السلام الاقتصادي:

هل ينجح اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل؟

17 October 2022


بعد قرابة عامين من الاتصالات المعلنة حيناً والسرية في أغلب الأحيان، بين إسرائيل ولبنان بوساطة أمريكية، صدرت تصريحات واضحة من الأطراف الثلاثة بالتوصل إلى اتفاق يقضي بترسيم "مؤقت" للحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبما يسمح لكلا البلدين باستغلال ثرواته من الغاز في البحر المتوسط.

ومع ذلك، لا تزال هناك بعض الشكوك حول تنفيذ هذا الاتفاق وتطبيقه عملياً، بسبب أن كلا الحكومتين في لبنان وإسرائيل غير منتخبة، وأن الرئيس اللبناني ميشيل عون أعلن عن تركه منصبه في مطلع نوفمبر القادم مع عدم تمكن مجلس النواب اللبناني حتى الآن من انتخاب رئيس جديد. وفي الموعد نفسه ستشهد إسرائيل انتخابات عامة، قد تؤدي إما إلى تشكيل حكومة يقودها زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو الذي أعلن رفضه صراحة للاتفاق ووعد بإسقاطه حال وصوله للحكم، أو إلى استمرار الأزمة السياسية الممتدة منذ أربعة أعوام والتي تمثلت في تشكيل ائتلافات هشة وغير مستقرة، أفضت إلى انهيار الحكومات التي تشكلت وفقها في فترات قصيرة للغاية لم تتجاوز العام. وهذا يعني أن الاتفاق الذي وقعته الحكومة الإسرائيلية المؤقتة بقيادة يائير لابيد، قد لا يصمد في حال التصويت عليه في الكنيست، بالإضافة إلى أن بعض الجمعيات الحقوقية في تل أبيب قد تقدمت للمحكمة العليا بطلب منع حكومة لابيد من المُضي في تنفيذ الاتفاق، ومن المنتظر أن تصدر المحكمة حكمها بهذا الشأن في السابع والعشرين من شهر أكتوبر 2022، أي قبل أربعة أيام من إجراء الانتخابات العامة. 

وإلى جانب الغموض بشأن مصير اتفاق ترسيم الحدود البحرية، ثمة تساؤلات حول دوافع لبنان وإسرائيل للتوصل إليه وفي هذا التوقيت، والعوامل التي تدفع نحو تنفيذه أو قد تعيق طريقه في كلا البلدين، ومدى إمكانية اعتبار الوسيط الأمريكي ضامناً للاتفاق وحكماً في أي خلاف يمكن أن ينشأ بين البلدين مستقبلاً، فضلاً عن التساؤل بشأن التوصيف الدقيق لهذا الاتفاق ودلالاته في سياق مشروعات ونماذج التسوية ودعم السلام بين إسرائيل ومحيطها العربي.

دوافع مختلفة:

مع انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000، وإعلانها تمركز قواتها على الحدود الدولية مع لبنان، ظهرت مشكلتان رئيسيتان، الأولى أن الانسحاب الذي جرى كان بقرار أُحادي من إسرائيل ومن دون مفاوضات مع الحكومة اللبنانية، مما منح ميليشيا حزب الله الفرصة للقول إن الانسحاب لم يتم إلى الحدود الدولية بسبب بقاء منطقة مزارع شبعا في يد إسرائيل؛ وهي المنطقة التي تم احتلالها في حرب يونيو عام 1967، وكانت بحوزة الجيش السوري، ومن ثم اعتبرت إسرائيل أن التفاوض بشأن هذه المنطقة، إذا حدث مستقبلاً، سيكون مع سوريا وليس لبنان، في حين يعتبرها حزب الله أراضي لبنانية محتلة تجيز له الاستمرار في شن هجمات على إسرائيل. 

والمشكلة الثانية تمثلت في تصاعد نفوذ حزب الله وصولاً لهيمنته شبه الكاملة على قرارات الحكومة اللبنانية، ومن ثم عندما بدأت العديد من الشركات العالمية البحث عن النفط والغاز في البحر المتوسط قبالة سواحل قبرص واليونان ومصر وإسرائيل في عام 2007، لم يفكر لبنان في إمكانية الاستفادة من هذه الفرص، نظراً لأن جذب هذه الشركات للبحث عن الغاز والنفط كان يستلزم تحديد الحدود البحرية للبنان مع جيرانه، خاصةً إسرائيل. وهذا لم يكن مقبولاً من حزب الله الخاضع بدوره للسياسة الإيرانية التي عملت على توظيف هذه الميليشيا وهيمنتها على الدولة اللبنانية، في الضغط على إسرائيل وصرف انتباهها عن المشروع النووي الإيراني.

