العرب:

المغرب يقتحم فضاءات جيوسياسية جديدة تزكي خياراته الإستراتيجية

28 November 2023


الرباط - تعكس الاتفاقات المبرمة بين المغرب وأذربيجان الرهان الجديد لدبلوماسيته القائمة على مفهوم براغماتي للتعاون “جنوب – جنوب” وعلى قاعدة “رابح – رابح”، مما يجعل المغرب أكثر دينامية في علاقاته الدولية، وذلك من خلال اقتحام فضاءات جيوسياسية جديدة (القوقاز) تزكي خياراته الإستراتيجية بتنويع شراكاته وإثرائها، وبالتالي تسجيل مكاسب دبلوماسية تكرس الاعتراف الدولي بسيادته على الصحراء، وتوثق مركزه الجيوستراتيجي كبوابة عبور من أفريقيا وإليها.

ووقّع المغرب مع أذربيجان، في الرباط، يوم الثالث عشر من نوفمبر 2023، خمس اتفاقيات، تغطي مجالات اللوجستيات والطاقة والبيئة والتنمية المستدامة والعمل والصحة. وفي اليوم التالي، انعقد منتدى الأعمال المغربي – الأذري الأول بحضور عدد كبير من الفاعلين الاقتصاديين من البلدين، وشهد توقيع مذكرتي تفاهم حول العمل المشترك وطويل الأمد بشأن تطوير العلاقات بين البلدين وتعزيز تعاونهما في مجالات الاستثمار والتجارة والاقتصاد. كما تم الاتفاق على زيادة التبادلات التجارية التي ما زالت متواضعة، في حدود 50 مليون دولار فقط، لترتقي إلى مستوى إمكانات البلدين وجودة علاقاتهما السياسية.

التقارب مع أذربيجان يدعم انفتاح المغرب على دول بعيدة جغرافيا، مما يعزز مصالحه في مناطق جيوسياسية جديدة

وأُبرمت هذه الاتفاقيات في إطار الدورة الثانية للجنة المشتركة للتعاون الثنائي تحت رئاسة وزيري خارجية المغرب وأذربيجان، بعد انعقاد الدورة الأولى بالعاصمة باكو في مارس 2018، والتي تم خلالها إبرام اتفاقيات شملت التعاون في النقل والدراسات البحرية والإصلاح الضريبي والقضايا الأمنية، كما اتفق الطرفان حينها على تعميق التبادلات من أجل تطوير التعاون الثنائي في مجال اللوجستيات والموانئ.

ويقول د. محمد بوشيخي في تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة إن اجتماعات اللجنة المشتركة الأولى والثانية، شكلت قفزة نوعية في علاقات البلدين التي تعود إلى عام 1991؛ وهو تاريخ اعتراف المغرب باستقلال أذربيجان، ثم إقامة علاقات دبلوماسية بينهما في عام 1992، وبعد ذلك لقاء العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني، بالزعيم الأذري آنذاك حيدر علييف، بمناسبة انعقاد القمة الإسلامية بالرباط في 1994. وشهدت العلاقات تطوراً في عام 2007 بتعيين أذربيجان أول سفير لها في الرباط، وقرار المغرب في 2008 بتعيين سفير له في باكو، مما مهد لانطلاقة جديدة في مسار العلاقات الثنائية سياسياً واقتصادياً.

ويضيف بوشيخي أن الاتفاقيات الموقعة والنيات المُعلنة وأهمية الوفود المشاركة وتصريحات المسؤولين من الجانبين المغربي والأذري، توحي بوجود رغبة مشتركة في فتح آفاق جديدة للعلاقات الثنائية تتجاوز مجالات التعاون التقليدية، وترتقي إلى مستوى شراكة صلبة ترسخها المصالح المشتركة.

هدف إستراتيجي

تقارب استراتيجي

يستجيب انفتاح المغرب على أذربيجان للهدف الإستراتيجي المُعلن من قبل العاهل الغربي الملك محمد السادس، خلال القمة المغربية – الخليجية بالرياض في أبريل 2016، بتوجه المغرب نحو تنويع شركائه. وهذا التوجه أملاه أساساً تلكؤ العواصم الأوروبية في حسم موقفها من قضية الصحراء، وانعكاس ذلك في مواقف محكمة العدل الأوروبية بإلغائها، في سبتمبر 2021، اتفاقيتين للاتحاد الأوروبي مع المغرب تشملان المنتجات الصحراوية.

وعقّب وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة على ذلك في نوفمبر 2021، بالحديث عن ضرورة التخلص “من منطق المساومة الذي تنهجه أوروبا” وإيجاد بدائل “جديدة تحترم السيادة المغربية”، فيما طالب برلمانيون مغاربة بالانفتاح “على فضاءات جديدة وواعدة بكل من القارة الآسيوية وأميركا اللاتينية”.

