بناء الجيوش:

كيف تنجو دول المنطقة من "فخ" الحرب الأهلية؟

01 November 2015


إعداد: عزة هاشم


 تواجه إدارة الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" العديد من الانتقادات لعدم صياغتها استراتيجية شاملة للتعامل مع الأزمات المتنامية في الشرق الأوسط، ومن أبرزها تصاعد الحروب الأهلية في سوريا والعراق وليبيا، والتي أضحت تهدد استقرار دول الجوار مثل لبنان والأردن وتركيا وتونس ومصر، بالإضافة إلى تزايد نفوذ الجماعات المتطرفة وسيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا وليبيا والعراق والصومال، والتي امتد نفوذها أيضاً إلى دول في أقصى الجنوب مثل كينيا ومالي وتنزانيا وجنوب السودان.

ولا يصح التعامل مع التنظيمات المتطرفة مثل تنظيم "داعش" أو "القاعدة"، بمعزل عن التعامل مع المشكلات الكبرى التي مهدت السبيل لظهورها. وثمة تحذيرات من أنه في حال تجاهل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي العمل على معالجة تلك المشكلات، فإن الحروب الأهلية سوف تمتد لتنشر الفوضى وعدم الاستقرار ليس في إقليم الشرق الأوسط فقط، ولكن قد تصل للولايات المتحدة ولبقية دول العالم أيضاً.

ومن هنا، تبدو الحاجة الماسة لصياغة الولايات المتحدة لاستراتيجية جديدة للتعامل مع الحروب الأهلية في اليمن وليبيا والعراق وسوريا، والتي تمثل التهديد الأكثر خطورة لمصالح واشنطن، خاصةً في حال امتدادها لدول مثل لبنان والأردن والبحرين والجزائر ومصر. وبالتالي، فإن أي استراتيجية يمكن أن تتبناها الولايات المتحدة، يجب أن تضع التعامل مع الحروب الأهلية في الشرق الأوسط على رأس أولوياتها.

ومن المهم الاستفادة من طبيعة الحروب الأهلية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تتسم بأنها حروب ليست متفردة، فعلى الرغم من تباين التفاصيل، فإن الأسباب التي تكمن خلفها هي ذاتها التي تقف وراء معظم الحروب الأهلية التي نشبت في العديد من دول العالم.

وتبدو أهمية هذه التشابهات في كونها تُسهل إمكانية الاستفادة مما طوره الباحثون في السابق من دراسات حول أسباب الحروب الأهلية وسُبل مواجهتها.

ما سبق، يمثل مقدمة دراسة صادرة عن دوريةThe Washington Quarterly  تحت عنوان: "الهروب من فخ الحرب الأهلية في الشرق الأوسط"، والتي أعدها كل من Kenneth M. Pollack الزميل الأول في معهد بروكنجز، وbarbara F.Walter الأستاذة في كلية السياسة العالمية والاستراتيجية بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو. وتُقدم الدراسة مجموعة من التوصيات لما يجب على المجتمع الدولي القيام به للمساعدة في إنهاء العنف بمنطقة الشرق الأوسط.

لماذا نعطي الأولوية للحروب الأهلية؟

تتضمن الحروب الأهلية في الشرق الأوسط أربعة تهديدات رئيسية لمصالح الولايات المتحدة، تشمل من وجهة نظر الدراسة ما يلي:ـ

1 ـ خفض إنتاج النفط: إذ تمثل صادرات النفط واستقرار سوقه المصلحة الأكثر أهمية للولايات المتحدة، خاصةً في ظل ما تشير إليه الاتجاهات العامة في مجال الطاقة من أن أسعار النفط سوف تنتعش في غضون سنوات (إن لم يكن أشهر)، وسوف يظل النفط مصدر الإسهام الأساسي للاقتصاد العالمي.

