من الصين إلى فنزويلا:

دوافع اتفاقيات إيران طويلة المدى مع دول مُعادية للغرب

28 June 2022


وقّعت إيران وفنزويلا، خلال زيارة رئيسها نيكولاس مادورو طهران، يوم 11 يونيو 2022، اتفاق تعاون استراتيجي لمدة 20 عاماً، لتكون هذه الخطوة امتداداً لاتفاقات أخرى مماثلة سبق أن وقّعتها طهران مع دول أخرى على غرار سوريا (أواخر عام 2018)، والصين (مارس 2021)، بينما ما زالت تدرس إمكانية توقيع اتفاق استراتيجي مع روسيا.

ومثلما كانت الحال مع الاتفاقين السابقين لإيران مع سوريا والصين، لم يتم الإفصاح عن كامل بنود الاتفاق الإيراني الجديد مع فنزويلا، حيث اكتفى البيان الخاص بهذا الاتفاق بذكر مجالات التعاون، موضحاً أنها تشمل السياسة والثقافة والسياحة والاقتصاد، ويختص بتدشين مشاريع تعاون مهمة في مجالات الطاقة والنفط والغاز والمصافي والبتروكيماويات والدفاع، من دون توضيح التفاصيل. كما اتفقت إيران وفنزويلا على تسيير رحلات جوية مباشرة بين البلدين اعتباراً من يوم 18 يوليو 2022.

ويأتي اتفاق طهران مع كراكاس ليطرح تساؤلاً مهماً حول دوافع إيران لعقد مثل هذه الاتفاقيات الاستراتيجية طويلة المدى مع أطراف إقليمية ودولية تتسم بعلاقاتها المُتوترة مع الغرب، وإن كانت إيران قد حاولت من خلال اتفاقها الأخير مع فنزويلا استباق التقارب الفنزويلي – الأمريكي المُحتمل؛ والذي بدت ملامحه مع زيارة وفد أمريكي رفيع المستوى إلى كاراكاس في مارس الماضي، والتي من جهتها أبدت ترحيباً بجهود الحوار مع واشنطن.

لماذا فنزويلا الآن؟

يمكن القول إن علاقات فنزويلا المُتوترة مع الولايات المتحدة، والعقوبات المفروضة على الأولى، قد ساهمت في التقريب بين طهران وكراكاس، حيث سعت إيران أكثر من مرة إلى أن تساعد فنزويلا بإرسال شحنات نفط إليها عندما تواجه أزمات في إمدادات الطاقة بسبب العقوبات الأمريكية التي قلصت من قدرة كراكاس على صيانة مصافي النفط ومواصلة إنتاجها، وسد الاحتياجات الداخلية من المُنتجات النفطية. فيما كانت سنوات حكم الرئيس الإيراني الأسبق، محمود أحمدي نجاد، هي الفترة الذهبية للعلاقات مع فنزويلا، تراجعت هذه العلاقات إلى حد ما خلال فترة رئاسة الرئيس السابق، حسن روحاني، لتعود بعد ذلك من جديد لتصبح رأس أجندة العلاقات الخارجية الإيرانية مع دول أمريكا اللاتينية في ظل عهد الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي.

وسبق هذا الاتفاق الاستراتيجي المُوقّع بين إيران وفنزويلا، إبرام الطرفين في منتصف مايو الماضي اتفاقاً اقتصادياً يتعلق بالقطاع النفطي، حيث يقضي بإصلاح طهران مصفاة تكرير "إل باليتو" في فنزويلا، بتكلفة تصل إلى 110 ملايين يورو. وتقوم إيران منذ عامين بتزويد فنزويلا بالنفط من خلال إرسال ناقلات لسد حاجة الأخيرة من النفط على الرغم من أنها دولة مُنتجة، لكن قطاعها النفطي يعاني مشكلات هيكلية بسبب العقوبات المفروضة عليها، ويأتي ذلك أيضاً كمحاولة من جانب طهران للالتفاف على العقوبات الأمريكية، والحصول على سيولة نقدية من دون الخضوع للسياسات البنكية لدى الدول التي تخشي الوقوع تحت طائلة الضغوط الأمريكية في هذا الإطار.

وبالرغم من أن الاتفاق على صيغة تعاون استراتيجي لمدة 20 عاماً بين إيران وفنزويلا، على الأرجح قد حدث بشكل مبدئي وتمت دراسة إمكانية توقيعه من الجانبين منذ عدة أشهر؛ فإنه في الوقت نفسه لا يمكن فهم دلالة توقيت الإعلان عنه وتوقيعه مؤخراً بعيداً عن قلق طهران من محاولات التقارب الأمريكي مع فنزويلا في الأشهر الماضية. إذ تعد الأخيرة أحد الحلفاء الرمزيين لإيران، ويُستمد هذا التحالف بينهما في جزء كبير منه من مقاومة الطرفين للضغوط الأمريكية المفروضة عليهما، كما تتخوف طهران من أن يحدث توافق بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا؛ تعود بموجبه كراكاس بكامل قدراتها إلى سوق الطاقة العالمي، بعد أن كانت مع إيران في خندق واحد كدول مُنتجة تعاني عقوبات على الإنتاج. وفي هذه الحالة، ستخسر إيران فرص الضغط على أسواق النفط العالمية بحصتها المُعطلة من الإنتاج، لمواجهة أزمة وقف إمدادات الطاقة الروسية للغرب، ناهيك عن خسارة فنزويلا كسوق حالي للنفط الإيراني.

