ثغرات الجوار:

رسائل التطويق الإسرائيلي لإيران عبر أذربيجان وتركمانستان

09 May 2023


قام وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، بداية من 18 إبريل 2023، بجولة خارجية في آسيا الوسطى والقوقاز، شملت زيارة كل من أذربيجان وتركمانستان. إذ جات هذه الزيارة في وقت تعاني فيه إسرائيل من أزمات داخلية، وسعت لتحقيق دفعات دبلوماسية جادة، تمنح حكومة بنيامين نتنياهو بعض الزخم بعيداً عن أزمة الإصلاح القضائي.

وفي الزيارة الأولى، التقى كوهين الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، وعدداً من وزراء حكومته، كما عقد اجتماعاً مع رؤساء الجالية اليهودية في المنطقة. وفي تركمانستان، قام كوهين بزيارة تاريخية لم تحدث من مسؤول إسرائيلي رسمي منذ عام 1994، فضلاً عن أنها شهدت افتتاح السفارة الإسرائيلية رسمياً في العاصمة عشق آباد، على بعد 17 كيلومتراً فقط من الحدود الإيرانية، وذلك بعد علاقات دبلوماسية استمرت لنحو 30 عاماً بين الطرفين، من دون وجود سفارة إسرائيلية رسمية في تركمانستان.

محددات إسرائيلية:

اعتمدت إسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي، في سياستها الخارجية، على استراتيجية "شد الأطراف"، وكان مضمونها تطوير علاقات وثيقة مع الدول غير العربية التي تقع على أطراف الشرق الأوسط، واستهدفت حينئذ تركيا وإيران (ما قبل الثورة الإسلامية). لكن بعد تأسيس نظام سياسي إيراني معادٍ لإسرائيل في عام 1979، وبعد أن صارت العلاقات مع أنقرة عُرضة للتقلبات والأزمات من حين لآخر، اتجهت تل أبيب إلى منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى.

وتحمل منطقة القوقاز أهمية ديناميكية لبعض دول الشرق الأوسط، بينما تقع آسيا الوسطى على حدود روسيا والصين، وهو ما يمثل أهمية كبرى في اتصال إسرائيل بدولها، كما أن المنطقتين متصلتان جغرافياً بإيران؛ العدو الأول لإسرائيل حالياً ومنذ عقود.

وتأسيساً على ما سبق، هناك مجموعة من المحددات التي حكمت السياسة الإسرائيلية تجاه القوقاز وآسيا الوسطى، وذلك على مدار العقود الثلاثة الماضية، منذ بداية العلاقات الرسمية بين إسرائيل ومعظم تلك الدول، كالتالي:

1- الأهمية الجيوسياسية: استهدفت إسرائيل من خلال علاقاتها مع دول القوقاز وآسيا الوسطى منع قيام أي تحالفات مُعادية لها أو لمصالحها، مما يُقيّد من تحركاتها الدبلوماسية هناك، وبالتالي عزلها دولياً. كذلك سعت لتبديد أي محاولة من هذه الدول لتصدير تقنيات نووية أو حتى أسلحة ورثتها عن الاتحاد السوفيتي السابق إلى دول أو جماعات مُسلحة مناوئة لتل أبيب.

وقامت إسرائيل بتعريف علاقاتها مع دول القوقاز وآسيا الوسطى على أنها تحالف لمحاربة الفكر الأصولي الراديكالي، ممثلاً في تنظيم القاعدة في المقام الأول، ومنع انتشاره في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وبالتالي حرمانه من الوصول إلى الشرق الأوسط. وقد ذكر الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، في عام 2016، أن العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية تُظهِر أن النزاعات اليوم ليست بين مجموعات دينية أو عرقية، بل بين المعتدلين والمتطرفين. وعزّز انسحاب حلف شمال الأطلسي "الناتو" من أفغانستان في عام 2021، وعودة حركة طالبان إلى السلطة في كابول، المخاوف من عبور المقاتلين الجهاديين إلى دول آسيا الوسطى والارتباط بجماعات محلية. لذا نجد أنه في ديسمبر 2022، استضافت وزارة الخارجية الإسرائيلية 24 مسؤولاً حكومياً من دول آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان)، في جولة ركزت على تجربة إسرائيل في أمن الحدود والدفاع الإلكتروني، للاستفادة منها في دولهم.

