فجوة الخصوصية:

تقييم حوكمة البيانات الصحية في العصر الرقمي

19 July 2022


عرض: محمود إبراهيم

تهتم الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بشكلٍ متزايد بوجود البنية التحتية الصحيحة للبيانات من أجل تقديم الإحصاءات الصحية وقياس جودة الرعاية الصحية ونتائجها، ويتم ذلك عبر جمع المعلومات من خلال السجلات، والبيانات الإدارية، والسجلات الصحية الإلكترونية (EHRs)، ومصادر أخرى، إضافة إلى ربط البيانات بين أوضاع ومستويات الرعاية الصحية وآلياتها لإنتاج واستخدام بيانات قابلة للتطبيق في الوقت المناسب لدعم رعاية صحية وأبحاث سريرية أفضل.

وفي ديسمبر 2016، اعتمد مجلس منظمة التعاون والتنمية التوصية المتعلقة بحوكمة البيانات الصحية بناء على اقتراح من لجنتي الصحة والاقتصاد الرقمي بالمنظمة، ورحب بها وزراء الصحة في المنظمة في اجتماعهم في باريس في يناير 2017. وتهدف التوصية إلى توجيه الدول الملتزمة بها إلى وضع الشروط الإطارية لإتاحة واستخدام البيانات الصحية الشخصية، وبذلك فإنها توفر أيضاً خريطة طريق نحو نهج أكثر تنسيقاً لحوكمة البيانات الصحية بين الدول الملتزمة بالتوصية. 

وفي هذا السياق، يتعرض تقرير نشرته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في شهر مايو 2022 إلى أسباب هذه التوصية وتقييم مدى تنفيذها، خاصة في ظل تأخر قطاع الصحة في استخدام البيانات الصحية مقارنة بقطاعات أخرى مثل النقل، والسفر، والبنوك، والتمويل في إمكانية التشارك في استخدام البيانات. 

وكانت التوصية قد قدَّمت إرشادات مهمة للحكومات خلال جائحة «كوفيد-19» العالمية التي سلَّطت الضوء على قدرة نظم المعلومات الصحية في كل بلد على توفير المعلومات المهمة من أجل المصلحة العامة، وكذلك على جوانب حوكمة البيانات التي خلقت عقبات أمام الاستجابة للوباء في الوقت المناسب، وعلاوة على ذلك، تعد التوصية أداة لتقييم تقدم الدول نحو الوصول لأنظمة المعلومات الصحية المتكاملة الحديثة التي تلبي احتياجات المعلومات في العصر الرقمي، ويمكن أن تدعم الحكومات في أوقات الأزمات.

أهمية البيانات الصحية:

تعد البيانات الصحية ضرورية لتحسين نوعية خدمات الرعاية الصحية وسلامتها وتركيزها على المريض، ولدعم الابتكار العلمي، واكتشاف العلاجات الجديدة وتقييمها، وإعادة تصميم وتقييم نماذج جديدة لتقديم الخدمات الصحية، وتتزايد أهمية ذلك مع اتساع حجم البيانات الصحية الشخصية في شكل إلكتروني، بما في ذلك السجلات الصحية والإدارية الإلكترونية، وأجهزة وتطبيقات المتابعة السلوكية والبيئية، والبنوك الحيوية والتقنيات الجينية، كما أن حجم وقدرات ومنهجيات جمع البيانات الصحية وتجميعها وتحليلها تتطور بشكلٍ جذري.

وعندما يتم الربط بين البيانات الصحية الشخصية وتحليلها، يمكن تحقيق مكاسب هائلة في قيمة المعلومات لخدمة المصلحة العامة فيما يتعلق بالصحة، مثل تحسين التشخيص، خاصة للأمراض النادرة، وتحديد المستجيبين الأمثل للعلاج، وتخصيص الرعاية لتحقيق نتائج أفضل للمرضى، والكشف عن ممارسات الرعاية الصحية والعلاجات غير الآمنة، ومكافأة ممارسات الرعاية الصحية عالية الجودة والفعَّالة، أضف لذلك، الكشف عن الاحتيال والهدر في نظام الرعاية الصحية، ويمكن أيضا للتقنيات الناشئة، بما في ذلك تحليل البيانات الضخمة الاستفادة من قوة الحوسبة المحسنة لمعالجة نطاقات واسعة من البيانات في الواقع من أجل تحسين رعاية المرضى، وتزيد من اكتشاف علامات المرض، والحلول الخاصة بالأمراض.

مع ذلك، غالباً ما يتم الاحتفاظ بالبيانات في معزل عن بعضها البعض من قبل المنظمات التي تجمعها، وهناك شكوك حول كيفية تحقيق الفوائد المحتملة للتقنيات التحليلية الجديدة مع ضمان تنفيذ معايير وإجراءات حماية البيانات الحالية، إذ أظهرت دراسة أجرتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عام 2013 أن العديد من أعضاء المنظمة يفتقرون إلى إطار سياسة عامة منسق لتوجيه ممارسات استخدام البيانات الصحية وتبادلها من أجل حماية الخصوصية وتمكين الكفاءات وتعزيز الجودة وتشجيع البحوث المبتكرة.

