خلافات متعددة :

كيف تدير الشركات متعددة الجنسيات علاقاتها مع الحكومات؟

15 August 2024


تواجه الشركات التكنولوجية الكبرى، بعد عقدين من النمو غير المقيد، مزيداً من محاولات السيطرة والتقييد القانوني والحكومي لنشاط تلك الشركات، ولاسيما في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك بعد أن أصبح جلياً الدور السياسي والاجتماعي والمعرفي الذي تؤديه تلك المنصات؛ مما قد يهدد بعض المصالح القومية والوطنية.

يأتي هذا في وقت تتصاعد فيه الخلافات السياسية والقانونية بين عدد من الحكومات والشركات التكنولوجية الكبرى (متعددة الجنسيات) نظراً لمواقفها السياسية أو لأسباب تنظيمية أو قانونية كتطبيق القوانين واللوائح، وحماية حقوق الملكية الفكرية، والضرائب، والسياسة الاحتكارية؛ ومن ثم فمن المهم التعرض لأبرز الخلافات بين الشركات متعددة الجنسيات والحكومات، والأسباب التي تقف وراء هذه النزاعات، والآثار المترتبة عليها.

قضايا متعددة: 

يمكن الإشارة إلى عدد من القضايا والقوانين والتشريعات والممارسات التي تُظهر حالة من حالات المواجهة بين الدول والشركات الكبرى، وذلك كما يلي: 

• أصدرت محكمة مقاطعة كولومبيا في الولايات المتحدة، في الخامس من أغسطس الجاري، رأياً يقضي بأن شركة جوجل انتهكت المادة الثانية من قانون "شيرمان"؛ إذ قضت بأنها احتفظت بشكل غير قانوني باحتكار البحث عبر الإنترنت وإعلانات البحث النصية، وأشار قاضي المحكمة الجزئية في مقاطعة كولومبيا، أميت ميهتا، في حكمه الموسع إلى أن شركة جوجل تسيطر على حصة سوقية تبلغ نحو 90% في مجال البحث على الإنترنت و95% في مجال البحث على الأجهزة المحمولة. أما منافسها مايكروسوفت بينغ، وهو محرك البحث الثاني في القائمة، فلا تتجاوز حصته 6% .

• رفعت وزارة العدل الأمريكية ومجموعة من المدعين العامين بالولايات قضية احتكار شاملة ضد شركة آبل ، في مارس الماضي، متهمة الشركة التي تبلغ قيمتها 2.6 تريليون دولار بانتهاك قانون مكافحة الاحتكار من خلال سيطرتها على آيفون، ورفع التكاليف على المستهلكين والمطورين والفنانين وغيرهم .

• أجرت المفوضية الأوروبية، في مايو الماضي، تحقيقاً بشأن ما إذا كانت شركة جوجل تنتهك قانون الأسواق الرقمية؛ وهو قانون جديد يهدف إلى منع أي منصة واحدة من اكتساب قدر كبير من السيطرة على المشهد عبر الإنترنت.

• بدأ الاتحاد الأوروبي في تطبيق قانون مكافحة الاحتكار الرقمي الجديد الشامل في 7 مارس؛ إذ حدد على الفور جوجل وآبل وميتا كأهداف قيد التحقيق، بالتزامن مع ذلك، فرضت المفوضية الأوروبية غرامة على شركة آبل بلغت نحو ملياري دولار؛ بسبب منع منافسيها في مجال بث الموسيقى من تقديم صفقات أرخص خارج تطبيقاتها.

• تتهم لجنة التجارة الفدرالية شركة أمازون بتضخيم تكلفة السلع المباعة على منصتها بشكل غير قانوني، كما تم رفع دعوى قضائية لإجبار ميتا على بيع إنستغرام وواتساب. وقد بدأت جميع التحقيقات خلال إدارة ترامب.

• واجهت بعض تطبيقات شركات التواصل الاجتماعي الكبرى مثل منتجات شركة ميتا عدداً من القيود في بعض الدول؛ بسبب مواقفها من الخطاب الحكومي في عدد من البلدان على خلفية بعض الصراعات القائمة، فقد أثار التصعيد الإسرائيلي في الشرق الأوسط، غضب العديد من الحكومات بعد قيام منتجات شركة ميتا بالتعامل السلبي تجاه المحتوى الداعم لفلسطين وغزة، كما زادت حدة هذا الخلاف مع قيام شركة ميتا بحذف أو إخفاء محتوى بعض المسؤولين الحكوميين المتعلق بنعي رئيس حركة حماس إسماعيل هنية؛ وهو الأمر الذي أثار غضب كل من ماليزيا، وتركيا التي علقت وحظرت تطبيق إنستغرام لعدة أيام. 