2- مواجهة إيران: غالباً ما رأت إسرائيل في القوقاز وآسيا الوسطى مناطق عمق استراتيجي بالنسبة لها، خاصة في مواجهة إيران، التي تعتبرها عدوها الأول. وتمتلك أذربيجان وتركمانستان حدوداً مباشرة مع إيران، لذلك تم اعتبارهما منصات محتملة لعمليات إسرائيل العسكرية ضد طهران، في حال نشوب حرب مستقبلية بينهما، مثلما تعتبرهما حالياً ساحة لجمع المعلومات الاستخبارية حول إيران.

وتدّعي طهران أن أذربيجان منحت إسرائيل حرية واسعة لاستخدام أراضيها لشن عمليات في العمق الإيراني، وأن تل أبيب استخدمت الأراضي الأذربيجانية كنقطة انطلاق لسرقة ملفات نووية حسَّاسة في عام 2018. وفي هذا الصدد، تشير التحليلات الغربية إلى أن باكو تسمح - على الأرجح - لإسرائيل باستخدام قواعد على أراضيها لإطلاق رحلات استطلاعية فوق الأراضي الإيرانية وإرسال عملاء استخبارات إلى البلاد لتعطيل برنامجها النووي.

3- الاقتصاد والتسلح: رأت إسرائيل في دول القوقاز وآسيا الوسطى سوقاً استهلاكية للصناعات الإسرائيلية، وتحديداً الدفاعية، فضلاً عن الاستثمارات الضخمة في هذه الأسواق، خاصة في مجال النفط. إذ تمتلك تركمانستان احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي، تحرص تل أبيب على استغلالها، كما هو الحال مع أذربيجان التي تمد إسرائيل بحوالي 30% من احتياجاتها النفطية، كذلك تُعد باكو شريكاً استراتيجياً رئيسياً لتل أبيب منذ سنوات.

والملمح الأكثر أهمية في هذه الشراكة، يظهر في العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية على صعيد التسليح. فوفقاً لبيانات "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، تلقّت أذربيجان بين عامي 2013 و2016 حوالي 30% من وارداتها من الأسلحة من إسرائيل، وارتفعت هذه النسبة إلى 69% في الفترة بين عامي 2016 و2020، وهو ما مثّل 17% من صادرات الأسلحة الإسرائيلية خلال تلك الفترة.

والأمر اللافت هنا، والذي ربما يُشجع دول أخرى على تعزيز علاقاتها العسكرية مع إسرائيل، هو مخرجات الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، والتي أثبتت بالنسبة لباكو القيمة الحاسمة لتكنولوجيا التسليح الإسرائيلي. فبجانب نجاح الأسلحة التقليدية الإسرائيلية في ترجيح كفة أذربيجان، قامت شركة "Elta Systems"، وهي شركة تابعة لشركة "IAI" الإسرائيلية، بتنفيذ خرائط رقمية لكاراباخ، مما ساعد القوات الأذربيجانية على تنفيذ عملياتها القتالية خلال الحرب مع أرمينيا التي استمرت 44 يوماً في عام 2020.

4- المحدد الديمغرافي والثقافي: حاولت إسرائيل توظيف العامل الثقافي والجاليات اليهودية في القوقاز وآسيا الوسطى لصالح تعزيز علاقتها مع هذه الدول. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، رفعت روسيا حظر الهجرة عن سكانها، ومن ثم هاجر 1.4 مليون نسمة من سكان روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً إلى إسرائيل. ونتح عن هذا الأمر وجود أكبر جالية في العالم تتحدث اللغة الروسية في إسرائيل، وجميعهم يُجيدون بعض اللغات الأخرى مثل الأذربيجانية والكازاخية وغيرها، مما ساعد تل أبيب على استغلال هذا العامل الثقافي في تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى.

