مواءمات إقليمية:

إيران وسوريا العائدة للعرب.. فرص الإعمار وقيود إسرائيل

31 May 2023


فتح تطور عودة سوريا إلى محيطها العربي، واستعادتها مقعدها في جامعة الدول العربية، ومشاركة الرئيس بشار الأسد في القمة العربية الـ32 بجدة، عقب ما يقرب من 12 عاماً من الغياب عن الساحة العربية؛ المجال أمام تساؤلات عدة بشأن موقع إيران من "سوريا الجديدة"، ولاسيما في ظل النفوذ الممتد الذي رسخته طهران في الداخل السوري عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، خلال سنوات العُزلة التي فرضت على النظام السوري، عربياً وإقليمياً. وهو النفوذ الذي حاولت إيران تأكيده استباقاً للإعلان عن عودة سوريا للجامعة العربية، بزيارة غير مسبوقة منذ 13 عاماً لرئيس إيراني إلى دمشق، في أوائل مايو 2023، وقّع خلالها الرئيس إبراهيم رئيسي والوفد المرافق له العديد من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية الخاصة بعقود إعادة الإعمار لضمان مكانة مهمة لطهران في سوريا.

كما تُثار هذه التساؤلات في ظل التغيرات التي تشهدها سياسة إيران الخارجية فيما يخص دول الجوار، والإعلان عن عودة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، وما قد يترتب عليها من توافقات بين البلدين في العديد من الملفات الإقليمية التي ربما تكون سوريا من ضمنها.

تطورات متلاحقة:

تمر منطقة الشرق الأوسط بعدد من المتغيرات، تأتي إيران في القلب منها بامتياز، ومن المرجح أن تنعكس مساراتها على موقع طهران في العديد من الملفات. وتتمثل هذه المتغيرات في الآتي:

1- الإعلان المفاجئ عن عودة العلاقات السعودية الإيرانية بوساطة صينية، في 10 مارس 2023، وتلك الجهود الحثيثة التي يبذلها الطرفان لإعادة العلاقات بينهما إلى مسارها الدبلوماسي، بشكل فاق التوقعات التي سادت عقب الإعلان عن اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بأن تكون فترة الشهرين اختباراً للنيات الإيرانية. فعلى العكس من ذلك، شهدت هذه الفترة زيارات دبلوماسية متبادلة لتنسيق عودة البعثات الدبلوماسية، وتمهيد مسارات التعاون الاقتصادي والتجاري، وكذلك إعلان وزارة الخارجية الإيرانية يوم 22 مايو 2023 تعيين علي رضا عنايتي سفيراً لطهران في المملكة.

2- الإعلان عن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وحضور الرئيس بشار الأسد القمة العربية في جدة يوم 19 مايو 2023، وتضمين بيان القمة الختامي بنوداً تخص سوريا، تؤكد تكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة دمشق على تجاوز أزمتها، وتهيئة الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين، والحفاظ على وحدة أراضي سوريا وسيادتها على كامل أراضيها. فيما سبق ذلك، إعلان كل من دمشق والرياض استئناف البعثات الدبلوماسية للبلدين عملها مرة أخرى، فضلاً عن تلقي الرئيس السوري دعوة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، لحضور مؤتمر الأطراف للمناخ "كوب 28" الذي سيُعقد في الإمارات خلال الفترة من 30 نوفمبر وحتى 12 ديسمبر 2023.

3- دخول العلاقات التركية السورية منعطفاً جديداً نحو التطبيع، وذلك بوساطة روسية وإيرانية قاربت أن تؤتي ثمارها، في أعقاب انعقاد اجتماعين رباعيين استضافتهما موسكو أخيراً؛ الأول لوزراء دفاع كل من روسيا وإيران وسوريا وتركيا في 25 إبريل الماضي، بهدف تنسيق جهود إعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق. والاجتماع الثاني لوزراء خارجية هذه الدول في 10 مايو 2023، والذي جمع وزيري خارجية سوريا وتركيا لأول مرة منذ عام 2011، وتم خلاله وضع خارطة طريق لعودة العلاقات بين البلدين.

حسابات طهران:

تحمل كل هذه التطورات في طياتها العديد من المكاسب والتحديات بالنسبة لإيران، التي تسعى حالياً لفك عزلتها الإقليمية، وتحسين علاقاتها مع دول جوارها، في وقت تشتد فيه الضغوط الداخلية والخارجية على النظام الإيراني، الأمر الذي يدفعه إلى تصفير عدة أزمات إقليمية لتخفيف تكلفتها التي باتت مرهقة بالنسبة له في ظل ما يواجهه من ضغوط اقتصادية.