2 ـ خلق بيئة مهيأة لانتشار وتنامي نفوذ الجماعات الإرهابية: حيث تخلق الحروب الأهلية مناطق غير محكومة يمكن أن تصبح بيئة آمنة ومُهيأة لنشاط وإعادة تنظيم الجماعات المتطرفة وانتشارها. ويرى الباحثان أنه ليس من قبيل الصدفة أن العديد من أسوأ الجماعات الإرهابية على كوكب الأرض خرجت من رحم حروب أهلية، وتطرقا في هذا الصدد إلى العديد من الأمثلة على هذه الجماعات.

3 ـ الحروب الأهلية يمكن أن تجلب للسلطة حكومات معادية لمصالح الولايات المتحدة: إذا ما تم تجاهل ما يدور من حروب أهلية، فغالباً ما سيكون النصر الحاسم للفريق الأكثر قدرة على توظيف العنف، وهذا يعني أن التنظيم الأكثر عدوانية هو الذي يمكن أن يشكل حكومة جديدة، وغالباً ما ستكون معادية للولايات المتحدة ومصالحها.

4 ـ الحروب الأهلية تساعد في نشوب حروب جديدة بين (أو داخل) دول الجوار: في معظم الأحيان تتورط دول الجوار في الحروب الأهلية، نظراً لتدخلها المباشر لمساعدة أحد أطراف التمرد، أو لجوء المتمردين لهذه الدول، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تعرضها لهجوم من الحكومات المجاورة.

المسارات المعتادة لإنهاء الحروب الأهلية

نظراً للتهديدات السابقة، يؤكد الباحثان في هذه الدراسة أن أي استراتيجية جديدة للولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط يجب أن تبدأ بخطط واضحة للتعامل مع الحروب الأهلية الأربعة الموجودة حالياً في العراق وسوريا واليمن وليبيا.

وثمة مساران رئيسيان حددهما الباحثون المتخصصون في دراسات الحروب الأهلية لوضع نهاية مبكرة وحاسمة لها، وهما:ـ

المسار الأول: تحقيق انتصار عسكري حاسم؛ فقد كانت أقصر الحروب الأهلية التي نشبت خلال السبعين عاماً الماضية هي تلك الحروب التي تضمنت قدرة جانب واحد على تحقيق نصر سريع وحاسم مكنه من إعادة السيطرة على الدولة.

وهناك عاملان مشتركان في هذه الحروب الأهلية القصيرة، وهما: إما أن تبدأ هذه الحروب بانقلاب ناجح يقوده مسؤولون حكوميون سابقون أو أفراد القوات المسلحة (وهو ما حدث في بوليفيا مثلاً في عام 1952)؛ أو أنها تبدأ بمظاهرات حاشدة في العواصم إلى أن يتم عزل الحكومة الحالية على وجه السرعة (وهو ما حدث في الثورة الإيرانية في عام 1979).

أما في حالة الحروب الأهلية التي تستغرق وقتاً طويلاً، فهي تلك الحروب التي لا يمتلك فيها المتصارعون، سواء السلطة أو معارضوها، القدرة على تحقيق انتصار آمن وسريع.

المسار الثاني: عقد اتفاقيات سلام بين الفصائل الرئيسية المتقاتلة تضمن التوزيع العادل والمستدام للسلطة السياسية؛ فقد أثبتت الدراسات العلمية المتعددة والتجارب السابقة أن تقديم ضمانات سياسية وعسكرية لتقاسم السلطة هي مفتاح إقناع الفصائل المتحاربة لتوقيع اتفاقيات سلام ووقف القتال، حيث يجب أن يكون هناك حافزاً وسبباً وجيهاً لوقف القتال، فإذا لم يتحقق لهذه الأطراف مصالح حقيقية في إطار السلطة الجديدة، لن تكون هناك جدوى للاتفاق.

وهذا يعني أنه يجب توفير رؤى وترتيبات واضحة لتقاسم السلطة بين جميع الأطراف، مع ضمان توفير حماية واضحة لجميع الفئات بما في ذلك الأقليات.

