تحولات ميلي:

لمادا تنحاز الأرجنتين لإسرائيل في حرب غزة؟

30 July 2024


عادةً عندما تذكر الصحف ووسائل الإعلام العالمية الأرجنتين، قد يكون ذلك بسبب إنجاز رياضي متعلق بكرة القدم عامةً أو بنجمها الأول ليونيل ميسي، بصفة خاصة. وتشتهر الأرجنتين أيضاً بالتانغو واللحوم والمناظر الطبيعية الرائعة في باتاغونيا. ولكن من ناحية أخرى، فإن للأرجنتين سمعة سيئة، خاصةً في السنوات الأخيرة؛ بسبب ارتفاع معدلات التضخم، التي وضعتها بالمراكز الخمسة الأولى في التصنيف العالمي من حيث التضخم. وللأسف فإن للأرجنتين السمعة السيئة نفسها فيما يتعلق بالفساد.

وفي الأشهر الماضية، فإن الأرجنتين تُذكر كثيراً في وسائل الإعلام الدولية، ولكن هذه المرة بسبب الظهور السياسي المُلفت للرئيس الحالي، خافيير ميلي، وخاصةً موقفه الداعم بشكل كبير لإسرائيل والمناهض للفلسطينيين منذ بداية الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، والذي كان أحدث مظاهره إعلان الرئاسة الأرجنتينية في 12 يوليو 2024 تصنيف حركة حماس "منظمة إرهابية دولية"، وإدانتها الارتباط بين حماس وإيران؛ لتصبح بذلك الأرجنتين أول دولة في أمريكا اللاتينية تُقدم على هذه الخطوة؛ وهو ما يتناقض مع مواقف معظم هذه الدول؛ إذ قطعت مثلاً بوليفيا وكولومبيا علاقاتها مع إسرائيل، فيما سحبت دول لاتينية أخرى، ومن بينها البرازيل، سفراءها من تل أبيب.

أفكار ميلي:

يُعد خافيير ميلي خبيراً اقتصادياً متخصصاً في النمو الاقتصادي، ويُعرّف نفسه بأنه ليبرالي. وتستند نظريته الاقتصادية بشكل رئيسي إلى نماذج من المدرسة النمساوية الاقتصادية، مثل: فون ميزس، وروثبارد، وهايك. ولهذا نراه يعارض بشدة المسلمّات الاقتصادية المستمدة من نظرية جون ماينارد كينز ودولة الرفاهية. ويرى ميلي أن الدولة هي السبب وراء الغالبية العظمى من مشكلات المجتمع ويقترح تقليصها إلى ما هو ضروري فقط للإدارة الصحيحة للبلاد. ويعتبر أن الدولة كمؤسسة سياسية محتكرة للعنف، على حد تعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، تميل باستمرار إلى زيادة حجمها وسلطاتها؛ مما يؤدي إلى سلب الحريات الفردية. ولذلك يهاجم ميلي نظرية العدالة الاجتماعية، معتبراً إياها غير عادلة؛ إذ إنها تقوم على أخذ شيء ما بالقوة من قطاع من المجتمع وإعطائه إلى قطاع آخر. أضف إلى ذلك، أن ميلي يقف ضد الإفراط في الضرائب، ويقترح تقليص الدولة نفقاتها الهائلة والزائدة عن الحاجة من أجل خفض الضرائب على الشعب.

إن حياة ميلي السياسية مثيرةً للدهشة، فقد تحول من كونه معلقاً تلفزيونياً في المناقشات الاقتصادية إلى تشكيل حزب سياسي باسم "لا ليبرتاد أفانزا" أو "الحرية تتقدم" (Libertad avanza)، ثم اُنتخب عضواً في مجلس النواب في نهاية 2021. وبعد ذلك بعامين، أصبح رئيساً للأرجنتين بإجمالي أصوات بلغ 14.3 مليون.

وإلى جانب انتقاده بسبب أفكاره الاقتصادية وقيامه بالدفاع عنها، فإن ميلي أيضاً يتعرض للهجوم الشديد بسبب مواقفه المتعلقة بسياسة الأرجنتين الخارجية، وخاصةً فيما يتعلق بمواقفه الداعمة والمنحازة بشكل لافت لإسرائيل.