كما تدفع تلك التطورات طهران إلى إعادة حساباتها فيما يخص نمط ومدى نفوذها الذي وسعته في العديد من ملفات المنطقة، وفي مقدمتها اليمن وسوريا. إذ لم يعد في إمكانها التغاضي عن حسابات باقي دول الجوار عند تعاملها مع هذه الملفات، ومنها في سوريا التي عززت نفوذها فيها طيلة السنوات الـ12 الماضية. وُيتوقع أن تجد إيران في المستقبل القريب منافسة عربية وإقليمية في مرحلة إعادة إعمار سوريا، وبصفة خاصة إذا ما تم حسم قضية عودة العلاقات بين سوريا وتركيا خلال الفترة المقبلة.

ولعل أول بوادر تغير نمط النفوذ الإيراني ومظاهره في الداخل السوري قد تمثلت في الحديث عن اشتراطات غير معلنة وافقت عليها دمشق قبل الإعلان عن عودتها إلى جامعة الدول العربية، فيما يخص سيادة سوريا على أراضيها، وخروج القوات الأجنبية والمليشيات والفصائل المسلحة منها، والتوصل تدريجياً إلى حل سياسي للصراع الدائر مع جماعات المعارضة في الداخل السوري.

وفي ظل هذه الاشتراطات، أنزلت المليشيات الموالية لطهران العلم الإيراني والرايات الخاصة بجماعتي "فاطميون" و"زينبيون" من مواقع تابعة لها، بطلب من السلطات في دمشق، وفقاً لما نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان، حيث جرى إنزال العلم الإيراني ورايات "فاطميون" و"زينبيون" من مواقع مدن دير الزور، والميادين، والبوكمال، وتدمر، وريف حمص الشرقي. فيما اسُتبدل العلم السوري بهذه الرايات، الأمر الذي يُرجح أن يكون قد جاء تنفيذاً من جانب دمشق للوعود التي قدمتها للدول العربية حول خروج المليشيات التابعة لإيران من أراضيها مقابل عودتها إلى الجامعة العربية. 

وعلى الرغم من أن هذا الإنزال للعلم والرايات التابعة لإيران قد تم في مواقع رفُعت فيها حديثاً هذه الأعلام خلال زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي لسوريا، يظل هذا التطور خطوة رمزية مهمة من جانب دمشق، يدل على تفهمها للتخوفات العربية من الوجود العسكري الإيراني في الداخل السوري، ولاسيما في ظل خروج البيان الصادر عن القمة العربية بجدة، ببنود تؤكد بشكل عام ضرورة وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، ورفض دعم تشكيل الجماعات والمليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة. وهي بنود تتصل بالحالة السورية بشكل مباشر، ويترتب عليها افتراض أن يتخذ النظام السوري بشأنها خطوات تثبت حسن النيات والحرص على العودة للحاضنة العربية بشكل فعلي.

هدفان أساسيان:

تتحرك إيران في الملف السوري حالياً مدفوعة بهدفين أساسيين تسعى إلى تحقيقهما من خلال الحفاظ على نفوذها الذي وطدته في الداخل السوري خلال السنوات الماضية، ليس فقط حفاظاً على مكاسبها المباشرة المحققة من وجودها في سوريا كفاعل أساسي على الأرض، وإنما أيضاً من خلال الحفاظ على مكاسب ما وراء هذا الوجود وما يحققه من منافع غير مباشرة في ملفات أخرى لا تقل أهمية بالنسبة للنظام الإيراني. ويمكن الإشارة إلى هذين الهدفين فيما يلي:

1- ضمان نصيب إيران في كعكة إعادة الإعمار: إذ لا يمكن لطهران تفويت فرصة جني مكاسب دعمها المستمر طوال 12 عاماً للنظام السوري، وهو الدعم الذي كلّف النظام الإيراني ملايين الدولارات، وعرّضه لانتقادات داخلية حادة نظراً لحرص النظام على الوفاء بالتزامات هذا الدعم في ظل أزمة اقتصادية طاحنة بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليه.

وفي هذا الإطار، تأتي دلالة توقيت زيارة الرئيس الإيراني إلى سوريا، قبيل الإعلان عن عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، لتوضح إدراك طهران مدى التغير الذي سيشهده نمط نفوذها في سوريا خلال الفترة المقبلة، وما يمكن أن يترتب على عودة دمشق إلى محيطها العربي من تأثيرات في النفوذ الإيراني في الداخل السوري، فسعت إلى تأكيد قوة العلاقات بين البلدين، ووقّعت العديد من الاتفاقيات التي تضمن لها وجوداً مريحاً في سوريا خلال الفترة المقبلة اقتصادياً وسياسياً. إذ تم توقيع 15 اتفاقية تعاون في مجالات مختلفة، تشمل الاستثمار في مشروعات جديدة خاصة بمحطات الكهرباء والطاقة، والسكك الحديدية، وكذلك التوسع في المشروعات المشتركة القائمة، والاتفاق على تسريع خطوات تدشين بنك مشترك بهدف تيسير عمليات التبادل التجاري، فضلاً عن تأكيد التعاون في مكافحة الإرهاب والقضاء على الجماعات الإرهابية، وتيسير دخول الإيرانيين وإقامتهم في سوريا، ودعم تعليم اللغة الفارسية في مراحل التعليم المختلفة، وزيادة الخطوط الجوية بين البلدين.