وتحقيقاً لذلك، عمل المغرب على مراجعة علاقاته مع شركائه التقليديين، خاصة بعد الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء في أواخر 2020، لتحفيزهم على توضيح موقفهم من هذه القضية، وكان من بين هؤلاء الشركاء إسبانيا وألمانيا اللتان أعلنتا عن مواقف لصالح المقترح المغربي بشأن الحكم الذاتي، بجانب دول أخرى مثل إيطاليا التي وقّع معها، في يوليو 2023، خطة عمل لتنفيذ “الشراكة الإستراتيجية متعددة الأبعاد”.

ويأتي ذلك انسجاماً مع تأكيد العاهل المغربي، في أغسطس 2022، أن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، والمعيار الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.

كما رفعت الرباط مستوى علاقاتها مع دول أخرى، إذ نُظمت زيارات ملكية إلى روسيا في مارس 2016 توجت بصدور “إعلان حول الشراكة الإستراتيجية المعمقة”، والصين في مايو 2016 لتوسيع نطاق الشراكة الثنائية، وقبلهما الهند في أكتوبر 2015 التي وقع معها منذ ذلك الحين أكثر من 40 اتفاقية. فضلاً عن دول أخرى تسير العلاقات معها نحو المزيد من التكامل مثل اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل.

وفي هذا السياق الإستراتيجي، يأتي التقارب مع أذربيجان ليدعم انفتاح المغرب على دول بعيدة جغرافياً لكنها واعدة اقتصادياً، مما يعزز مصالحه في مناطق جيوسياسية جديدة.

هدف جيوسياسي

التقارب مع أذربيجان يدعم انفتاح المغرب على دول بعيدة جغرافياً لكنها واعدة اقتصادياً

تستمد أذربيجان أهمية جيوسياسية متزايدة من موقعها الجغرافي كمركز لوجستي مهم في منطقة القوقاز وعلى مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا، وبالتالي حلقة ربط في سوق التجارة العالمية بين الغرب والشرق وبين الشمال والجنوب، فضلاً عن أنها واحدة من أسرع الدول النامية تقدماً على مستوى المؤشرات الاقتصادية.

وتشهد أذربيجان إصلاحات عميقة ومتسارعة تغطي المجالات الاقتصادية كافة. وبحسب الأرقام الصادرة عام 2020، تضاعف اقتصادها بنحو 3.2 مرة منذ 2003، والاقتصاد غير النفطي بـ2.8 مرة، فيما حققت فائضاً في الميزانية خلال الربع الأول من 2022 بحوالي 1.57 مليار دولار.

ويعزى هذا النجاح الاقتصادي إلى تخلي أذربيجان عن سياسة التخطيط الموجه، واعتماد اقتصاد السوق، خاصة بعد 20 سبتمبر 1994، وهو تاريخ توقيع الاتفاق التاريخي الشهير باسم “عقد القرن” الذي حملها إلى قلب الاقتصاد العالمي، بتطوير إستراتيجية نفطية شكلت القاعدة الأساس لاندماجها في منظومة الاقتصاد العالمي، كما جعل منها بلدا منفتحا وحديثا.

وكان من التبعات المباشرة لهذا الاتفاق، حصول البلد على الدعم الغربي والمؤسسات المالية الدولية خاصة صندوق النقد الدولي الذي وقع معها في عام 1995 اتفاقاً بشأن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أسفر عن استقرار العجز المالي عند حدود 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتخفيض التضخم، وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20 في المئة بين 1996 و1998.

وأصبحت أذربيجان، بفضل حسن استغلال موقعها، بلدا رئيسيا في منطقة القوقاز يتمتع بجغرافية دبلوماسية ممتدة عبر العالم، وتتوقف أعداد من القضايا الإقليمية على موقفها ودورها فيها، وهو الشيء الذي ساعدها مؤخرا على السيطرة على حوالي 20 في المئة من مجموع أراضيها بإقليم ناغورني قرة باغ والمحافظات السبع المجاورة له.

وتحفز هذه الأهمية الجيوسياسية لأذربيجان، المغرب على الارتباط بها اقتصادياً وتمتين العلاقات معها سياسياً، بما يخدم هدفه الإستراتيجي بتنويع شراكاته عبر الرفع من تنافسيته وجاذبيته، ثم تحقيق مكسبين دبلوماسيين يتمثلان في حشد الدعم الدولي لموقف المغرب من قضية الصحراء، وتعزيز موقعه كبوابة لأفريقيا.