دعم إسرائيل:

قبل أن يصبح رئيساً للأرجنتين، وبالرغم من كونه كاثوليكيا، كان ميلي دائماً ما يُعلن أنه معجب بالشعب اليهودي وتعاليمه لدرجة أنه كان يقرأ التوراة بصورة يومية. وفي نهاية عام 2021، قال ميلي عندما كان عضواً في البرلمان آنذاك: "أنا لست يهودياً ولكنني معجب بإسرائيل، وأكن لها احتراماً عميقاً. أنا كاثوليكي ولكنني أركع كل يوم أمام يهودي". في ذلك الوقت أيضاً، أعرب ميلي عن وقوفه مع الغرب وقيمه، ومع الولايات المتحدة وإسرائيل كحليفتين محتملتين له. علاوة على ذلك، وعد ميلي بنقل سفارة الأرجنتين من تل أبيب إلى القدس.

وفي ديسمبر 2023، وبعد فوزه في انتخابات الإعادة على سيرخيو ماسا في 19 نوفمبر الماضي، أصبح اليميني المتطرف ميلي رئيساً للأرجنتين بكسبه أكبر عدد من أصوات الناخبين بنسبة 56%. واستقبل ميلي، قبل بضعة أيام من توليه منصب الرئاسة، وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، إيلي كوهين، ومجموعة من أقارب الرهائن الذين اختطفتهم حركة حماس، والذين وصلوا من تل أبيب للمشاركة بحفل تنصيب الرئيس الأرجنتيني. وأعلن ميلي آنذاك رسمياً إدانته لهجوم حماس، وصرح بأنه سيُدرجها على قائمة المنظمات الإرهابية التي تضم حزب الله اللبناني أيضاً، والذي تُحمله الأرجنتين مسؤولية الهجمات على السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس ومركز "آميا" اليهودي عامي 1992 و1994 على الترتيب. 

وبعد ثلاثة أسابيع من توليه منصبه؛ أي في يناير 2024، شارك ميلي في احتفالات اليوم العالمي لإحياء ذكرى الهولوكوست والتي أقيمت في بوينس آيرس. وصرح الرئيس الأرجنتيني بأن بلاده "لن تبقى صامتة في مواجهة حركة حماس"، مطالباً بالإفراج الفوري عن جميع المدنيين المختطفين، والذين من بينهم 8 أرجنتينيين.

وفي 7 فبراير الماضي، أصبح ميلي أول زعيم من أمريكا اللاتينية يسافر إلى إسرائيل بعد الهجمات التي وقعت في 7 أكتوبر؛ إذ سافر إلى تل أبيب على متن رحلة تجارية، وكان في استقباله وزير خارجية إسرائيل. وبمجرد وصوله إلى هناك، أكد ميلي التزامه "بتعزيز الصداقة والعلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل". وفي أثناء هذه الزيارة، قام ميلي بجولة في مرافق مستوطنة "نير أوز" برفقة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ. وذكر أن عمليات اختطاف الرهائن التي حدثت تُعد "جريمة ضد الإنسانية ويجب إيقافها". وخلال إقامته في إسرائيل، التقى ميلي أيضاً رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والذي قال إن بلاده تقدر كثيراً الدعم الأرجنتيني القوي لإسرائيل، وإنهم "سعداء جداً بقراره الخاص بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل وباستعداده لنقل بعثاته الدبلوماسية والسفارة الأرجنتينية إلى هناك". وذكر ميلي أنه قد اتخذ بالفعل القرار السياسي الخاص بتصنيف حماس كمنظمة إرهابية، وأن وزيرة خارجيته، ديانا موندينو، ستمضي قُدماً في إعداد المرسوم الخاص بهذا القرار.

وكرد فوري على ذلك، أصدرت حركة حماس بياناً مستنكرةً فيه زيارة ميلي لإسرائيل، وأعربت عن أسفها لخسارة حليف مثل الأرجنتين. كما أعلنت حماس أنها "تدين بشدة" خطط الحكومة الأرجنتينية الجديدة لنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، معتبرة ذلك "انتهاكاً لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، وانتهاكاً لأحكام القانون الدولي باعتبار القدس أرضاً فلسطينية محتلة".