وبالنظر إلى الاتفاقيات التي وقّعتها إيران مع سوريا، يُلاحظ أنها غطت مجالات التعاون السابق بين البلدين، وزادت عليها مشروعات إعادة الإعمار بدخولها مشروعات الطاقة والنقل والإسكان، حيث تتطلع طهران من خلال هذا البدء المبكر في توقيع عقود إعادة الإعمار إلى ترسيخ ما أسسته مذكرة التفاهم لخطة التعاون الاستراتيجي طويل الأمد بين البلدين، في ضوء إدراك النظام الإيراني أنه غير قادر على الانفراد أو حتى الحصول على النصيب الأكبر من حصص إعادة الإعمار، بسبب الأزمات الاقتصادية التي يعانيها، وحاجة أغلب الأقاليم الإيرانية نفسها للتنمية في ظل عدم وجود سيولة مالية لتنفيذ خطط تنمية طموحة داخلياً، ومعاناته من عدم الولوج إلي النظام المصرفي الدولي الذي يُمكنه من إتمام معاملاته التجارية مع شركائه التجاريين التقليديين بشكل طبيعي، فضلاً عن خضوعه لقانون "قيصر" الأمريكي للعقوبات بتعاونه مع النظام السوري.

2- امتلاك أوراق ضغط في مواجهة إسرائيل: ليس من قبيل المبالغة القول إن التعاون العسكري الحالي بين طهران ودمشق هدفه الأساسي بالنسبة لإيران هو مواجهة إسرائيل، ومحاولة إكمال حلقة محاصرة الأخيرة من خلال سوريا إلى جانب جنوب لبنان وقطاع غزة. وقد تزايدت أهمية التنسيق العسكري بين طهران ودمشق بشكل كبير بعد أن انتقلت المواجهات غير المباشرة بين إيران وإسرائيل إلى الداخل السوري، بتكثيف إسرائيل هجماتها على مقرات لجماعات موالية لطهران، واستهداف آليات نقل شحنات الأسلحة إلى سوريا، والتي أسفرت أخيراً عن مقتل مستشارين عسكريين للحرس الثوري الإيراني، ضمن سلسلة من الهجمات بلغت، بحسب الإحصاءات الإسرائيلية، أكثر من 400 غارة منذ عام 2017.

وفي هذا السياق، برزت أهمية الاتفاق الإيراني مع سوريا على نقل التكنولوجيا الدفاعية الإيرانية إلى دمشق، وهو الاتفاق الذي تروج له طهران حالياً باعتباره تعزيزاً لقدرات سوريا في مواجهة الهجمات الإسرائيلية، وليس تدخلاً في الشأن السوري، مؤكدة أنه لا يمكن ضمان نجاح مشروع نقل التكنولوجيا الدفاعية الإيرانية إلى سوريا إلا بتفاهم إقليمي.

ويمكن القول إنه مع تغير توازنات القوى داخل سوريا لصالح نظام الأسد منذ عام 2019، تحولت أولوية إيران من دعم بقاء النظام السوري إلى تعزيز نفوذها في البلاد بهدف إدارة صراعاتها الإقليمية والدولية ولاسيما مع إسرائيل. وفي المقابل، تتحسب تل أبيب من تحول سياسة طهران تجاه دول جوارها، والتي تهدف من خلالها إيران إلى فك عزلتها الإقليمية، وبالتالي إخفاق إسرائيل في تدشين جبهة عسكرية موحدة في مواجهة طهران، الأمر الذي يدفعها إلى تكثيف هجماتها على الأهداف الإيرانية في الداخل السوري، وهو ما تدركه طهران بالطبع ويدفعها إلى عدم التنازل عن موقعها في مواجهة إسرائيل ليس في سوريا فقط، وإنما في لبنان أيضاً.

وفي ضوء هذين الهدفين، يمكن القول إن إيران تدرك أن عليها مواءمة انخراطها الجديد في علاقات إقليمية يغلب عليها التعاون لا المواجهة، مع نمط نفوذها في الداخل السوري. وهي المواءمة التي لا يمكن مقارنة صعوبتها بتلك التي فُرضت على النظام السوري تجاه متطلبات الفكاك من النفوذ الإقليمي والدولي مقابل العودة للمحيط العربي.