• لم تقتصر جهود الحد من أدوار الشركات والمنصات الرقمية على المنصات الأمريكية والغربية، ولكن سعت العديد من الدول إلى حظر تطبيق شركة "تيك توك" العملاقة بسبب علاقتها بالصين أو بسبب التأثيرات الاجتماعية والدعائية للتطبيق، وكان من بين تلك الدول التي سعت لحظر التطبيق (أفغانستان، أرمينيا، أستراليا، النمسا، أذربيجان، بلجيكا، كندا، بنغلاديش، الدانمارك، الاتحاد الأوروبي، أستونيا، فرنسا، إندونيسيا، فرنسا، إيرلندا...) .

دوافع معقدة: 

تشير التطورات والممارسات السابقة إلى مجموعة من الدوافع والأسباب وراء الخلاف بين الحكومات والشركات التكنولوجية الكبرى، لعل من أبرزها ما يلي:  

- التغير في طبيعة العلاقة بين الطرفين: شهدت العلاقة بين الشركات متعددة الجنسيات والحكومات تحولاً في طبيعة ونمط هذه العلاقة، فقد تحولت من منطق الشراكة الرئيسية في التخطيط التنموي، وتعبئة الموارد، والاستثمار، والتشاور والتعاون، إلى الخلاف والنزاع القانوني والسياسي في كثير من الأحيان، وذلك نظراً لتزايد قوة تلك الشركات بما قد يفوق ميزانيات بعض الدول، وبسبب السياسة الاحتكارية لبعض هذه الشركات، وفرضها رسوم مرتفعة على المستهلكين، وتزايد نفوذها وتأثيرها السياسي والاجتماعي في كثير من الأحيان، كما أن هناك خشية من الأدوار التأثيرية لتلك الشركات أثناء الانتخابات وتشكيل الرأي العام والهويات المختلفة، بالإضافة إلى التُّهم الخاصة بتورط بعض تلك الشركات في عدد من الصراعات والنزاعات الأهلية والخارجية. 

- اضطراب توازن القوى بين الطرفين: تتزايد المخاوف الحكومية من تنامي نفوذ الشركات التكنولوجية الكبرى، التي تمتلك موارد هائلة تمكنها من إعادة تعريف الاتصال والتجارة وحتى الثقافة ، بما قد يؤثر في الأمن القومي في مراحل تحقيق الاختراقات التحويلية المحتملة في الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الأشخاص والمنظمات في جميع أنحاء العالم؛ ومن ثم قدرتها على تشكيل البيئة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بما قد يؤثر في ميزان القوى بين سلطة الحكومة، وسلطة ونفوذ تلك الشركات لصالح الأخيرة؛ وهو ما قد يؤثر في سيادة الدولة واستقرارها.

- التحول في مساحات التلاقي والاختلاف بين الطرفين: على الرغم من الخلاف السياسي والقانوني المتزايد بين الحكومات والشركات التكنولوجية الكبرى، فإن هناك العديد من مساحات التلاقي بينهما؛ إذ ما زالت الحكومات في حاجة ماسة لأدوار الشركات في المجال الاقتصادي والتجاري والاستثماري، بما يحقق أهداف التنمية الوطنية وسد احتياجات المواطنين، في وقت أصبحت بعض الأدوار الاستثمارية والتجارية عبئاً ثقيلاً على نفقات الحكومات الوطنية؛ ومن ثم فإن حدود التلاقي بين الطرفين ما زالت قائمة ولا يمكن الاستغناء عنها؛ وهو ما يعني أن الخلافات القائمة هي محاولة للحد من نفوذ تلك الشركات، وليس إلغاءها أو حتى دمجها في النشاط الحكومي.  