ولاحقاً في مارس 2024، أكد ميلي، مجدداً، في خلال مقابلة له مع شبكة "سي أن أن" الإخبارية، دعمه غير المشروط لإسرائيل ولهجومها على قطاع غزة. وقال الرئيس الأرجنتيني: "إن إسرائيل تعرضت لهجوم وحشي، ومثل هذه الأحداث تتطلب ردوداً مثالية. في الواقع، كل ما تفعله إسرائيل وتقوم به يقع ضمن قواعد اللعبة. إن إسرائيل لا ترتكب أية تجاوزات على الرغم من التجاوزات التي ارتكتبتها حماس.. وأحد الأشياء التي قُمت بها منذ اللحظة الأولى هي نبذ الهجوم الذي قامت به جماعة حماس وتأييد حق إسرائيل في الدفاع المشروع عن نفسها"، على حد تعبيره.

وفي 10 مايو الماضي، صوتت الأرجنتين، في خضم الصراع القائم بغزة، ضد المشروع الذي كانت تروج له الدول العربية والذي يدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب بشكل إيجابي. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تصوت فيها الأرجنتين ضد الجانب الفلسطيني بالأمم المتحدة، كاسرةً بذلك التقليد الذي كانت الحكومات الأرجنتينية السابقة قد أرسته لدعم الفلسطينيين في الجلسات العامة للأمم المتحدة.

لقد صوتت الأرجنتين مع أقلية مكونة من تسع دول (الأرجنتين، وإسرائيل، والولايات المتحدة، وجمهورية التشيك، والمجر، وميكرونيزيا، وناورو، وبالاو، وبابوا غينيا الجديدة) ضد الدول التي دعمت الموقف الفلسطيني. وعلى الرغم من أن التصويت كان في معظمه إيجابياً بالنسبة للجانب الفلسطيني؛ فإن الاقتراح لم يكن ملزماً؛ لذا فإن السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عباس، ما زالت لم تُقبل كعضو كامل في الأمم المتحدة حتى الآن. فمن يقرر ذلك في نهاية المطاف هو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ إذ تمنع الولايات المتحدة دمج فلسطين كدولة باستخدامها حق النقض (الفيتو)، كما حدث في منتصف إبريل الماضي. 

وعقب ذلك في 31 مايو الماضي، قامت الولايات المتحدة بتقديم خطة لوقف إطلاق النار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، تتضمن تبادل الأسرى والرهائن، وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان في غزة، وإعادة إعمار القطاع في المستقبل. وطالبت الأرجنتين و16 دولة أخرى، حركة حماس بقبول خطة وقف إطلاق النار التي اقترحتها الولايات المتحدة. وكما ذكرنا سابقاً، فإن ميلي قد أعرب مراراً وتكراراً عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد هجوم حماس عليها في 7 أكتوبر الماضي، ولكن كانت هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها إلى وقف إطلاق النار.  

وواجه الرئيس الأرجنتيني موجة انتقادات عربية وإسلامية، بعد مقاطعته اجتماعاً لمجلس سفراء المجموعة العربية والإسلامية في العاصمة بوينس آيرس في يونيو الماضي؛ بحجة وجود ممثل لدولة فلسطين، لتنوب عنه وزيرة الخارجية، موندينو، في اللقاء. ووصفت الجامعة العربية هذه الخطوة من جانب ميلي بـ"العدائية وغير المبررة".

ولاحقاً في 12 يوليو 2024، صنف ميلي حماس "منظمة إرهابية"، وأمر بتجميد أصولها المالية، قائلاً إن "لديه التزاماً راسخاً يقضي بتصنيف الإرهابيين على حقيقتهم". كما شبّه الرئيس الأرجنتيني، في 17 يوليو الجاري، هجوم حماس على إسرائيل بالتفجير الذي وقع عام 1994 في بوينس آيرس، مطالباً الحركة بإطلاق سراح جميع الرهائن الذين تحتجزهم.

ختاماً، إن موقف حكومة ميلي إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واضح للغاية منذ البداية، ومن المُرجح أن يستمر دعمها القوي لإسرائيل وإدانتها الصارمة لحماس. ولكن بعد مرور أكثر من تسعة أشهر على حرب غزة، أصبح دعم الوقف الفوري لإطلاق النار مدرجاً أيضاً في جدول أعمال الحكومة الأرجنتينية، وهو وإن لم يكن تغييراً في موقفها، إلا أنه رسالة قوية للقادة الإسرائيليين. وهكذا فما يثير الاهتمام في هذا الصدد هو كيف سيتم تعزيز العلاقات أو الحفاظ عليها بين الجانبين الإسرائيلي والأرجنتيني إذا لم ينته الصراع في غزة وإذا استمرت الضغوط الدولية من أجل وقف إطلاق النار هناك.