أيضاً، تسعى طهران من وراء الاتفاق الاستراتيجي مع كراكاس، إلى خلق مساحة جدل أكبر حول مكانتها الدولية والإقليمية بالرغم من العقوبات التي تحد من قدرتها على الحركة اقتصادياً مع غير حلفائها، في وقت تتعرض فيه مباحثات إعادة إحياء الاتفاق النووي إلى خطر التجمد أو حتى الإلغاء، بعد توقفها لأكثر من ثلاثة أشهر من دون مؤشرات جدية على عودة الأطراف قريباً إلى طاولة المفاوضات. وبالتالي، تهدف إيران عبر تعاونها مع فنزويلا إلى إرسال رسالة مفادها أنها قادرة على التغلب على الحصار الاقتصادي المفروض عليها من قِبل الولايات المتحدة، فضلاً عن التأكيد على مكانتها القوية لدى حلفائها، لاسيما أن فنزويلا تترقب حالياً رد الفعل الأمريكي على نتائج المباحثات التي قام بها الوفد الأمريكي مع المسؤولين في كاراكاس، وأن هذا لم يمنعها من توقيع اتفاق إطاري مهم مع طهران؛ كونه يخترق العقوبات المفروضة على الجانبين.

أهداف متنوعة:

يفتح الحديث عن دلالات توقيت توقيع إيران اتفاق تعاون استراتيجي طويل المدى مع فنزويلا، المجال أمام فهم دوافع طهران لاختيار دول مُعادية للغرب أو علاقاتها مُتوترة معه، لعقد اتفاقيات استراتيجية معها، وذلك ابتداءً بسوريا، مروراً بالصين، ووصولاً إلى فنزويلا، ومن المُحتمل أيضاً في الطريق روسيا. 

كما دارت تكهنات حول إمكانية حدوث الأمر نفسه بين إيران وتركمانستان، خاصةً بعد زيارة الرئيس التركماني، سردار بردي محمدوف، لطهران في منتصف يونيو 2022، وإعلان الرئيس الإيراني، رئيسي، خلال هذه الزيارة، أن "المحادثات مع الجانب التركماني عكست عزم البلدين على التعاون المشترك والمُضي نحو إبرام معاهدة استراتيجية شاملة للتعاون لمدة عقدين". ولكن ربما تكون تركمانستان خارج إطار القاعدة السابقة الإشارة إليها إلى حد ما، بسبب علاقاتها غير المُتوترة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن الانفتاح الذي أبدته عشق آباد خلال السنوات القليلة الماضية قد فتح المجال أمام الحديث عن استثمارات أمريكية بها في مجال الغاز الطبيعي، لاسيما في ظل وجود دوافع أمريكية لإخراج دول آسيا الوسطي المُنتجة للنفط من دائرة النفوذ الروسي، ومحاولة احتواء التحركات الصينية الهادفة إلى زيادة نفوذها في هذه المنطقة.

وإجمالاً، يمكن الإشارة إلى عدد من الدوافع التي تحرك إيران نحو إبرام اتفاقيات تعاون طويلة الأمد مع دول أخرى، تشترك في كون علاقاتها متوترة مع الغرب، ومنها الآتي:


1- دعم إيران في مقاومة الضغوط الغربية: تتمسك طهران بمحاولات بناء جبهة مقاومة للضغوط الغربية والأمريكية أو ما يحلو للنظام الإيراني وصفة بـ "الاستكبار العالمي"، بحيث تضم هذه الجبهة الدول التي تتعرض لضغوط مماثلة، سواء كان ذلك من خلال عقوبات اقتصادية وسياسية، أو بوجود خلاف سياسي أو حتى صراع على النفوذ. وهي أنماط في مُجملها تنطبق حتى الآن على الدول التي سعت إيران لعقد اتفاقيات تعاون استراتيجي معها، بل إنها تحرص على بقاء تلك الدول داخل هذا النمط من العلاقات المُعادي للغرب؛ لكي تظل إيران مُتصدرة لمشهد تحدي القوى الغربية الكبرى. وهذا ما يجد صدى كبيراً إلى حد ما في الداخل الإيراني، بل ويعتبره النظام رصيداً له عند شريحة كبيرة من الرأي العام الإيراني.

