قيود واشنطن:

اتجاهات التنافس الاستراتيجي العالمي على أشباه الموصلات

05 August 2023


عرض: دينا محمود

تعكس التطورات الجارية في فنون الحرب، بداية من استخدام الطائرات من دون طيار وصولاً إلى المعارك غير المرئية في الفضاء السيبراني والمجال الكهرومغناطيسي، الدور الحاسم الذي تؤديه قوة الحوسبة والذكاء الاصطناعي، والتي تعتمد بالأساس على أشباه الموصلات، وهي رقائق السيليكون الصغيرة التي تشكل ركيزة حياتنا اليومية، كما توفر قدرات التوجيه والاتصال والكشف ومعالجة المعلومات لأنظمة الأسلحة التي تستخدمها الجيوش. بالتالي، فإن احتفاظ الولايات المتحدة وحلفائها بدورهم الرائد في تصميم وتصنيع الرقائق يُشكل محدداً حاسماً في تطور ميزان القوى، ولاسيما في آسيا. 

 في هذا السياق، طرحت أخيراً المجلة الفرنسية المتخصصة (Le Grand continent) ورقة بحثية حول التنافس التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة، من خلال التطرق إلى ماهية أشباه الموصلات والفاعلين الرئيسيين في هذا المجال في إطار التنافس الدولي الراهن، وفي ضوء العقوبات الأمريكية الأخيرة على الصين والتي من شأنها إحياء أهمية هذا المجال من المنافسة الاستراتيجية. 

طبيعة أشباه الموصلات: 

تُمثل أشباه الموصلات (والتي يشار إليها أيضاً باسم الدوائر المتكاملة CI، أو الرقائق الدقيقة) الأساس التكنولوجي اللازم للإلكترونيات الدقيقة، حيث تنقسم أشباه الموصلات إلى فئتين رئيسيتين: الرقائق التناظرية، وهي منتجات أبسط مثل: أجهزة الاستشعار والمحركات والمذبذبات، والرقائق الرقمية. وتدخل أشباه الموصلات في كافة المنتجات الإلكترونية في حياتنا اليومية، مثل الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر أو السيارات، كما أنها موجودة في العديد من القطاعات الحيوية للدفاع والأمن القومي، بما في ذلك أنظمة الأسلحة وتكنولوجيا الفضاء. 

ويُعد القطاعان الرئيسيان المستهلكان لأشباه الموصلات، هما: تكنولوجيا الحاسبات (أجهزة الكمبيوتر والخوادم) والاتصالات (الهواتف الذكية)، حيث مثلا على التوالي 225 مليار دولار و170 مليار دولار في عام 2021، أي ما يقرب من ثلثي السوق العالمي لأشباه الموصلات، ومن المُتوقع بحلول عام 2030 أن يشكل هذان القطاعان وحدهما حوالي 350 و280 مليار دولار على التوالي.  

بالمثل، تشير التقديرات المتعلقة بحجم سوق أشباه الموصلات العالمي إلى أنه سيشهد زيادة بنسبة 60% تقريباً في عام 2030 مقارنة بعام 2021. ففي عام 2021، وصلت عائدات أشباه الموصلات إلى مستوى قياسي بلغ 555.9 مليار دولار بنمو سنوي يبلغ 26.2% مقارنة بالعام السابق له. ومن المتوقع أن تصل إلى 662.3 مليار بنهاية عام 2023 بمعدل نمو 4.6% مقارنة بعام 2022 بسبب نقص الرقائق وتصاعد التضخم وارتفاع تكاليف الطاقة. 

دورة سلسلة القيمة: 

تبدأ دورة سلسلة القيمة (Value Chain) لأشباه الموصلات بالبحث والتطوير، ثم تصميم الرقائق، والتصنيع، والتجميع، وأخيراً الاستخدامات اليومية للمعدات الإلكترونية. وتتميز هذه السلسلة بتأثيرات الاعتماد المتبادل وما يسمى بتقنيات نقاط الاختناق (choke point technologies)، حيث يتمتع أولئك الذين يتحكمون في هذه التقنيات بميزة استراتيجية كبرى. فبالإضافة إلى كل الولايات المتحدة والصين، فإن الفاعلين الرئيسيين الآخرين في صناعة أشباه الموصلات هم أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وهو ما يمكن توضيحه كالآتي: 

- الولايات المتحدة: تؤدي الشركات الأمريكية دوراً مهيمناً للغاية في المراحل الأولية لسلسلة القيمة (البحث والتطوير، والتصميم) وفي التسويق (47% من الرقائق المباعة في عام 2020 تمت من قبل الشركات الأمريكية)، مما يمكنها من إنتاج 38% من القيمة المضافة العالمية للقطاع. مع ذلك باتت الولايات المتحدة مسؤولة فقط عن إنتاج حوالي 13% من الإنتاج العالمي للرقائق مقارنة بـ37% في عام 1990، ويُعزى ذلك إلى أن العديد من الشركات الأمريكية في هذا القطاع تخصصت في تصميم الرقائق وتسويقها، بينما تستعين بالدول الأجنبية للإنتاج خاصة في شرق آسيا. 