رسائل متنوعة:

بالنظر إلى محددات السياسة الإسرائيلية في القوقاز وآسيا الوسطى، فقد بدا أن توقيت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، كوهين، لكل من أذربيجان وتركمانستان، يحمل في طياته عدداً من الرسائل، يمكن تفصيلها على النحو الآتي:

1- تعزيز الزخم الدبلوماسي حول علاقات إسرائيل الخارجية: على مدار سنوات حكمه الطويلة، غالباً ما كان يلجأ نتنياهو إلى ملفات السياسة الخارجية للبحث عن إنجاز أو تقدم ما، وذلك مع كل أزمة داخلية تعصف به وبحكومته. وهكذا هو الحال في ملف علاقات تل أبيب مع دول الجوار الإيراني.

ويحاول نتنياهو حالياً استغلال فترات الهدوء النسبي في الداخل الإسرائيلي، بعد تأجيل التصويت على تشريعات الإصلاح القضائي، لقطف ثمار ما تم إنجازه في السابق في العلاقات مع أذربيجان وتركمانستان. فجاءت زيارة كوهين لباكو بعد أيام قليلة من افتتاح سفارة أذربيجان في إسرائيل يوم 29 مارس 2023، ومن المتوقع أن يزور الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، أذربيجان في نهاية شهر مايو الجاري.

وفي تركمانستان، لم يكن افتتاح السفارة الإسرائيلية إلا تتويجاً لعلاقات دبلوماسية استمرت منذ 30 عاماً، ووصلت حالياً إلى درجة كبيرة من النضوج، حيث وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية تركمانستان بأنها "دولة ذات أهمية استراتيجية وسياسية للأمن الإقليمي".

2- تهديد ضمني لإيران واستغلال خلافاتها مع الجوار: جاءت جولة كوهين في الدول المجاورة لإيران في توقيت دقيق بالنسبة للملف النووي الإيراني، حيث باتت إسرائيل على يقين بأن طهران "تخطّت العتبة النووية"، خاصة في ظل التقارير الأخيرة التي تتحدث عن رفع مستوى التخصيب في المفاعلات الإيرانية، وهو ما طرح أمام الحكومة الإسرائيلية سيناريوهات الرد، ومن ضمنها الرد العسكري المنفرد.

لذلك تأتي زيارة كوهين لأذربيجان لتحمل تهديدات ضمنية لطهران، بأنه في حال قررت إسرائيل شن غارات جوية على المفاعلات والمعامل الإيرانية، فإن الوصول إلى القواعد الأذربيجانية سيجعل هذه المهمة أكثر جدوى. وكان كوهين، خلال المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن افتتاح السفارة الأذربيجانية في إسرائيل، يوم 29 مارس الماضي، قد ذكر نصاً أن البلدين (أي إسرائيل وأذربيجان) تشتركان في نفس التصور حول التهديدات الإيرانية، وأنهما على قناعة بأن النظام الإيراني "يهدد المنطقة ويُموِّل الإرهاب وُيزعزع استقرار الشرق الأوسط بأكمله"، على حد قوله. وهي نفس الرسالة من وراء افتتاح السفارة الإسرائيلية في عشق آباد، على بعد 17 كيلومتراً فقط من الحدود الإيرانية.

وقد كان من المهم أن تستغل إسرائيل أيضاً ارتفاع مستوى التوتر بين إيران وتلك الدول، فقد ساءت العلاقات بين إيران وأذربيجان بعد هجوم باكو على أراضٍ لأرمينيا في سبتمبر 2022، فضلاً عن أنه خلال الشهور الماضية دأبت العديد من وسائل الإعلام المرتبطة بالحكومة الأذربيجانية على نشر مقالات وتحليلات تدّعي حق باكو في "لمّ شمل" شمال إيران مع البلاد. وفي 25 مارس 2023، انتهكت أذربيجان شروط اتفاقية 9 نوفمبر 2020، وسيطرت على بعض الطرق الفرعية في ناغورنو كاراباخ، وهو ما أثار غضب طهران.

أمّا تركمانستان، فتجمعها نزاعات مع إيران حول مخزونات هيدروكربونية ضخمة محتملة في بحر قزوين، وقد توترت علاقات البلدين في فترات سابقة بسبب وقف صادرات الغاز من تركمانستان، مما دفع الحكومة الإيرانية للجوء إلى التحكيم الدولي في عام 2017.

