة في أعداد المهاجرين الدوليين في آسيا (خصوصاً المهاجرين الداخليين "الآسيويين") مدفوعة بمجموعة معقدة ومتشابكة من التحولات الإقليمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي: 

1- العوامل الاقتصادية والاجتماعية:

أ‌- فروق الدخل بين الدول الآسيوية: تظل الدوافع الاقتصادية والاجتماعية مُحرِّكات أساسية للهجرة إلى/في آسيا؛ خصوصاً بالنسبة للعمالة الآسيوية غير الماهرة. ففي محاولة لتخفيف الفقر، والبحث عن سبل العيش، والحصول على جودة تعليم أفضل، وتحسين مستوى الدخل؛ يسعى المهاجرون من الدول الآسيوية ذات مستويات التنمية والدخل المُنخفضة (بنغلاديش، إندونيسيا، الفلبين، كمبوديا، نيبال، الهند، باكستان...) للهجرة الداخلية إلى دول آسيوية ذات دخل فردي مُرتفع ومستوى تنمية اجتماعية لائق (دول الخليج، اليابان، سنغافورة...). 

ب‌- التحولات الاقتصادية والتنموية والحاجة إلى العمالة: في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؛ اعتمد نمو اقتصادات شرق آسيا على التصنيع الذي يحتاج إلى العمالة المُكثّفة؛ وهو ما استدعى استقدام العمالة الأجنبية، وهو اتجاه مُستمر حتى الآن في الدول الآسيوية التي تشهد تحولات اقتصادية وتنموية مثل: ماليزيا وتايلاند؛ خصوصاً في قطاعات: البناء، التصنيع، الخدمات، الزراعة.... كما أن التطور التكنولوجي الكبير في دول مثل: اليابان، ماليزيا، سنغافورة، الصين وغيرها، كان عاملاً جاذباً لرواد الأعمال (من داخل وخارج آسيا) للهجرة وضخ استثمارات في قطاعات عدة. 

ج- التغيرات الديمغرافية ونقص العمالة: تواجه كثير من الدول الآسيوية شيخوخة السكان؛ بسبب انخفاض معدلات الخصوبة بشكل تدريجي وارتفاع متوسط العمر المتوقع؛ فتشير التقديرات إلى أن عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً في المنطقة سيصل إلى 1.3 مليار بحلول عام 2050. ففي دول مثل: اليابان وكوريا الجنوبية، سيكون نحو 40% من السكان فوق سن 65 عاماً في عام 2050. كما أن هناك دولاً آسيوية أخرى في طريقها إلى مواجهة معدلات شيخوخة متسارعة كالصين، وسنغافورة، وسريلانكا، وتايلاند.

نتيجة لذلك؛ تعاني كثير من الدول الآسيوية من نقص العمالة، وإن كان بدرجات متفاوتة؛ وهو ما دفعها لتبني سياسات أكثر مرونة تجاه المهاجرين لسد الفجوة الديمغرافية الكفيلة بأن تؤثر سلباً في مستوى التقدم الاقتصادي والتنمية. تلك العلاقة بين استقبال المهاجرين والتنمية؛ ما زالت تدفع بموجات هجرة داخلية عبر قارة آسيا من الدول ذات مستويات الدخل المنخفضة والأيدي العاملة الوفيرة إلى الدول ذات مستويات الدخول المرتفعة وقليلة اليد العاملة.

من الجدير بالذكر أن الدول الآسيوية بشكل عام تنقسم إلى ثلاث فئات رئيسية: (1) دول ذات دخل منخفض ووافرة اليد العاملة مثل: بنغلاديش وميانمار ونيبال، (2) دول ذات دخل مرتفع وقليلة اليد العاملة مثل: اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، (3) دول حققت تقدماً سريعاً في دخل الفرد، وبدأت في مواجهة شيخوخة سكانية لكنها لا تعاني بعد من نقص حاد في اليد العاملة مثل: إندونيسيا والفلبين. بالنظر للفئات الثلاث سنجد توازناً شديداً بين احتياجات الدول التي تواجه شيخوخة سكانية من الأيدي العاملة ورغبة المهاجرين من الدول ذات مستويات الدخل المنخفضة في البحث عن فرص عمل ومستوى معيشة أفضل؛ وهو ما يفسر الزيادة المضطردة في موجات الهجرة الداخلية في القارة كما سبقت الإشارة.   

2- العوامل البيئية: تُعد الكوارث الطبيعية أحد أهم أسباب حالات النزوح في آسيا، ففي عام 2022، سجلت باكستان، التي شهدت فيضانات شديدة وواسعة النطاق، أكبر حالات النزوح بسبب الكوارث الطبيعية في العالم (أكثر من 8 ملايين نازح). وسُجلت ثاني أكبر حالات النزوح بسبب الكوارث الطبيعية في المنطقة في الفلبين (ما يقرب من 5.5 مليون نازح) والتي نجمت إلى حد كبير عن العاصفة الاستوائية "نالجاي"، تليها الصين (أكثر من 3.6 مليون نازح).

وبشكل عام، تُعد منطقة جنوب شرق آسيا واحدة من أكثر المناطق المُعرضة للكوارث في العالم، حيث تحدث ملايين حالات النزوح كل عام؛ لوقوع أغلب دولها على طول حزام الأعاصير في المنطقة أو حلقة النار في المحيط الهادئ؛ مما يجعل الأشخاص الذين يعيشون هناك معرضين للفيضانات والعواصف، والتسونامي والزلازل وغيرها. كما شهدت منطقة جنوب آسيا كوارث مدمرة في السنوات الأخيرة، بعضها مرتبط بتغير المناخ مثل: موجات الحرارة والجفاف المتزايد والفيضانات. 