وثمة فوائد ومخاطر من معالجة البيانات الصحية على المستويين الفردي والمجتمعي، ويعد التوفيق المناسب بين هذين الأمرين ضروري لخدمة مصالح الأفراد والمجتمعات على أفضل وجه، كما أن التعاون الدولي ضروري لتمكين الدول من الاستفادة بأمان من البيانات الصحية، ولدعم إنتاج إحصاءات تشمل دولاً متعددة، وبحوث واستخدامات أخرى ذات صِلة بالصحة بشكلٍ يخدم المصلحة العامة من خلال تلك البيانات.

في ظل هذه الخلفية، اتفقت لجنة الصحة ولجنة سياسة الاقتصاد الرقمي التابعتان لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في عام 2014 على العمل بشكلٍ مشترك من أجل وضع معيار خاص بالمنظمة لمعالجة هذه القضايا، ومن هنا ظهرت توصية المنظمة بشأن حوكمة البيانات الصحية.

إرشادات ومبادئ:

تتعلق التوصية بالوصول إلى البيانات الصحية الشخصية ومعالجتها لأغراض المصلحة العامة ذات الصلة بالصحة، مثل تحسين نوعية الرعاية الصحية وسلامتها وقدرتها على الاستجابة، والحد من المخاطر الصحية العامة، واكتشاف وتقييم أدوات التشخيص والعلاجات الجديدة لتحسين النتائج الصحية، وإدارة موارد الرعاية الصحية بكفاءة، والمساهمة في تقدم العلم والطب، وتحسين تخطيط السياسات العامة وتقييمها، وتحسين مشاركة المرضى وتجاربهم في الرعاية الصحية.

وتشجع منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية جميع الدول على الالتزام بهذه التوصية التي توفِّر إرشادات لبناء أطر حوكمة وطنية تمكِّن من حماية بيانات الصحة الشخصية واستخدامها لتحقيق أهداف السياسات العامة، حيث تقوم التوصية بما يلي:

- تشجيع توافر واستخدام البيانات الصحية الشخصية إلى الحد الذي يتيح تحسينات كبيرة في الصحة وجودة الرعاية الصحية والأداء، وبالتالي تطوير مجتمعات تتمتع بصحة جيدة، مع الاستمرار في الوقت نفسه في تعزيز وحماية القيم الأساسية للخصوصية والحريات الفردية.

- تحفيز استخدام البيانات الصحية الشخصية لأهداف السياسة العامة المتعلقة بالصحة، مع الحفاظ على ثقة الجمهور في أن أي مخاطر على الخصوصية والأمن يتم تقليلها وإدارتها بشكلٍ مناسب.

- دعم التنسيق بين أطر حوكمة البيانات الصحية للملتزمين بتنفيذ التوصية، بحيث يمكن لعدد أكبر من الدول الاستفادة من الاستخدامات الإحصائية والبحثية للبيانات التي توجد فيها مصلحة عامة، وهو ما يساعد الدول المشاركة في مشاريع إحصائية وبحثية تشمل عِدة دول، مع حماية الخصوصية وأمن البيانات.

وقد وضعت التوصية 12 من المبادئ والمعايير اللازمة لبناء حوكمة البيانات الصحية على المستوى الوطني وتشجيع المزيد من التنسيق عبر البلاد الملتزمين بالتوصية، ومن أبرزها ما يلي:

- إشراك أصحاب المصلحة وضمان مساهمتهم في وضع إطار وطني لإدارة البيانات الصحية.

- التنسيق داخل الحكومة والتعاون بين المنظمات التي تعالج البيانات الصحية الشخصية من أجل تشجيع السياسات والمعايير المشتركة المتعلقة بهذه البيانات.

- استعراض قدرة نظم البيانات الصحية في القطاع العام على خدمة المصلحة العامة وحمايتها.

- توفير معلومات واضحة للأفراد حول معالجة بياناتهم الصحية الشخصية، بما في ذلك الإخطار بأي اختراق كبير للبيانات أو سوء استخدامها.

- معالجة البيانات الصحية الشخصية عن طريق الموافقة المستنيرة والبدائل المناسبة.

- تنفيذ إجراءات المراجعة والموافقة لمعالجة البيانات الصحية الشخصية لأغراض البحث وغيرها من أغراض المصلحة العامة المتعلقة بالصحة.

- تحقيق الشفافية فيما يخص المعلومات العامة حول أغراض معالجة البيانات الصحية الشخصية ومعايير الموافقة عليها.

- تعظيم تطوير واستخدام التكنولوجيا لمعالجة البيانات وحمايتها.

- وضع آليات لرصد وتقييم أثر الإطار الوطني لحوكمة البيانات الصحية، بما في ذلك توافر البيانات الصحية والسياسات والممارسات المتعلقة بإدارة الخصوصية وحماية البيانات الصحية الشخصية ومخاطر الأمن الرقمي.

- تدريب معالجي البيانات الصحية الشخصية وتطوير مهاراتهم.

- تنفيذ الضوابط والضمانات داخل المنظمات التي تعالج البيانات الصحية الشخصية، بما في ذلك التدابير التكنولوجية والمادية والتنظيمية المصممة لحماية الخصوصية والأمن الرقمي.