وفي ظل هذه الخلفية، بقي الوضع مجمداً حتى عام 2020 عندما بدأت إسرائيل في الاستعداد لتشغيل حقل "كاريش" الواقع إلى جوار مناطق بحرية محل نزاع مع لبنان. ووفقاً للخرائط الإسرائيلية، كانت هناك مساحة تتراوح بين 860 إلى 1430 كيلومتراً مربعاً تتبع الحدود الإسرائيلية، فيما يؤكد لبنان وقوع هذه المناطق ضمن حدوده، والتي تضم الحقل المعروف باسم "قانا". وهدد هذا النزاع بوقف الأعمال الإسرائيلية في حقل "كاريش"، وحرمان لبنان أيضاً من إمكانية جذب شركات التنقيب للعمل في حقل "قانا". 

وفي ظل الأزمة الاقتصادية العنيفة التي يشهدها لبنان حتى الآن، لم يكن أمام حزب الله سوى الامتناع عن عرقلة عملية التفاوض خوفاً من تداعيات ذلك على شعبيته إذا ما استقر في أذهان اللبنانيين أن الحزب يحول دون فتح نافذة فرص مهمة للتغلب على الأزمة الاقتصادية، كما لم تكن إيران مستعدة للدخول في مواجهه مع الولايات المتحدة التي ترعى الاتصالات بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية، خاصةً مع تولي جو بايدن الرئاسة الأمريكية وإعلانه العزم على استئناف المفاوضات مع إيران للعودة إلى الاتفاق النووي الذي كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد انسحب منه في عام 2018. 

أما بالنسبة لإسرائيل، فإن الأجهزة الأمنية والجيش كانا يدعمان التوصل إلى تسوية مع لبنان حول الحدود البحرية، لأنها قد تؤدي إلى خفض التوتر على الجبهة الشمالية ومنع حزب الله من الاحتكاك بإسرائيل.

عقبات متبادلة:

يُعد الوضع الانتقالي الحالي لحكومتي لبنان وإسرائيل العقبة الأبرز على طريق تنفيذ الاتفاق بين البلدين، فالحكومات الانتقالية دائماً ما يُنظر إليها على أنها حكومة لتصريف الأعمال الروتينية، وليست حكومة تتخذ قرارات استراتيجية لها تأثيرات بعيدة المدى. ويمكن توضيح تلك العقبات فيما يلي:

1- العقبات على الجانب الإسرائيلي: هذه العقبات ربما تكون أكبر، بدءاً من الخلاف حول مدى أحقية حكومة لابيد في توقيع اتفاق يُلزم إسرائيل بالتنازل عن أراضٍ كانت تحت سيادتها إلى بلد آخر، حيث يرى المعارضون أن قانون أساس الحكومة ينص على حتمية الحصول على ثُلثي الأصوات في الكنيست لتمرير اتفاق كهذا، أو أن تُجري الحكومة استفتاءً شعبياً على مثل هذا الاتفاق. في المقابل، ثمة رأي مختلف يقول إن هذه الشروط تنطبق على الاتفاقات الدولية، ولأن الاتفاق الذي توصلت إليه إسرائيل مع لبنان بوساطة أمريكية لن يتم التوقيع المشترك عليه، بل سيتم وضع خطابات متبادلة بين الولايات المتحدة بصفتها الوسيط، وكلا البلدين (إسرائيل ولبنان)، تنص على قبول كل منهما على حدة للمقترح الأمريكي الذي يشتمل على بنود الاتفاق، في وثائق يقدمها البلدان إلى الأمم المتحدة؛ ومن ثم فإن تلك الصيغة لا تُعامل كما لو كانت اتفاقاً يستلزم أغلبية الثُلثين في الكنيست، بالرغم من أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد أعلنت نيتها إرسال الاتفاق إلى الكنيست ومنحه أسبوعين لإبداء رأيه فيها. 

ولا يبدو واضحاً إذا ما كان الاتفاق مع لبنان سيتأثر برأي الكنيست أم لا، خصوصاً أنه لم يعد منتخباً، وسيخلفه البرلمان الذي سيُنتخب في الأول من نوفمبر القادم. ومع ذلك، يبدو أن جهود عرقلة تمرير الاتفاق من جانب السياسيين خاصة نتنياهو، ستواجَه بصرامة من المؤسستين الأمنية والعسكرية اللتين يقفان بقوة إلى جانب الاتفاق، على الأقل حتى تظهر نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة. 

2- العقبات على الجانب اللبناني: تبدو هنا العقبات أمام الاتفاق أقل من مثيلاتها في الجانب الإسرائيلي، إذ يصعب على حزب الله وخصومه أيضاً إفشال الاتفاق الذي يراهن عليه الشعب اللبناني للخروج لحد ما من أزمته الاقتصادية الطاحنة وتأمين احتياجاته الحيوية من الطاقة. ولكن تظل هناك مخاوف من إحباط الشعب اللبناني مبكراً، حيث إن ارتفاع الآمال المُعلقة على الاتفاق للخروج من المأزق الحالي لا تدعمه تصريحات إسرائيلية رسمية تقول إن حقل "قانا" اللبناني قد لا يكون العائد منه كبيراً في ظل التضارب في تقديرات احتياطياته من الغاز، كما يشكك البعض في إمكانية الكشف من الأصل عن احتياطيات ذات جدوى اقتصادية في هذا الحقل. 

