لماذا تتعثر اتفاقيات وقف إطلاق النار في دول الصراعات؟

03 July 2023


يشير تعبير اتفاقيات وقف إطلاق النار أو الهُدنة إلى تلك الاتفاقيات التي يتم إبرامها لوقف العمليات العسكرية الدائرة بين طرفين أو أكثر، وذلك لأسباب إنسانية تتعلق برعاية المصابين وحماية المدنيين أو لخفض حالة التوتر، والبحث عن تسوية سلمية للصراع.

ومن أمثلة تلك الاتفاقيات، بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918 اتفاقية وقف إطلاق النار بين الحلفاء والدولة العثمانية التي أنهت الحرب في الشرق الأوسط، والاتفاقية بين الحلفاء وألمانيا بشأن الجبهة الغربية في أوروبا والتي أدت إلى توقيع معاهدة فرساي. ومن أمثلتها أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية، الاتفاقيات المُبرمة بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا ولبنان والأردن عام 1949، والاتفاقية التي أنهت الحرب الكورية في عام 1953، والاتفاقيات بين مصر وإسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر 1973، والاتفاقيات التي أنهت التدخل الأمريكي في فيتنام في نفس العام. ومنها أيضاً، الاتفاقية بين جورجيا وأبخازيا عام 1994، والاتفاقية بين إسرائيل ولبنان عام 2006. 

ويُلاحظ أن جميع هذه الأمثلة تتعلق بصراعات وحروب بين دول، ولذلك من الضروري الأخذ بعين الاعتبار في التحليل نماذج أخرى لاتفاقيات وقف إطلاق النار في أعقاب تفكك دولة قائمة أو في صراعات أهلية تدور في داخل الدولة والتي تشترك فيها القوات الحكومية وقوات إحدى التنظيمات والمليشيات المسلحة المعارضة أو المتمردة والتي يُطلق عليها تعبير "الفاعلين العنيفين من غير الدول". ومن أمثلتها اتفاقيتي واشنطن لوقف إطلاق النار بين كرواتيا وكل من صربيا وجمهورية البوسنة والهرسك في مارس 1994 في أعقاب تفكك الاتحاد اليوغسلافي، واتفاقية دايتون التي أنهت الحرب بين صربيا وجمهورية البوسنة والهرسك في نوفمبر 1995. 

ومن هذه الأمثلة أيضاً، اتفاقية "الجُمعة الطيبة" التي أبرمتها الحكومتان البريطانية والإيرلندية وعدد من الأحزاب في إيرلندا الشمالية عام 1998، والتي بمقتضاها تم الاتفاق على قواعد تقاسُم السلطة بين الأحزاب الاتحادية والأحزاب القومية. وشهدت دول أمريكا اللاتينية عديداً من اتفاقيات وقف إطلاق النار بعد نشوب القتال بين القوات الحكومية والتنظيمات المسلحة المتمردة والتي كان من أحدثها الاتفاقية بين الحكومة وجيش التحرير الوطني في كولومبيا في يونيو 2023. 

وفي المنطقة العربية، شهد السودان أكثر من اتفاقية لوقف إطلاق النار لحروب داخلية كالاتفاقية بين الحكومة والجماعات المتمردة عام 2006، والاتفاقية مع الجماعات المتمردة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق عام 2016. ومنها أيضاً في دولة جنوب السودان، الاتفاقية المُبرمة بين الحكومة والجماعات المتمردة عام 2018. 

والسؤال هو لماذا نجحت بعض اتفاقات وقف إطلاق النار بين المُتنازعين في وقف العمليات العسكرية وبدء مباحثات لإنهاء الصِراع، بينما فشلت جهود أخرى كتلك التي نراها اليوم في الصراع الدائر في السودان ومن قبله في ليبيا واليمن؟

خمسة محددات:

لا يوجد سبب أو تفسير واحد يمكن تعميمه على هذه الحالات بسبب اختلاف الظروف السياسية وأسباب الصراع المسلح، وتوازن القوى بين القوات الحكومية والتنظيمات المسلحة. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى خمسة عوامل هي:

1- ضعف أو انعدام الثقة المتبادلة بين الأطراف المتقاتلة، واعتقاد كل منها بسوء نيات الطرف الآخر وأنه لن يلتزم بالتعهدات المترتبة على وقف إطلاق النار، أو أنه سوف ينتهز أول فرصة لانتهاكها. ومن ثم، تتردد الاتهامات المتبادلة بين الأطراف بانتهاك وقف إطلاق النار. وهو على سبيل المثال ما يحدث حالياً بين قادة الجيش وقوات الدعم السريع في حالة السودان.  ويزيد من هذا الشعور وجود تاريخ للتنصل من الالتزامات بين الطرفين، وانتماء أطراف النزاع إلى قبائل وإثنيات متصارعة أو على الأقل متنافرة، واستمرار التصريحات والتحركات الاستفزازية من أحد الأطراف أو كليهما، مما يزيد من درجة الشك في نيات الأطراف الأخرى.

2- اعتقاد أحد أطراف الصراع بإمكانية الحسم العسكري وأن لديه فرصة لهزيمة الخصم أو الخصوم في ميدان المعركة. ففي هذه الحال، لا تكون لدى قادة هذا الطرف الرغبة في وقف إطلاق النار، لأن ذلك في تصوره سوف يحرمه من إمكانية تحقيق فوز عسكري حاسم، وفرض شروطه كاملة على الطرف المهزوم. وفي هذه الحال أيضاً، يكون القبول العلني بجهود الوساطة هو من قبيل المُناورة السياسية لالتقاط الأنفاس وإعادة تزويد مخازنه بالسلاح والذخيرة. 

3- تعدد أطراف القتال وتنوع أهدافها وعدم خضوعها جميعاً لقيادة واحدة، ففي بعض الحالات تكثر المليشيات العسكرية والتنظيمات العشائرية والقبلية والطائفية، والمجموعات المناطقية، والتي تحمل السلاح دفاعاً عن مصالح فئوية أو جهوية، على النحو الذي نشهده في ليبيا وسوريا والسودان وجنوب السودان، وفي بعض مراحل تطور الصراع الداخلي في العراق واليمن ولبنان. وفي هذه الحالات، يكون نشوب القتال والحرب الأهلية كاشفاً لحجم الانقسامات الاجتماعية، ولوجود "الدولة الهشة" أو "الفاشلة" التي عجزت عن القيام بالمهمة الأولى لأي دولة، وهي الحفاظ على أمن إقليمها وتماسكه. 

4- دور القوى الخارجية التي لا يكون في مصلحتها وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، فتتدخل في الصراع، أحياناً بشكل مباشر في صورة أفراد وخبراء ومدربين، وفي أغلب الأحيان في صورة تزويد حلفائها المحليين بالمال والسلاح والذخائر، وتشجعهم على عدم الانخراط في وساطات وقف إطلاق النار، أو عدم احترامها. وهو ما يعطي لهذه الحالات صفة "الحرب بالوكالة"، فتصير الحروب الأهلية هي ساحة الصراع والمنافسة بين القوى الإقليمية والدولية، ويكون من الصعب احترام اتفاقيات وقف إطلاق النار من دون موافقة "الدولة أو الدول الراعية" لأطراف القتال، كما هو الحال مثلاً في ليبيا واليمن. وفي ضوء ذلك، يمكن فهم قرار مجلس الأمن الدولي بحظر توريد السلاح إلى ليبيا الذي صدر عام 2016 ويتم تجديده سنوياً ولكن لم تحترمه كثير من الدول.

5- حجم الوزن المادي والمعنوي للدول التي تقوم بالوساطة، فكلما امتلكت تلك الدول ما يكفي من أوراق الضغط والتأثير في سلوك أطراف الحرب والتي تشمل مزيجاً من "العصا والجزرة"، تزداد فرصة تأثيرها وتسهل إمكانية نجاح وساطتها. ومع ذلك، فإنه لا ينبغي قبول هذا الرأي على إطلاقه. فعلى سبيل المثال، فإن الوساطة الراهنة في السودان تقودها الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية اللتان تملكان قدراً كبيراً من التأثير في طرفي الصراع، ومع ذلك، لم تنجح وساطتهما في وقف إطلاق النار. وترتبط بهذه النقطة قدرة الدول الراعية لوقف إطلاق النار على إقامة نظم الرقابة والرصد لسلوك المتحاربين لمعرفة أي من الأطراف يقوم بانتهاك الهدنة وعقابه.