إنهاء الحروب الأهلية في الشرق الأوسط

تؤكد الدراسة على أهمية ألا يتم تقديم الدعم الكامل لأحد الأطراف كي يحقق انتصاراً عسكرياً كاملاً على الطرف الآخر، لأن هذا الدعم لجانب واحد فقط قد يشجع الدول والجهات الخارجية الفاعلة الأخرى على المساهمة بالمال والموارد لدعم الجانب الآخر، وهو ما قد يؤدي إلى إطالة أمد الحرب الأهلية.

وفي ظل حالة الاستقطاب التي يعانيها الشرق الأوسط بين السنة والشيعة، فإن العمل على تمكين الشيعة لسحق أهل السنة في العراق، أو العكس في سوريا، لن يؤدي إلا إلى استعداء الجانب الآخر في جميع أنحاء المنطقة، وإطالة الحروب الأهلية القائمة، وربما التحريض على صراع إقليمي أوسع وأعمق.

وينوه الباحثان أن هذا لا يعني إثناء الولايات المتحدة عن حربها ضد تنظيم "داعش"، وإنما يتوجب عليها التفكير في إطار أوسع من فكرة هزيمة "داعش"، لأن الحروب الأهلية التي تعاني منها المنطقة يمكن أن تنتج تنظيمات إرهابية أخرى بديلة لا تقل خطورة عن "داعش".

من هنا يصبح لزاماً على واشنطن أن تتخذ خطوات جادة لخلق ظروف ملائمة يمكن من خلالها إجراء مفاوضات ناجحة بين الأطراف المتصارعة في الدول التي تعاني من حروب أهلية، وتشتمل هذه الظروف على: (الحيلولة دون حدوث انتصار عسكري كامل، وإعادة التوزيع العادل للسلطة السياسية، وضمان استدامة التنفيذ بمرور الزمن).

ويجب أن يكون مفهوماً أن هذا سيتم بمصادر محدودة مقارنةً بتلك التي كان يتم الاعتماد عليها في الماضي، فمن غير المرجح أن تقوم الولايات المتحدة مرة أخرى بنشر 150 ألفاً من القوات العسكرية البرية في أي من هذه الدول. وبالتالي، فإن أي اتفاق سوف يتم تنفيذه من قِبل الأطراف المشاركة في النزاع مع تدخل خارجي محدود النطاق.

وتعرض الدراسة ما يمكن على الولايات المتحدة فعله لمساعدة الدول التي تعاني من الحروب الأهلية في الشرق الأوسط:ـ

1 ـ العراق:

يجب أن تركز استراتيجية إدارة "أوباما" المُعلنة للعراق، على بناء جيش غير مُسيس وغير طائفي، بحيث يكون قادراً على المساعدة في تنفيذ اتفاقات تقاسم السلطة في المستقبل. ويمكن أن تقوم واشنطن بتوظيف مستشارين أمريكيين لإعادة بناء قوات مسلحة عراقية غير مُسيسة، ومن ثم تعيد هذه القوات إلى العراق مرة أخرى السيطرة على الأراضي التي استولى عليها تنظيم "داعش".

ولعل القيام بذلك من شأنه أن يساعد في إقناع الطائفة السنية بأنهم غير مستهدفين، وهو ما يمكن أن يخلق لديهم الحافز للموافقة على اتفاق لتقاسم السلطة.

2 ـ سوريا:

تشير الدراسة إلى صعوبة إنهاء الحرب الأهلية في سوريا، لأسباب ثلاثة رئيسية، وهي: أ- النظام الحالي لا يحظى بشعبية ولا يمثل سوى أقلية من السكان. ب- قوة وتسليح الفصائل المعارضة. ج- لا يوجد لدى سوريا تاريخ لتسوية طائفية أو عرقية. ومن ثم، قد يكون من الأمثل أيضاً إنشاء جيش معارضة جديد قوي وغير طائفي وغير مسيس، وعندما يكون جاهزاً يمكن أن يقوم - بتعزيز من القوة الجوية الأمريكية - بتحرير وإعادة السيطرة على الأراضي التي يستولي عليها كل من نظام "الأسد" ومختلف الجماعات الجهادية، واستخدام تلك الأراضي في بناء نظم سياسية واقتصادية جديدة.