وقد صرح رئيس الحكومة الإسرائيلية، لابيد - رداً على منتقدي الاتفاق الذين يتهمونه بالتفريط في ثروة كبيرة من الغاز الإسرائيلي ومنحها للبنان بدون مقابل-  بأن الاتفاق يمنح إسرائيل 17% من عائدات حقل "قانا"، بالإضافة إلى تشغيل حقل "كاريش" دون انتظار، بما يعود على الخزانة الإسرائيلية بمليارات الدولارات في السنوات القادمة. وهذه التصريحات من الجانب الإسرائيلي قد تضع كلاً من يقفون إلى جوار الاتفاق في لبنان عُرضة للاتهامات والتشكيك، فكيف يتم القبول بمنح إسرائيل نسبة من عوائد بيع الغاز الموجود في حقل لبناني صرف؟ وما هي الفترة الزمنية التي يمكن انتظارها حتى يبدأ تشغيل حقل "قانا" والاستفادة بعوائده داخلياً وفي التجارة الخارجية؟

موقف حزب الله:

يرفض حسن نصر، زعيم حزب الله اللبناني، وصف العملية التي جرت بين لبنان وإسرائيل، بوساطة أمريكية، بأنها مفاوضات أفضت إلى اتفاق، ويُفضل وصفها بأنها "تفاهم" مثل التفاهمات التي تم التوصل إليها في أعقاب كل المعارك والحروب التي خاضتها إسرائيل ضد جهات لا تعترف بها وتسعى لتدميرها (حزب الله، وحركتا حماس والجهاد الفلسطينيتين). ويؤكد نصر الله، من خلال هذا التناول، أن ما جرى لا يمكن اعتباره اتفاقاً مُلزماً ينهي ما يسميه هو "بحق المقاومة في العمل ضد إسرائيل"، كما أنه ليس اتفاقاً يقود إلى "تطبيع العلاقات" وعقد لقاءات مباشرة في وقت لاحق بين مسؤولين لبنانيين وإسرائيليين. 

ويدرك الجانب الإسرائيلي سلبية هذا التوصيف الذي قد يعني إمكانية إنهاء التفاهم فيما يتعلق بقضية استخراج الغاز، مثلما كانت التفاهمات حول وقف إطلاق النار والتهدئة على العديد من الجبهات مع إسرائيل قابلة للانهيار والتجديد بشروط مختلفة. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد بعض المحللين في تل أبيب أن الاتفاق أو التفاهم سوف يُضعف حزب الله في الداخل اللبناني على المدى البعيد، حيث سيضطره إلى الدخول في منازعات مع الحكومة والرئاسة اللبنانية حول سُبل تطبيق الاتفاق، وقد يذعن حزب الله في بعض الأحيان لتفادي تكرار الصدام مع الحكومة خوفاً من ردة الفعل الشعبية ضده. 

كذلك سيكون من الصعب على حزب الله منع تطور الاتفاق، الذي ربط إسرائيل برباط توزيع عوائد حقل "قانا"، إلى آفاق أبعد تشمل لقاءات مباشرة بين مسؤولين لبنانيين وإسرائيليين، فضلاً عن ذلك قد يُحرم حزب الله من معرفة خفايا ما يدور في هذه اللقاءات مما يؤدي إلى خلل تقديراته في التعامل مع الأوضاع الداخلية والخارجية.

قيد الاختبار:

ما يمكن التأكيد عليه أن أحد الأهداف البعيدة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، هو إثبات مدى إمكانية نجاح نموذج ما يُسمى بـ "السلام الاقتصادي"، وهو النموذج الذي حاولت إسرائيل منذ نهاية الألفية الماضية تطبيقه على الصراع مع الفلسطينيين، بجعل الحوافز الاقتصادية بديلاً لتعطل التسويات السياسية، ووسيلة لخفض العنف المتبادل بين الجانبين. 

وبالتالي فإن الاتفاق مع لبنان يمكن أن يكون نموذجاً ناجحاً للسلام الاقتصادي الذي يتغلب على الأيديولوجيا وذهنية العداء والحواجز النفسية التي زرعتها المواجهات المستمرة بين البلدين، ويمكن تطبيقه على الحالة الفلسطينية لاحقاً. بمعنى آخر، إذا صمد هذا الاتفاق بين لبنان وإسرائيل، واجتاز العقبات الآنية والمستقبلية، فإن فكرة استبدال التعاون الاقتصادي بالصراع العسكري، وذلك عبر اتفاقات اقتصادية وتجارية وتعاون ثنائي وإقليمي تحقق مصالح كل الأطراف، قد تثبت نجاحها استناداً إلى النموذج اللبناني.