لذلك، تعتمد العديد من الشركات الأمريكية الكبيرة الآن بشكل كبير على شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية (TSMC)، كمسبك رائد لإنتاج أشباه الموصلات في العالم، فالرقائق التي صممتها (Apple) لتجهيز أجهزة (iPhone) و(iPad) والأجهزة المنزلية المختلفة تنتجها تايوان، كما تم تسليط الضوء على هذا الدور الأساسي لـ(TSMC) في إمداد الولايات المتحدة بالرقائق خلال زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي، في أغسطس الماضي لتايوان، حيث عمدت الأخيرة لعقد لقاءات مطولة مع كبار المسؤولين التنفيذيين في (TSMC). مع ذلك، إذا نظرنا إلى الاستهلاك النهائي للرقائق في الولايات المتحدة، فيبدو أنها لا تزال أكبر سوق استهلاكي لأشباه الموصلات في العالم بنسبة 25%، تأتي الصين بعدها مباشرة بنسبة 24%، تليها أوروبا بـ20%، واليابان بنحو 6%، وأخيراً كوريا الجنوبية وتايوان. 

- الصين: حققت تقدماً مثيراً للإعجاب في صناعة أشباه الموصلات على مدار العقدين الماضيين، حيث أصبحت الصين واحدة من أفضل ستة فاعلين في هذا المجال، فضلاً عن أنها أكبر مستورد لأشباه الموصلات في العالم. ففي العام 2021، استوردت أكثر من 430 مليار دولار من أشباه الموصلات، جاء 36% منها من تايوان، بينما تم إنتاج 15.7% فقط من احتياجاتها في الداخل الصيني. وفي عام 2020، كان الميزان التجاري للصين يعاني من عجز قدره 233.4 مليار دولار في مجال أشباه الموصلات. 

وتجدر الإشارة، إلى أن نسبة كبيرة من أشباه الموصلات تستخدم كمُدخلات لمنتجات إلكترونية صينية مُعدة للتصدير، لذلك يتم إعادة تصديرها داخل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، وهذا يُفسر سبب تمثيل الصين نسبة لا تتعدى 24% فقط من الطلب النهائي على الرقائق. 

مع ذلك، شهدت صناعة أشباه الموصلات بعض النمو في الصين بفضل الاستثمار الأجنبي في البداية، كما ارتفعت مبيعات شركات أشباه الموصلات الصينية من 13 مليار دولار فقط في عام 2015 (3.8% من السوق العالمية)، إلى 39.8 مليار دولار في عام 2020، أي بمعدل نمو سنوي غير مسبوق قدره 30.6% (9% من السوق العالمية). ويرجع ذلك إلى تطوير نظام (فابليس fabless) المتخصص في التصميم (كشركة HiSilicon التابعة لشركة Huawei، وOmnivision) وتطور المسابك، وعلى رأسها "المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات" (SMIC) بشكل أساسي. 

- الاتحاد الأوروبي: يؤدي المنتجون الأوروبيون المتكاملون (STMicroelectronics) و(NXP) و(Infineon) دوراً أساسياً في إنتاج الرقائق التناظرية في صناعة أشباه الموصلات، والتي تلبي احتياجات الصناعات الأوروبية (كالسيارات، وأجهزة الاستشعار للأدوات الآلية، وما إلى ذلك). لكن مع غياب صناعة المعدات الحاسوبية (أجهزة الكمبيوتر والخوادم والهواتف الذكية)، يظل الطلب على المعالجات أو رقائق الذاكرة محدوداً. بالتالي، يمكن ملاحظة أن نسبة الاستثمارات الأوروبية في قطاعات السيارات (30%) والروبوتات (28%) والفضاء (14%) أعلى بكثير مما هي عليه في بقية العالم. وعلى العكس من ذلك، يتراجع الاتحاد الأوروبي من حيث الاستثمار في الاتصالات (4.8%) وأجهزة الكمبيوتر (7%). ولكن يمتلك أصلاً استراتيجياً مهماً يتمثل في شركة (ASML) الهولندية، والتي تحتكر التصنيع والتوريد لآلات التصوير الضوئي بالأشعة فوق البنفسجية في العالم الضرورية لإنتاج أحدث جيل من الرقائق، وهي من المعدات المعقدة، والتي تبلغ تكلفتها أكثر من 100 مليون يورو للوحدة. 