3 ـ ليبيا:

تبدو الاستراتيجية المُلائمة في ليبيا مشابهة للاستراتيجية الملائمة في سوريا، فثمة حاجة ماسة لقوة عسكرية جديدة قادرة على هزيمة جميع القوى المنظمة، والتي تحاول السيطرة على السلطة. وتتطلب ليبيا أيضاً نفس النمط من تقاسم السلطة والتوزيع المتساوي للموارد بين الفصائل المتحاربة.

ويتوقف النجاح في هذه الإجراءات على القدرة على إقناع الفصائل المتحاربة بأن التسوية هي البديل الأمثل والأفضل من استمرار القتال. وتمثل ليبيا تحدياً كبيراً نظراً لخطورتها وأهميتها الاستراتيجية التي تفوق بكثير قدر الاهتمام الموجه نحوها الآن، ليس فقط لأنها دولة غنية بالنفط، وإنما بسبب موقعها الاستراتيجي وجوارها المباشر لمصر أكبر الدول العربية.

4 ـ اليمن:

من الناحية الإنسانية، فإن اليمن تعد جديرة بنفس القدر من الاهتمام الموجه لسوريا والعراق وليبيا، ولكن المشكلة هي أن اليمن تقل أهميتها سياسياً واستراتيجياً عن باقي الدول الأخرى بمنطقة الشرق الأوسط في نظر الولايات المتحدة وباقي دول العالم، نظراً لعدم وجود مصالح سياسية أو اقتصادية مباشرة لواشنطن داخل اليمن.\

ومع ذلك، تُمثل اليمن خطراً كبيراً على المملكة العربية السعودية؛ فهي بمثابة الهاجس الذي يؤرق المملكة، ومن هنا يمكن أن يأتي الخطر الأكبر على مصالح الولايات المتحدة، إذ قد تؤدي إطالة الحرب في اليمن إلى إرهاق المملكة سياسياً وعسكرياً وربما اقتصادياً، وهنا يقع على عاتق واشنطن مهمة البحث عن حل سياسي في اليمن.

وفي نهاية الدراسة، يرى الباحثان أن الجهود التي يمكن أن تبذلها الولايات المتحدة في سبيل منع حلفائها من الدخول في دائرة الحرب الأهلية لا تقل أهمية عن الجهود التي تبذلها لإنهاء هذه الحرب. ويتناول الباحثان بإيجاز أربعة عوامل مهيأة للوقوع في الحروب الأهلية، تشمل: سوء إدارة الحكم، ودول الجوار، والدول الضعيفة، والعامل الرابع وهو كيفية استجابة الحكومات لمطالب التغيير. ومن ثم، فإن السبيل الوحيد لتجنب العنف في منطقة الشرق الأوسط يكمن في اتباع نظم إصلاح أكثر فاعلية، وتوفير إطار قانوني محايد يصب في صالح المواطنين، وهي أيضاً الركيزة الأساسية التي يجب أن تتوفر في أي استراتيجية أمريكية جديدة للشرق الأوسط.


* عرض مُوجز لدراسة: "الهروب من فخ الحرب الأهلية في الشرق الأوسط"، الصادرة عن دوريةThe Washington Quarterly ، صيف 2015.

المصدر:

Kenneth M. Pollack and Barbara  F.Walter, Escaping the Civil War Trap in the Middle East, The Washington Quarterly, Volume 38, Issue 2 (Washington, Elliott School of International Affairs, Summer 2015) pp. 29–46