وتهدف الحكومات عبر سن التشريعات المختلفة وإدارة الخلاف مع الشركات متعددة الجنسيات للوصول إلى تسويات أو قواعد جديدة تحافظ فيها الحكومات على توازنها ونفوذها الاجتماعي والاقتصادي، كما تسعى للحد من ارتفاع الأسعار والسياسة الاحتكارية لتلك الشركات، إذ إن تزايد الاحتكار قد يتيح لتلك الشركات سلطة التدخل في صنع القرارات مستقبلاً مع تشكل جماعات مصالح وضغط تابعة لهذه الشركات تتمتع بالنفوذ الكافي، وقد يشكل هذا التدخل مدخلاً للغضب الشعبي والجماهيري ضد الحكومات، خاصة مع قيام تلك الشركات بفرض رسوم مرتفعة على المستهلكين. 

التأثيرات في قضايا الخصوصية وأمن البيانات: تشكل الشركات متعددة الجنسيات، التي تدير عملياتها عبر عدة دول، هدفاً متزايداً للرقابة الحكومية بسبب المخاوف من سوء استخدام البيانات الشخصية وسوء إدارة المعلومات الحساسة. في المقابل، تسعى الشركات للحفاظ على قدرتها على جمع وتحليل البيانات بحرية لدعم الابتكار والنمو الاقتصادي؛ وتؤدي هذه التوترات إلى مجموعة من التحديات القانونية والتنظيمية التي تعكس تباين المصالح بين حماية حقوق الأفراد وضمان استدامة الأعمال التجارية.

احتمالات متزايدة: 

تشهد العلاقات بين الحكومات والشركات متعددة الجنسيات مرحلة تحول فريدة في ظل التطورات الاقتصادية والتكنولوجية السريعة، ولاسيما مع تزايد الدور الذي تؤديه الشركات متعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي والوطني، ويظهر مستقبل هذه العلاقات كمجال يتسم بالتعقيد والتحديات المتزايدة. وتمثل هذه الخلافات تجسيداً للصراع بين الحاجات الاقتصادية العالمية والمصالح الوطنية، وبشكل عام؛ تتراوح الخلافات بين الحكومات والشركات متعددة الجنسيات بين مسائل تنظيمية وضرائبية، وصولاً إلى قضايا الخصوصية وأمن البيانات والمواقف السياسية. ومع تزايد الضغوط العالمية المتعلقة بالاستدامة، وحقوق الإنسان، والتقنيات الجديدة، من المتوقع ما يلي:

• استمرار هذه الخلافات في التفاقم؛ إذ من المرجح أن تقوم الدول بتطوير بيئتها التشريعية والرقابية من أجل الحد من نفوذ وسلطة تلك الشركات، وقد يدفع في ذلك الاتجاه حدوث قفزات في مجال الذكاء الاصطناعي، والذي يجر خلفه مزيداً من التخوفات من جانب الحكومات. 

• يرجح أن تعمل الدول والحكومات على إيجاد صيغة قانونية إقليمية أو دولية من أجل الحد من مخاطر تعرض أمن البيانات والخصوصية لمزيد من المخاطر. 

• أن تعمل الشركات متعددة الجنسيات على تخفيف الخلاف مع الحكومات ومحاولة التكيف مع البيئة التشريعية والتنظيمية والرقابية الحكومية، ومحاولة بناء تفاهم مع السلطات الوطنية. 

• يستبعد أن يتجه الخلاف بين الطرفين لنزاع على السلطة أو النفوذ في المستقبل القريب، في حين قد تتزايد الأدوار والتطلعات السياسية لأصحاب تلك الشركات تدريجياً من أجل الضغط على الحكومات لتخفيف حدة الخلاف؛ وهو ما يظهر جلياً من تنامي انخراط إيلون ماسك في إصدار تصريحات لها أبعاد سياسية في العديد من المواقف والأحداث. 

وفي التقدير؛ يظل الخلاف بين الحكومات والشركات متعددة الجنسيات قائماً ومرجحاً للتزايد والتفاقم نتيجة اتساع فجوة تلاقي مصالح الحكومات وتلك الشركات؛ إذ لم تعد أهداف وطموحات تلك الشركات تقف عند حاجز الربحية، ولكن تتجه إلى إحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية وتقنية هائلة، قد تؤثر في قدرات الحكومات في مواجهتها؛ ومن ثم يتوقع أن تسعى الحكومات لفرض مزيد من القيود على نشاط تلك الشركات، كما ستقابل تلك الشركات الحكومات بمزيد من التسويات والمفاوضات.