- تايوان وكوريا الجنوبية: تُعد شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية (TSMC) من الشركات الكبرى في العالم، فتُمثل وحدها 53% من سوق أشباه الموصلات العالمي، حيث وفرت هذه الشركة حوالي 92% من الرقائق الأكثر تقدماً في عام 2019، وفقاً لتقرير صادر عن مجموعة بوسطن الاستشارية. وتمارس كوريا الجنوبية احتكاراً لقطاع رقائق الذاكرة، حيث تؤدي شركة (سامسونج Samsung) دوراً استراتيجياً في مجال أشباه الموصلات لأنها ثاني أكبر مُنتج في العالم، حيث تبلغ حصتها ما يزيد عن 17% من السوق العالمي لإنتاج أشباه الموصلات مع منافستها وهي شركة (SK Hynix)، كما أن أنها مهيمنة في قطاع بطاقات الذاكرة، حيث حققت كوريا 62% من المبيعات العالمية في 2018.  

وحتى الآن، تصنع كل من (TSMC) (تايوان) و(سامسونغ) (كوريا الجنوبية) أشباه الموصلات على أساس تقنية 7 نانومتر، وتعتمد الهواتف الذكية المتطورة على أشباه الموصلات من تقنية 7 نانومتر على الأقل لمعالجاتها الدقيقة، مما يعني أن الاقتصاد الرقمي العالمي، بما في ذلك الصين، يعتمد على تايوان وكوريا الجنوبية. 

صراع واشنطن وبكين: 

في العام 2022، فرضت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عقوبات وقيود تصدير مشددة تجعل من المستحيل عملياً على الشركات بيع الشرائح ومعدات تصنيع الرقائق والبرامج التي تحتوي على التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين. ولا تنطبق العقوبات على الشركات الأمريكية فحسب، بل أيضاً على جميع أولئك الذين يستخدمون المدخلات الأمريكية في عمليات الإنتاج الخاصة بهم (الملكية الفكرية، وبرامج التصميم، وما إلى ذلك).  

وإذا كان البعض يرى هذه العقوبات عودة لنهج الحرب الباردة، فإنها تدلل أيضاً على محورية قطاع أشباه الموصلات في التنافس التكنولوجي العالمي، ولاسيما وأن الفاعلين المعنيين هم أيضاً فاعلون جيوسياسيون رئيسيون، لكن هناك سلسلة من العوامل تساعد في تأكيد أهمية أشباه الموصلات بشكل أكبر، على غرار التحول الرقمي العالمي المستمر، والآثار المدمرة لوباء "كوفيد19" على سلاسل التوريد والحرب في أوكرانيا مما يؤثر في إمدادات المواد الخام. 

ويُشكل الانخفاض الحاد للغاية في حصة الولايات المتحدة في إجمالي إنتاج أشباه الموصلات من 37% في عام 1990 إلى 12% في عام 2020، تحدياً كبيراً لواشنطن، حيث كان لأزمة "كوفيد19" ومشاكل سلسلة التوريد تأثير قوي في قطاعات عديدة مثل قطاع السيارات، من خلال زعزعة استقرار الإنتاج والمساهمة في التضخم، كما عززت التوترات حول تايوان الرغبة الأمريكية في الاكتفاء الذاتي. 

لذلك، وافق الكونغرس الأمريكي في يوليو 2022، ضمن قانون الرقائق والعلوم، على تمويل برامج قانون (CHIPS for America رقائق لأجل الولايات المتحدة الأمريكية)، الذي يهدف إلى دعم السيادة الأمريكية من حيث تصنيع أشباه الموصلات، وقدرتها التنافسية وأخيراً أمنها القومي. وتأتي المساعدات المالية في صميم هذا البرنامج، بأموال تصل إلى أكثر من 50 مليار دولار، بما في ذلك 39 مليار دولار لدعم الاستثمارات التي تهدف إلى بناء أو توسيع أو تحديث المرافق والمعدات الوطنية للتصنيع والتجميع والاختبار والتعبئة المتطورة للرقائق فضلاً عن 13 مليار مخطط لدعم البحث والتطوير. كما يضع القانون ضمانات لعدم تمكن متلقي الأموال الفدرالية من إنتاج أشباه موصلات في البلدان التي تشكل خطراً على الأمن القومي، بما في ذلك الصين أو روسيا.  