3- تعزيز الروابط الاقتصادية والعسكرية الإسرائيلية: ضم الوفد الاقتصادي المُصاحب لكوهين في زيارته لأذربيجان وتركمانستان، ممثلين عن 20 شركة إسرائيلية من مجالات الأمن السيبراني ومكافحة الإرهاب وإدارة المياه والزراعة، حيث هدفت هذه الزيارة لإحداث طفرة جديدة في العلاقات الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل مع الدولتين. وهذا أمر أكدته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، في تقرير لها نُشر يوم 24 إبريل 2023، بعد انتهاء الزيارة، حيث أشارت إلى أن شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية ستقوم بتزويد أذربيجان بقمرين اصطناعيين مقابل 120 مليون دولار، لدعم جهود "وكالة الفضاء الوطنية" الأذربيجانية "Azercosmos" في مجال الأقمار الاصطناعية لأغراض الاتصالات والمراقبة.

والجدير بالذكر أن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، قد التقى الرئيس الأذربيجاني، علييف، في فبراير 2023، على هامش "مؤتمر ميونيخ للأمن"، وخرجت حينها تقارير تفيد بأن شركتين إسرائيليتين لتكنولوجيا الدفاع، هما "Meteor Aerospace" و"SpearUAV"، ستوقعان صفقات مع أذربيجان لتطوير الطائرات من دون طيار خلال العام الحالي. ويأتي ذلك في وقت ارتفعت فيه ميزانية الدفاع الأذربيجانية من 2.6 مليار دولار في عام 2022 إلى 3.1 مليار دولار في عام 2023، مع تخصيص 30% من هذه النفقات لشراء الأسلحة، وهو أمر قد يصب في صالح مبيعات الأسلحة الإسرائيلية للبلاد.

4- فتح ثغرة لواشنطن في آسيا الوسطى لمواجهة الدول المناوئة لها: يُرجِّح البعض أنه ليس من قبيل الصدفة أن تأتي زيارة كوهين بعد مرور أسبوع على انعقاد "المؤتمر الوزاري للدول المجاورة لأفغانستان"، في 13 إبريل 2013. وكانت الصين وباكستان وروسيا وإيران، قد أصدرت بياناً مشتركاً على خلفية مشاركتها في هذا المؤتمر، يدعو الولايات المتحدة وحلفاءها إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه أفغانستان، ورفع العقوبات المفروضة عليها، وإعادة أصولها المجمدة. ويبدو أن هذا البيان جاء منسجماً مع المطالب الأفغانية، حيث أكد رئيس أركان الجيش الأفغاني، قاري فصيح الدين، في مقابلة مع "وكالة رويترز" يوم 12 إبريل 2023، قيام طائرات مُسيّرة أجنبية باختراقات متتالية للمجال الجوي الأفغاني، وذلك في إشارة للطائرات الأمريكية.

وتذهب الترجيحات إلى أن أحد أهداف زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي هو الرد على ذلك المؤتمر ومخرجاته، وفتح ثغرات تسمح للنفوذ الأمريكي بالنفاذ إلى دول آسيا الوسطى تحديداً، وبالتالي تُقدِّم تل أبيب نفسها كفاعل مهم ومفيد لواشنطن في آسيا الوسطى، في توقيت تعاني فيه علاقات البلدين من بعض التوترات. ومن اللافت أن وزيري خارجيتي كل من طاجيكستان وتركمانستان لم يُوقعا على بيان المؤتمر الوزاري، لنجد بعد أسبوع وزير الخارجية الإسرائيلي يفتتح سفارة بلاده في تركمانستان.

إجمالاً، على الرغم من أن إسرائيل ليست الفاعل الأساسي في آسيا الوسطى أو القوقاز، فإنها تعتقد أنها مناطق خصبة بالمصالح على أكثر من صعيد، وفي الوقت نفسه ترى أنها قادرة على توفير مزايا فريدة لحلفائها هناك، بما يضمن استمرار وتعزيز علاقاتها معهم، ومن ثم حماية مصالح تل أبيب، ومحاولة تطويق إيران.