إخفاق بناء الدولة:

تتعدد أسباب عدم نجاح اتفاقيات وقف إطلاق النار مع التنظيمات المسلحة، ويختلف دورها ووزنها من حالة لأخرى، ولكنها ترتبط جميعاً بجوهر رئيسي وهو درجة هشاشة الدولة وحجم الانقسامات الاجتماعية والإثنية، وشعور بعضها بالإقصاء والتهميش وعدم العدالة. ويترتب على توافر ذلك، تصدُع كيان الدولة وتحلل مؤسساتها السياسية والأمنية، فتكون لـ"الجماعة" أو "التنظيم" أو "الطائفة" الأولوية على "الدولة"، ويكون للمصالح الفئوية والجهوية والطائفية الدور الرئيسي في تحديد الاختيارات السياسية للأطراف المتنازعة. وهكذا، فإن نشوب القتال بين الأطراف المتنازعة هو دليل على فشل عملية "بناء الدولة". ويأتي إخفاق محاولات الوساطة لوقف إطلاق النار بينها تأكيداً إضافياً لهذا الفشل.

ففي ليبيا مثلاً، سيطرت مجموعات ومليشيات مسلحة على أقاليم الدولة، وأصبح السياسيون يلوذون بها طلباً للحماية، وعلى الرغم من توقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار في 23 أكتوبر 2020 استمر وجود أكثر من حكومة تدّعي كل منها الشرعية، وفشل رئيس الوزراء الذي اختاره البرلمان في دخول العاصمة لتولي مهام منصبه، وتعطل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، واستمر الاختلاف بين مجلس النواب ومجلس الدولة حول القاعدة الدستورية التي تُجرى الانتخابات على أساسها، وتجددت الاشتباكات العسكرية هنا وهناك على فترات مختلفة.

وفي اليمن، تمدد نفوذ المليشيا الحوثية لتسيطر على العاصمة صنعاء، وحظيت في هذا التمدد بدعم من رئيس الدولة الراحل علي عبدالله صالح، وانتقلت السلطة الشرعية إلى جنوب البلاد في عدن. وأدت الاتفاقية المبرمة بين الحكومة اليمنية والحوثيين بوساطة الأمم المتحدة في إبريل 2022 إلى خفض حِدة الصِراع المسلح وتراجُع وتيرته، إلا أن المليشيا الحوثية كعادتها انتهكت هذه الهدنة ورفضت تمديدها في أكتوبر الماضي، واستمرت في تصعيدها العسكري في عدة جبهات باليمن، وحصار محافظة تعز بجنوب غرب البلاد. 

وفي السودان، بدأ القتال في 15 إبريل 2023 بين قوات الجيش بقيادة رئيس مجلس السيادة وقوات الدعم بقيادة نائب رئيس المجلس، أي أن القتال نشب بين قوات انتمت جميعها إلى المؤسسة العسكرية الرسمية. وبالرغم من تعدد الوساطات والمبادرات من أطراف عربية وإفريقية ودولية لوقف إطلاق النار، فإنها لم تنجح في مساعيها، بما في ذلك الوساطة السعودية الأمريكية التي تمت بناءً على محادثات غير مباشرة مع ممثلي طرفي الصراع في جدة، حيث لم تؤدِ إلى وقف إطلاق النار بشكل مُستقر وذلك حتى تاريخ كتابة هذه السطور. 

مُجمل القول، تشير حالات الإخفاق في وقف إطلاق النار إلى درجات مختلفة من تحلل مؤسسات الدولة وانقسامها، وهيمنة الإثنيات والعصبيات والجهويات عليها، وتعدد الفاعلين المسلحين من غير الدولة، وازدياد تدخلات القوى الإقليمية والدولية. ورغم ذلك، فإن تلك الاتفاقيات تظل السبيل الرئيسي لبناء الثقة بين الأطراف المتقاتلة وتخفيض التصعيد وتهدئة التوتر وإيجاد البيئة المناسبة لإنهاء الصراع.