2- تعزيز مصالح طهران الاقتصادية: عملت إيران على تحقيق هدف مهم من الاتفاقيات السابقة مع الصين وسوريا، يتمثل في خلق وتعميق ارتباط إيران بالبنية الاقتصادية مع بعض دول الإقليم من خلال "مبادرة الحزام والطريق"، فضلاً عن تقوية نفوذ طهران في الداخل السوري، ومد شبكات من تجارة الترانزيت التي تجعل من سوريا منطلقاً إيرانياً مهماً لدول جوارها؛ وهو الأمر الذي قد يقود إلى خلق مصالح إقليمية تكون طهران طرفاً فاعلاً فيها، مما يعمل على كسر حدة العزلة المفروضة عليها بسبب سياستها في المنطقة، وتورطها في أكثر من صراع إقليمي.

3- إنعاش قطاع النفط الإيراني: لا يخفى على أحد أن تأثيرات العقوبات الأممية التي كانت قد فُرضت على إيران منذ عدة سنوات، وحالياً العقوبات الأمريكية عليها، قد طالت قطاعها النفطي الذي عاني عدم توافر موارد للتطوير وإعادة الهيكلة، فضلاً عن العقوبات المباشرة المُوقعة على تصدير النفط ومشتقاته؛ الأمر الذي حدّ من قدرة إيران على الاستمرار حتى في تصدير النفط لحلفائها في المنطقة، لاسيما بعد توقف الدول الثماني الحاصلة على إعفاءات لشراء النفط الإيراني (تركيا، والصين، والهند، وإيطاليا، واليونان، وكوريا الجنوبية، وتايوان)، عن استيراده منذ مايو 2019.

فعلي سبيل المثال، فإن الاتفاق الاستراتيجي مع بكين قد مكّن إيران من تحدي العقوبات الأمريكية، وإعادة توريد النفط إلى الصين، حيث أعلنت الأخيرة عن أولى وارداتها من النفط الخام الإيراني في يناير 2022، موضحة أنها استوردت خلال هذه الشحنة الأولى أكثر من 260 ألف طن من النفط الخام، فيما توالى بعد ذلك توريد النفط الإيراني إلى الموانئ الصينية.

وبالمثل يُعزز الاتفاق الاستراتيجي لإيران مع فنزويلا من تعاون الدولتين في مجال الطاقة، والذي بموجبه بدأت طهران في إرسال ناقلتي نفط إلى كراكاس من أصل 4 ناقلات تم الاتفاق عليها، فضلاً عن الاستثمارات الإيرانية في مصافي التكرير، وهو ما يُمثل دخلاً للاقتصاد الإيراني خارج إطار السياسات العقابية للولايات المتحدة الأمريكية. كما تعد جهود طهران لدعم فنزويلا في مواجهة العقوبات النفطية المفروضة عليها، خطوة نحو تشكيل تحالف جديد للطاقة في مواجهة العقوبات الأمريكية، ويتضح هذا الأمر إذا ما تم النظر إلى الجولة المكوكية التي قام بها الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، خلال شهر يونيو 2022، لكل من الجزائر وتركيا، إلى جانب إيران.

كما يُتوقع أن يتضمن الاتفاق الاستراتيجي المُحتمل لإيران مع روسيا، عدة بنود لتطوير القطاع النفطي الإيراني، والتعاون بينهما بشكل سينعكس بشكل إيجابي على قدرات هذا القطاع في الداخل الإيراني، لاسيما في ظل ما تتبعه طهران من سياسات داعمة لموسكو في إطار مساعدتها على الإفلات من العقوبات الأوروبية والأمريكية المُوقعة عليها، على خليفة الحرب الأوكرانية، وهو ما ظهر مثلاً عندما أقدمت اليونان في 19 أبريل 2022 على احتجاز ناقلة نفط روسية تحمل نفط إيراني بالقرب من جزيرة أيفيا، تماشياً مع عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد موسكو، وذلك قبل أن يتم الإفراج عن الناقلة لاحقاً بعد نحو شهرين.

ختاماً، يمكن القول إن طهران تسعى لتوسيع دائرة خياراتها إذا ما استمر الوضع كما هو عليه، وبقي الاقتصاد الإيراني قابعاً تحت وطأة العقوبات الأمريكية، وفشلت جهود العديد من الأطراف الدولية في إعادة مفاوضات إحياء الاتفاق النووي إلى مسارها، والتوصل إلى صيغة يمكن التوافق عليها. وفي ظل هذه الظروف، تعمل إيران على خلق شراكات استراتيجية مع حلفاء تشترك معهم في أهداف مواجهة النفوذ الغربي، ومن خلال اتفاقيات طويلة الأمد تُلزم أطرافها بالعمل وفق بنودها؛ مما يتيح لطهران مزيداً من الوقت لترتيب أوراقها، وإيجاد بدائل لحل أزماتها السياسية والاقتصادية في الداخل والخارج.