وكذلك تُعد أجزاء من شرق آسيا بؤراً ساخنة للكوارث الطبيعية مثل: الفيضانات والتسونامي والزلازل والأعاصير والانفجارات البركانية. وفي وسط آسيا، ما زال التغير المناخي المرتبط بشكل كبير بالنزاعات في المنطقة يهدد حياة المواطنين ويدفع بموجات من المهاجرين والنازحين.

3- العوامل السياسية والأمنية: يُعد عدم الاستقرار السياسي والنزاعات عوامل إضافية تدفع بتدفق اللاجئين والنازحين. على سبيل المثال، بسبب الأوضاع السياسية غير المُستقرة والخوف من استمرار حكم طالبان في أفغانستان؛ نزح ملايين الأفغان داخلياً أو هربوا إلى دول مُجاورة مثل: باكستان وإيران خلال السنوات الأخيرة. 

وفي ظل التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة الفلسطيني، والتصعيد بين إسرائيل وحزب الله، تشهد المنطقة موجات متتالية من النزوح. كما تظل اليمن نقطة عبور مهمة، خاصة للمهاجرين من منطقة القرن الإفريقي المتجهين إلى دول الخليج المجاورة، مثل: المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، فراراً من الاضطهاد وانعدام الأمن والصراعات. كما أدى الغزو الروسي لأوكرانيا، وما ارتبط به من تجنيد عسكري في عام 2022 إلى تدفق آلاف الروس إلى دول آسيا الوسطى مثل: كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان.

استشراف آفاق الهجرة: (التوازن بين عوامل الطرد والجذب)

بالنظر لطبيعة التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والسياسية والأمنية المُحرّكة للهجرة إلى/في آسيا، سيكون من السهل الجزم بأن القارة ستظل في بؤرة موجات متتالية من الهجرة الدولية؛ خصوصاً الداخلية عبر القارة، وكذلك النزوح على مدار العقد المقبل، ومن المرجح أن تستمر السمات التالية:

1- استمرار دول شرق آسيا كاليابان وكوريا في تبني سياسات هجرة أكثر انفتاحاً ومرونة لجذب الأيدي العاملة وسد الأزمة الديمغرافية في ظل انخفاض معدلات الخصوبة ومواجهة أزمة شيخوخة السكان. 

2- استمرار آسيا كوجهة جاذبة للمهاجرين؛ في ظل التحول الاقتصادي والتنموي في كثير من الدول الآسيوية، وما ينطوي عليه ذلك من وفرة فرص عمل، ومستوى دخل ومعيشة أفضل، وكذلك فرص لتعليم جيد.

3- سيؤدي التغير المناخي دوراً محورياً في دفع المزيد من موجات النازحين واللاجئين في قارة آسيا، وسيدفع عدم الاستقرار السياسي والنزاعات أيضاً في نفس الاتجاه وإن كان بنسب أقل.

آسيا بديلاً لأوروبا؟

قد يؤدي ما سبق إلى طرح سؤال حول احتمالية أن تحل آسيا محل أوروبا وأمريكا كوجهة مُفضّلة للمهاجرين خلال الأعوام المقبلة، وهو ما يمكن الإجابة عنه فيما يلي: 

تقتضي الإجابة عن هذا السؤال التفرقة بين المهاجرين الدوليين الآسيويين وغير الآسيويين؛ إذ إن آسيا ستظل وجهة جاذبة للمهاجرين الدوليين الآسيويين في ضوء التوازن الشديد بين مصادر قوة واحتياجات تلك الدول؛ وهو ما خلق حالة معقدة من الاعتماد المتبادل ستعني استمرار الهجرة الداخلية في آسيا كسمة موجات الهجرة هناك على مدار العقد المقبل على أقل تقدير. 

أما بالنسبة للمهاجرين الدوليين من غير الآسيويين فالمسألة أكثر تعقيداً. هناك كثير من التحديات التي تعسر أو تحول دون اتجاه المهاجرين غير الآسيويين لآسيا كوجهة؛ أهمها الأبعاد الثقافية والاجتماعية وعنصر اللغة بشكل خاص، وهي الأبعاد التي تدفع الدول الآسيوية ذاتها إلى الاعتماد بشكل أكبر على المهاجرين الآسيويين. كما أنه ما زالت هناك تعقيدات سياسية وقانونية وإدارية تتعلق بالحصول على التأشيرات أو تصاريح العمل والإقامة. وعلى الرغم من وجود دول آسيوية تقدم فرصاً اقتصادية ممتازة؛ فإن العثور على فرصة عمل بأجر مناسب يتوافق مع تكلفة المعيشة ليس مسألة سهلة أيضاً، والقائمة تطول.

وفي التقدير، فإن كل تلك الأبعاد تقودنا للجزم بصعوبة أن تحل آسيا محل الوجهات الأخرى كأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من حيث استقبال المهاجرين الدوليين من غير الآسيويين، إلّا إذا تبنت الدول الآسيوية ذات الاقتصادات المتقدمة، أو تلك التي تمر بمرحلة التحول الاقتصادي والتنموي سياسات هجرة واندماج كفيلة بتجاوز كل تلك التعقيدات الاجتماعية والقانونية والاقتصادية، وهي عملية ستستغرق وقتاً طويلاً حال توافرت إرادة سياسية حقيقية للبدء فيها.