التعاون المفقود:

مخاطر تفاقم "الإجهاد المائي" في إثارة النزاعات بين الدول

25 September 2023


لم يكن من قبيل المبالغة القول إن الحروب القادمة سيكون أحد أهم أسبابها الصراع على مصادر المياه بين دول العالم، حيث بدأ هذا الصراع يتزايد بين العديد من الدول المُشاطئة لمصدر مياه واحد أو مصادر متعددة. وبدت ملامح مثل هذه الصراعات، التي تفاقمت في ظل التغيرات المناخية، من خلال عدة آليات، منها اللجوء إلى المنظمات الدولية للتظلم، وتبادل التهديدات المباشرة، واتخاذ إجراءات أُحادية الجانب مثل تغيير مسارات الأنهار أو بناء السدود؛ الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على علاقات هذه الدول ببعضها بعضاً.

الإجهاد المائي:

أشار تقرير لـ"معهد الموارد العالمية" (World Resources Institute)، نُشر بتاريخ 16 أغسطس 2023، بعنوان: (25 Countries, Housing One-quarter of the Population, Face Extremely High Water Stress)، إلى أن 25 دولة حول العالم مُعرضة لخطر شح المياه، بسبب ما وصفه التقرير بـ"الإجهاد المائي". وهذا ما قد ينتج عنه العديد من التداعيات الخطرة على سكان هذه الدول، تتعلق بصحتهم والغذاء المُتوفر لهم، ووظائفهم، وأمن الطاقة اللازمة لهم. ويأتي ذلك في ظل غياب سياسات مائية تتعلق بالحد من الاستخدام الجائر للموارد المائية، ونمو سكاني متسارع، وتغيرات مناخية متزايدة، فضلاً عن نقص الاستثمار في البنية التحتية للمياه.

وأشار التقرير إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى، ستكون مُعرضة بالكامل لمستويات إجهاد مائي مرتفعة جداً بحلول عام 2050. وفي هذا الإطار، ذكر التقرير إيران كمثال لسوء إدارة الموارد المائية لسنوات طويلة، الأمر الذي تسبب في تسريع عملية تعرضها لإجهاد مائي عالٍ، وذلك حتى قبل تعرضها لتداعيات التغيرات المناخية العنيفة الحالية، مما أدى إلى حدوث احتجاجات شعبية على خلفية شح المياه، وتوتر علاقاتها مع جيرانها.

أسباب متنوعة:

تشترك أغلب الدول المُعرضة لخطر الإجهاد المائي، أو تعاني منه بالفعل، في مسببات شح المياه، ونقص مصادر إمدادها، والتي ترجع إلى أسباب بشرية وأخرى طبيعية. إذ تتمثل الأسباب البشرية في الاستخدام الجائر وغير الرشيد لمصادر المياه، والاعتماد على زراعات كثيفة الري، مع محدودية المصادر المائية، فضلاً عن تدخل بعض الدول للتأثير في حصة دول أخرى مُشاطئة لنفس مصدر المياه؛ ببناء السدود، وتغيير مسارات الأنهار. أما الأسباب الطبيعية، فتتمثل في عوامل التغير المناخي، ونقص الأمطار، والجفاف، والتصحر. ويمكن الإشارة إلى أبرز الحالات في هذا الإطار، كالتالي:

1- سوء إدارة ملف المياه داخلياً: تتعدد حالات سوء إدارة الموارد المائية في الدول، وبالرغم من انحسار هذه التداعيات في دولة ما على الداخل، فإنها غالباً ما تدفع إلى اتخاذ سياسات متشددة مع الدول المُشاطئة لمصادر المياه المشتركة؛ بهدف السيطرة على ما تواجهه من تحديات نقص المياه في الداخل. وهذا ما يظهر بشكل جلي في حالات مثل إيران وأفغانستان، والعراق وإيران، وتركيا والعراق، ودول آسيا الوسطى وبعضها بعضاً.

ففي دولة غنية بالموارد المائية مثل أفغانستان، تمر عبر أراضيها عشرات الأنهار بروافدها، حيث تتدفق وتنتهي بعضها داخل أراضيها مثل نهري فراه وأرغنداب، فيما تشترك في بعضها الآخر مع دول الجوار، مثل نهر هلمند، ونهر كابُل الذي يُعد أحد روافد نهر السند بباكستان، ونهر آمو داريا المشترك مع طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. أدى سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية لعشرات السنوات، إلى إهمال ملف المياه، وغياب الاهتمام بتدشين مشروعات تنموية للحفاظ على هذه الموارد، وترك المجال أمام المواطنين والجماعات المسلحة المُتناحرة للسيطرة على مجاري الأنهار واستغلالها بشكل جائر في الأقاليم الواقعة تحت سيطرتها، في ظل غياب آليات لتنظيم استغلال الموارد المائية المتاحة بشكل عادل بين أقاليم الدولة. وهذا ما أدى إلى جفاف أقاليم بعينها ولاسيما في شرق وجنوب أفغانستان، بسبب انحسار مياه الأنهار عنها بفعل الاستخدام الجائر في أقاليم المنبع، وبسبب التصحر والجفاف الذي تعاني منه البلاد بشكل كبير، وهو ما جعلها تأتي في المرتبة الـ40 عالمياً ضمن الدول المُعرضة للإجهاد المائي العالي، حسب تقرير "معهد الموارد العالمية" عام 2023. وهذا نتج عنه نقص المحاصيل الزراعية، وارتفاع أسعار الغذاء، وتزايد معدلات النزوح الداخلي وكذلك الهجرة إلى الخارج، فضلاً عن تلوث الأنهار الذي عرض الباقين من السكان لأزمة شديدة من نقص المياه.