تعزيز الشراكة

تتواتر تصريحات المسؤولين الأذريين بشأن دعم بلادهم لموقف المغرب في قضية الصحراء، ولخطوات هيئة الأمم المتحدة لحل النزاع المفتعل على أساس المقترح المغربي للحكم الذاتي وتوصيات مجلس الأمن بهذا الشأن.

وبالتالي من شأن تجسيد الإرادة المشتركة للبلدين، وإنعاش الاستثمارات المتبادلة، تعزيز الحضور الاقتصادي لأذربيجان على الأراضي المغربية بما فيها الأقاليم الصحراوية وافتتاح قنصلية بإحدى مدنها لتكون بذلك أول دولة من الجمهوريات السوفيتية السابقة تُقدم على هذه الخطوة.

وموقف أذربيجان من الصحراء يزكيه تقديرها لعضوية المغرب في فريق اتصال منظمة التعاون الإسلامي المعني بعدوان أرمينيا على أذربيجان، المنشأ في سبتمبر 2016، ودعمه لموقفها بشأن استرجاع أراضيها في إقليم ناغورني قرة باغ والمحافظات المجاورة له بناءً على قواعد القانون الدولي ووثيقة هلسنكي الختامية والقرارات الأربعة الصادرة في عام 1993 عن مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن.

ويعزز هذا الاحتمال الرغبة العميقة للبلدين في الارتقاء بعلاقاتهما إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية متعددة الأبعاد، الأمر الذي تؤكده مؤشرات بشأن إمكانية توسيع نطاق تعاونهما للمجال العسكري، إذ اجتمع عبداللطيف لوديي، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المغربية المكلف بإدارة الدفاع الوطني، مع مادات جولييف، وزير الصناعة الدفاعية بأذربيجان، لمناقشة آفاق التعاون العسكري بينهما، وذلك على هامش معرض الدفاع الدولي (آيدكس 2023) المنعقد بأبوظبي في فبراير 2023، حسب تأكيدات السفير الأذري. كما يسعى المغرب إلى توطين التكنولوجيا العسكرية من التقنيات الأذرية في إنتاج الطائرات من دون طيار، وقد يستفيد من خبرة باكو أيضاً في إدارة معاركها بإقليم ناغورني قرة باغ.

البعد الأفريقي

تشكل أفريقيا مدخلا رئيسيا لنشاط المغرب الدبلوماسي، باعتبارها عمقا إستراتيجيا له، وبصفته بوابتها نحو العالم العربي وأوروبا والأميركتين، وذلك بالنظر لموقعه الإستراتيجي كحلقة وصل بين الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا، واتفاقات التجارة الحرة التي تربطه بدول ذات اقتصادات كبرى، وعضويته في عدد من المنظمات الدولية مثل منظمة الاتحاد الأفريقي التي استعاد عضويته بها منذ يناير 2017، وتوجهه بطلب الانضمام إلى مجموعة “الإيكواس” في نهاية 2017، ثم حصوله في سبتمبر 2023 على صفة “شريك الحوار القطاعي” مع رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان” ومن قبلها صفة عضو ملاحظ لدى مجموعة دول “الأنديز” في يوليو 2020 لتكون بذلك تاسع منظمة إقليمية يحظى فيها بصفة عضو ملاحظ.

ويأتي حرص المغرب على استكشاف مؤهلات القارة الأفريقية والتعريف بها، والحديث مع شركائه حول أهمية الاتفاقيات “الثلاثية” التي تشمل دولها خاصة الواقعة في غربها والتي ما فتئ يعزز علاقاته بها وينوع مسارات التعاون معها لتشمل الجوانب الاقتصادية والدينية والأمنية “الإرهاب والهجرة”، والتي يسجل حضورا متزايدا بها عبر قطاعات مثل البنوك والاتصالات والنقل، ويسعى إلى تحقيق اندماج اقتصادي أقوى بينها من خلال “مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب”.

ولذا شملت مباحثات المسؤولين المغاربة مع نظرائهم الأذريين “آفاق إرساء تعاون ثلاثي، يعود بالنفع على البلدان الأفريقية الشريكة” وهو أمر يمكن أن يثير حماس أذربيجان التي تسعى إلى توسيع شبكة علاقاتها نحو فضاءات جغرافية أبعد، خاصة في أفريقيا التي تُعد سوقا واعدة تضم أكثر من مليار مستهلك، ولاسيما في ظل مساعي باكو للتحول إلى موطئ ارتكاز للسياسات الاقتصادية الأجنبية بمنطقة القوقاز وبحر قزوين وبؤرة استقطاب للاستثمارات الأجنبية في أراضيها.

*لينك المقال في العرب*