- مطالبة المنظمات التي تعالج البيانات الصحية الشخصية بإثبات أنها تلبي التوقعات المنصوص عليها في إطار حوكمة البيانات الصحية الوطنية.

وتدعو التوصية بأن تشترك الدول الملتزمة بها مع الخبراء والمنظمات ذات الصِلة في تطوير آليات تمكِّن من التبادل الفعَّال لاستخدام البيانات الصحية، وأخيراً، تشجع التوصية المنظمات غير الحكومية على اتباعها عند معالجة البيانات الصحية الشخصية لأغراض متعلقة بالصحة تخدم المصلحة العامة، وتدعو غير المنتسبين إلى مراعاة التوصية والالتزام بها.

تقييم التنفيذ:

يعرض تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مدى التقدم الذي أحرزته الدول الملتزمة بالتوصية في تنفيذها، حيث يلاحظ مدى انتشارها واستمرار صلاحيتها، وقد تم إعداد التقرير باستخدام ثلاثة مسوح (مسح 2019/2020 لاستخدام البيانات الصحية وحوكمتها، ومسح 2021 لتطوير أنظمة السجلات الصحية الإلكترونية واستخدامها وحوكمتها، ومسح 2021 للبيانات الصحية وتغييرات الحوكمة خلال جائحة «كوفيد-19»)، بالإضافة إلى نتائج العديد من ورش العمل، بما في ذلك ورشة الابتكار الصحي من خلال الممارسات العادلة لمعالجة المعلومات في عام 2021. 

ويؤكد تقرير عام 2022 استمرار صلاحية توصية المنظمة التي أثبتت أهميتها بشكل خاص لمعالجة جائحة «كوفيد-19»، إذ تشير النتائج عموماً إلى أن هناك العديد من الدول التي لا تزال تعمل على تنفيذ التوصية، مع ذلك، فمن بين الدول الملتزمة بالتوصية، هناك من حصلوا على درجات منخفضة في توافر مجموعات البيانات ونضجها واستخدامها مثل أيرلندا، والولايات المتحدة الأمريكية، ويكمن التحدي بالنسبة لهذه الدول في إتاحة البيانات لأغراض البحث والإحصاء، لذلك، فهناك عمل يتعين على هذه الدول القيام به لتطوير سياسات وممارسات تعاونية ضمن صفوف السلطات الحكومية التي توجد في عهدتها البيانات الصحية الرئيسية، كما يلزم القيام بقدر كبير من العمل والاستثمارات في هذه الجهات من أجل تحسين نوعية البيانات وإمكانية الربط بينها وتبادلها، بحيث يمكن للبيانات أن تخدم المصالح العامة المتصلة بالصحة. 

أما الدول التي حصلت على درجات منخفضة في حوكمة البيانات مثل أيرلندا، والنرويج، والتشيك، فهناك فجوات يجب معالجتها فيما يتعلق بحماية خصوصية البيانات، والأمن لمجموعات البيانات الصحية الرئيسية، مثل وجود مسؤول حماية البيانات، وتوفير التدريب للموظفين، والمخاطر المتعلقة بتحديد الهوية، وحماية البيانات عند الربط بينها والدخول إليها.


ويلخص تقرير عام 2022 أيضاً إلى أن التوصية قد تم نشرها على نطاق واسع على مختلف أصحاب المصالح من خلال ورش العمل المعنية بالسياسات، والتقارير والمقالات العلمية، والنشرات الإخبارية، والمدونات، والعروض التقديمية للاجتماعات والمؤتمرات، ولكن يمكن القيام بالمزيد من العمل، حيث يشجع التقرير الملتزمين بتطبيق التوصية على زيادة نشرها على جميع المستويات الحكومية وكذلك على أصحاب المصلحة الآخرين مثل، المنظمات غير الحكومية المشاركة في معالجة البيانات الصحية الشخصية.

ومن المنتظر –وفقاً للتقرير- أن تواصل لجنتا الصحة وسياسة الاقتصاد الرقمي في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية على مدى السنوات الخمس القادمة في تطوير أدوات لدعم تنفيذ ونشر توصية حوكمة البيانات الصحية من أجل دعم تنمية المجتمعات الرقمية، ويمكن أن يركز العمل في المستقبل على ثلاث مجالات تشكل تحديات أمام الملتزمين بتنفيذ التوصية، أولها، زيادة قابلية التشارك في استخدام البيانات الصحية وتحليلاتها، ثانيها، تحقيق قدر أكبر من الانسجام بين أطر حوكمة البيانات الصحية من أجل التعاون بين الدول، بما في ذلك مشاركة واستخدام البيانات الصحية، وثالثاً وأخيراً، تعزيز تبادل الخبرات وأفضل الممارسات في مجال أمن البيانات الصحية، استجابة لتزايد حدوث هجمات ضارة على البيانات وحماية الخصوصية.

المصدر:

The Organisation for Economic Cooperation and Development (OECD), Health Data Governance for the Digital Age: Implementing the OECD Recommendation on Health Data Governance, May 2022.