على جانب آخر، تضاءل دور الاتحاد الأوروبي على مدى العقدين الماضيين في بناء سلسلة إمداد متمركزة حول المحيط الهادئ، فبالنسبة لوزنه الاقتصادي (ما يقرب من 23% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، تبلغ حصة الاتحاد من عائدات أشباه الموصلات العالمية حوالي 10%، و6% فقط لقطاعي الحوسبة والاتصالات. فمحدودية القدرات الإنتاجية لتلبية الطلب المستقبلي، وارتفاع تكاليف الدخول، وعدم كفاية الوصول إلى التمويل والأنظمة المختلفة مقارنة بالمناطق الأخرى، تهدد قدرة الشركات الأوروبية على البقاء قادرة على المنافسة في هذا السوق. 

وتتضمن الاستراتيجية الأوروبية لاستعادة القيادة في هذا المجال اعتماد قانون الرقائق، الذي تم اقتراحه في فبراير 2022، وهو أول أداة تسمح للاتحاد الأوروبي بدخول لعبة أشباه الموصلات الكبرى من خلال دعم تطوير المصانع القادرة على إنتاج أشباه الموصلات الأكثر تقدماً بكميات كبيرة. وتتمثل الأهداف الرئيسية لقانون الرقائق في دعم الابتكار في النظام البيئي الأوروبي لأشباه الموصلات وأمن سلسلة التوريد حتى إن المفوضية الأوروبية أعلنت أن الاتحاد يهدف إلى الوصول إلى 20% من الإنتاج العالمي بحلول عام 2030.  

أثر القيود الأمريكية: 

سيكون للإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة الأمريكية أخيراً تأثير على سوق أشباه الموصلات، إذ تهدف إلى تقييد الشركات التي ترسل الرقائق ومعدات تصنيع أشباه الموصلات إلى الصين، في حين أن الإجراءات السابقة كانت تستهدف في كثير من الأحيان الشركات الفردية ومجموعة أضيق من التقنيات. 

وأوقف الموردون الأمريكيون دعم المعدات المثبتة بالفعل في (YMTC) (Yangtze Memory Technologies، الشركة الصينية المصنعة لأشباه الموصلات)، كما أوقفوا تركيب الأدوات الجديدة وسحبوا الموظفين الأمريكيين الموجودين في (YMTC). وتميل السلوكيات الأمريكية إلى إعاقة قدرة الصين على تطوير الرقائق الأكثر تقدماً وتجنب التصعيد نحو حرب باردة جديدة. 

وتنفق الصين مليارات الدولارات لتطوير صناعة أشباه موصلات محلية أقل اعتماداً على بقية العالم، لكن صانعي الرقائق هؤلاء لا يزالون بحاجة إلى شراء معدات عالية التخصص من الموردين في الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى وأجزاء من آسيا. وتدرك الولايات المتحدة هذا الأمر وتكثف استراتيجيتها لخنق تطوير صناعة أشباه الموصلات المستقلة في الصين. 

ختاماً، زاد الصراع الروسي الأوكراني من مدى أهمية التنافس الجيوستراتيجي حول أشباه الموصلات، حيث تبحث روسيا عن أشباه الموصلات التي تحتاجها لدعم مجهودها الحربي، وعلى الرغم من التحركات التي تقوم بها موسكو للحصول على أشباه الموصلات بطرق غير مباشرة، لكن يبدو أن استراتيجية العقوبات الغربية بدأت تفرض مزيداً من القيود عليها، حيث تستمر الإمدادات الروسية في التضاؤل. 

 لذا، يسعى الغرب حالياً لاستغلال العجز التكنولوجي لروسيا وافتقارها إلى أشباه الموصلات اللازمة لتشغيل أنظمة القتال الحديثة بالإضافة إلى أجهزة المراقبة أو صور الأقمار الاصطناعية. ونتيجة لهذه الإجراءات، أصبحت روسيا الآن في أمس الحاجة إلى أشباه الموصلات الأكثر تطوراً لدعم صناعة الأسلحة لديها. 

المصدر: 

Guerre technologique: 10 points sur les semiconducteurs,  Le Grand Continent, Novembre 2022.