وفي إيران، على الرغم من أن أزمة شح المياه قد توقعها وزير الزراعة الإيراني الأسبق، عيسى كالانتاري، عام 2015، حيث أقدم على التحذير من تداعيات هذه الأزمة على البلاد وأنها ستدفع ما يقرب من 50 مليون إيراني إلى الهجرة أو النزوح؛ فإن الحكومات الإيرانية المتعاقبة لم تغير من سياساتها غير الرشيدة في إدارة ملف المياه. وحسب آخر الإحصاءات المتاحة في هذا الإطار، تعاني أكثر من 5 آلاف قرية في إيران من شح المياه، فيما يتم إمداد حوالي 7 آلاف قرية أخرى بالمياه بواسطة صهاريج مياه عذبة. 

ونتج هذا العجز المائي بسبب استهلاك ما يقرب من 90% من الموارد المائية السطحية والجوفية في إيران، وعدم تجدد مصادر المياه في ظل التصحر ونقص كميات الأمطار، فضلاً عن الاستمرار في الاعتماد على الزراعات كثيفة الري، وتلوث أغلب موارد المياه المتاحة بمياه الصرف الصحي. ومع غياب مشروعات تنموية، جعل كل ذلك إيران تأتي في المرتبة الـ14 في قائمة الدول المُعرضة للإجهاد المائي، وفقاً لتقرير "معهد الموارد العالمية".

2- إشكالية بناء السدود: يُعد بناء السدود من أكثر السياسات إثارة للخلاف بين الدول المُشاطئة لمورد مائي. وتبرز في هذا السياق استراتيجية تركيا في بناء وملء السدود، التي عمدت إليها بإدخالها أكثر من سد للخدمة، منها سد أليسو على نهر دجلة عام 2018، وذلك بملئه بالتزامن مع قيام إيران بتغيير مسارات روافد النهر ذاته، مما تسبب في التعجيل بجفاف النهر خاصةً في مناطق شمال العراق، وتحوله إلى ما يشبه البرك. فيما دعا العراق إلى الاستخدام العادل لنهر دجلة بين العراق وتركيا وإيران، وهدد في أكثر من مناسبة باللجوء إلى المؤسسات الدولية بعد التأثر الشديد للنهر، ولاسيما بعد تحويل إيران مسار نهر الكارون بالكامل، وإقامتها لثلاثة سدود كبيرة على نهر الكرخة. وأعدت وزارة الموارد المائية العراقية دعوى قضائية دولية ضد طهران، بسبب جفاف الأهوار في العراق، على خلفية إقدامها على تحويل مجرى 6 أنهار أدت إلى منع تدفق مياه الأنهار المشتركة إلى العراق، وهي أنهر سيروان والكارون والكرخة والوند والزاب الصغير والطيب.

كذلك تصاعد الخلاف بين تركيا وإيران العام الماضي؛ بسبب حصة الأخيرة في تدفقات نهر آراس مع ملء السدود التركية الثلاثة على النهر الذي يمر بإيران وأذربيجان وأرمينيا. ومما يزيد صعوبة الخلاف على حصة إيران من هذا النهر؛ هو عدم وجود اتفاق بين الطرفين ينظم توزيع تدفقات النهر بين الدول المُشاطئة له. كما يضعف موقف إيران أمام تركيا بسبب عدم استطاعتها اتخاذ خطوات قضائية ضد أنقرة؛ لأن الأخيرة ليست عضواً في اتفاقية نيويورك لعام 1997، المعنية بمسألة إدارة المياه العذبة المشتركة بين الدول والتي تُلزم الموقعين عليها بالالتزام بها.

كما اتهمت إيران، أفغانستان بمنع حصتها من مياه نهر هلمند، من خلال إغلاقها السدود على النهر وتغيير مساراته، مما تسبب في منع تغذية بحيرة هامون في إقليم سيستان بلوشستان، وهو ما نفته حركة طالبان أكثر من مرة.

انعكاسات سلبية:

نتج عن الإجهاد المائي للعديد من الدول، عدد من التداعيات الداخلية والمتصلة بسياستها مع الدول المُشاطئة لمواردها المائية، ويمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي:

1- اندلاع احتجاجات داخلية: تُعد إيران من الدول القليلة التي أدت أزمة شح المياه فيها إلى احتجاجات شعبية خلال العامين الماضيين، شهدتها العديد من المدن ولاسيما الحدودية التي تعاني أكثر من مدن المركز من أزمات شح المياه، وبصفة خاصة إقليم الأحواز، الذي حول النظام الإيراني مسارات أنهاره لخدمة أقاليم ومدن المركز، الأمر الذي أدى إلى تصحر أغلب الأراضي الزراعية في الإقليم. وكذلك في إقليم سيستان بلوشستان ذي الطبيعة الجغرافية الصعبة، والذي شهد بدوره احتجاجات عنيفة، بسبب قطع الكهرباء، وتصحر الأراضي، وجفاف الأهوار؛ في ظل غياب شبة تام للتنمية في هذا الإقليم.

وبالمثل، شهد العراق، ولاسيما في محافظات الجنوب في يوليو الماضي، احتجاجات على تسبب تركيا وإيران في نقص المياه بشكل كبير في البلاد، حيث حمّل المحتجون العراقيون الدولتين الجارتين مسؤولية انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات وروافدهما، ودعوا إلى مقاطعة السلع التركية والإيرانية، وتدويل هذا الملف. وتجدر الإشارة إلى أن العراق يحتل المرتبة الـ23 بين الدول التي تعاني من "الإجهاد المائي"، حسب تقرير "معهد الموارد العالمية" لعام 2023.

2- نشوب صراعات حدودية: تشترك المناطق والدول التي تُصنف بأنها الأكثر عُرضة للإجهاد المائي، في معضلة إدارة الموارد المائية المُشتركة بين أكثر من دولة؛ في ظل تغيرات مناخية متسارعة وضاغطة على هذه الدول، مما جعل بعضها يعيد فتح ملف نزاعاتها المائية مع دول جوارها، ولاسيما الدول المُشاطئة لأنهر دجلة والفرات وهلمند وآراس، فضلاً عن نهري سيحون وجيحون في آسيا الوسطى.

فعلى سبيل المثال، تسبب النزاع بين إيران وأفغانستان على حصة الأولى في مياه نهر هلمند، في نشوب عدة اشتباكات بين حرس حدود البلدين، بعضها لم يتعد حدود المناوشات، إلا أنها تصاعدت في مايو الماضي باستخدام أسلحة متوسطة وكثيفة في منطقة "ماككي" الحدودية، ونتج عنها مقتل عنصرین من حرس الحدود الإيراني وإصابة مواطنین اثنين في هذه المواجهات.

وفي هذا الإطار، ذكر تقرير لوكالة "بلومبرغ" الأمريكية، في 8 أغسطس الماضي، أن حركة طالبان أقدمت على نشر آلاف من مقاتليها على الحدود مع إيران بعد أزمة المياه بين البلدين، والتي أدت إلى تبادل التهديدات. بيد أن هذا النزاع على الأرجح قد شهد هدوءاً، عقب موافقة طالبان على استقبال وفد من الخبراء الإيرانيين، الذين كشفوا أن نقص إمدادات نهر هلمند لإقليم سيستان بلوشستان هو بفعل التغير المناخي والجفاف الذي تعاني منه أفغانستان.

وفي سياق آخر لتوتر العلاقات بسبب الموارد المائية، فقد عملت الهند على مساعدة أفغانستان في بناء سدود على أنهار مشتركة مع باكستان، الأمر الذي قوض العلاقات الباكستانية الأفغانية، وزادها توتراً، ولاسيما أن نهر السند الذي يُعد نهر كابُل أحد روافده، تعتمد عليه باكستان بنسبة 80% من إمدادات الري للأراضي الزراعية، في الوقت الذي تتنازع فيه باكستان مع الهند بسبب السدود التي شيدتها الأخيرة على منبع النهر في كشمير الهندية. علاوة على نزاع باكستان مع الهند على نهر سياشين الجليدي، والذي يُوصف بأنه أكبر ساحة للتنازع المائي، في ظل السعي للسيطرة على المورد المائي المهم.

ختاماً، يمكن القول إن تزايد أزمات إدارة الدول للموارد المائية العابرة للحدود، لا يعتمد فقط على محاولات ضمان القدر الأكبر من الاستفادة من هذه الموارد دون الأخذ في الاعتبار حصص الشركاء في هذه الموارد، وإنما يعتمد على تاريخ طويل من إهدار المياه وسوء استخدامها، إلى جانب عامل أساسي وهو التغيرات المناخية، وموجات الجفاف المستمرة؛ الأمر الذي يتسبب في شح المياه والتحول إلى مرحلة الإجهاد المائي، التي تدفع بدورها إلى تجدد النزاعات المائية لسد العجز وتلبية الطلب المتزايد على المياه. وأصبح ذلك يستدعي الاحتكام إلى القوانين الدولية والاتفاقيات المنظمة لحصص الشركاء في الموارد المائية، والعمل على وضع استراتيجيات وطنية للحفاظ على ما تبقى من مصادر المياه.