الشروق:

جولة بلينكن.. محاولة تغيير النهج الأمريكي في إفريقيا

29 November 2021


نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب حمدى عبدالرحمن تناول فيها تحليل زيارة وزير الخارجية الأمريكى الأخيرة إلى ثلاث دول أفريقية.. نعرض منه ما يلى.

قام وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، بجولة أفريقية استغرقت 5 أيام خلال الفترة من 15 إلى 20 نوفمبر 2021، وهى الأولى له فى المنطقة منذ توليه منصبه فى يناير الماضى. وقد شملت هذه الجولة كلا من كينيا ونيجيريا والسنغال. وتأتى هذه الزيارة وسط تحديات هائلة تواجه السياسة الأمريكية فى جميع أنحاء أفريقيا، بما فى ذلك الانتقال المتعثر فى السودان، والصراع الأهلى المستمر فى إثيوبيا، والمخاوف المتزايدة بشأن عدم الاستقرار والتراجع الديمقراطى وقدرة الدولة على البقاء فى نيجيريا. كما تشعر واشنطن بالقلق إزاء تمدد دور كل من الصين وروسيا فى القارة الأفريقية، وذلك على حساب بعض الشركاء التقليديين للولايات المتحدة.

تكمن أهمية اختيار كينيا ونيجيريا والسنغال فى جولة وزير الخارجية الأمريكى، بلينكن، فى كونها تجسد أهداف السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا فى عهد إدارة جو بايدن. إذ إن أفريقيا ككل تكتسب أهمية استراتيجية كبرى تجعلها تسهم فى تشكيل مستقبل العالم، بحسب تعبير بلينكن. ولعل ما يجمع هذه الدول أنها قد تشكل نموذجا يُحتذى به للشراكات الأمريكية الجديدة فى مجالات تعزيز التحول الديمقراطى، ودعم محركات النمو الاقتصادى والابتكار، ومكافحة التغير المناخى.

وقد اتضح ذلك من اجتماع بلينكن مع رائدات أعمال فى داكار، وحضوره حفل توقيع لأربع شركات أمريكية تعقد صفقات بنية تحتية كبيرة فى السنغال تبلغ قيمتها حوالى مليار دولار. كما أنه زار معهد باستور، الذى يعمل على إنتاج لقاح لفيروس كوفيد ــ 19 بمساعدة من الولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، أصبح الدفاع عن الديمقراطية سمة مميزة لسياسة بايدن الخارجية، خاصة أن الولايات المتحدة تتنافس على النفوذ مع الصين فى أفريقيا وحول العالم.

شعار «العودة إلى أفريقيا»

كانت رحلة بلينكن تهدف، ولو جزئيا، إلى إبراز صورة واشنطن كفاعل رئيسى فى المبادرات الإقليمية والدولية لاستعادة السلام وتعزيز الديمقراطية فى الوقت الذى تنافس فيه الصين وروسيا وغيرهما من الدول الفاعلة فى العلاقات الدولية. وكان من الصعب الترويج لشعار «العودة إلى إفريقيا»، على الرغم من المساهمات الأمريكية الهائلة بالمال واللقاحات لمكافحة جائحة فيروس كورونا وغيره من الأمراض المعدية؛ إذ إن الصين تقوم طول الوقت بضخ المليارات فى مشروعات الطاقة الأفريقية والبنية التحتية وغيرها من المشاريع التى تعتبرها واشنطن «عمليات نصب واحتيال» مصممة للاستفادة من الدول الإفريقية.

قد تركت تداعيات الانسحاب من أفغانستان بعض الأفارقة يتساءلون عن مدى جدية علاقاتهم مع واشنطن. وكان هذا مصدر قلق خاص، حيث قامت الصين بملء الفراغ الذى تركه غياب الولايات المتحدة عن أفريقيا وانشغالها بأجزاء أخرى من العالم. وقد غذى هذا التصور عدم اكتراث إدارة دونالد ترامب السابقة بأفريقيا إلا من منظور قوة الصين الآخذة فى التوسع السريع، وهو أمر تأمل إدارة بايدن الحالية تغييره.

نهج جديد لاحتواء الصين

قد كانت السياسة الأمريكية تقوم على حض الدول الأفريقية صراحة على عدم الدخول فى صفقات مع بكين، لأنها سوف تثقل كاهلها بالديون. وعوضا عن أسلوب الوعظ والتحريض الأمريكى الذى لم يجد نفعا فى الماضى، يحاول بلينكن أن يقدم للدول الأفريقية مسارا مختلفا يعتمد على الدخول فى صفقات أكثر استدامة تُفيد العمالة الوطنية، حيث يريد أن تكون المنافسة بين الولايات المتحدة والصين فى القارة «سباقا على القمة»، كما يسميها. ومن الطريف أن وزير الخارجية النيجيرى تحدث عن كيفية استفادة أفريقيا من هذا التنافس الدولى، حيث شبه بلاده بـ «العروس الفاتنة التى يتبارى الجميع على استرضائها، ويكون فى مقدورها فى نهاية المطاف أن تأخذ ما تستطيع من كل منهم».

من الواضح أن النهج الأمريكى الجديد اتخذ لغة أخف حدة فى التعامل مع الصين، مقارنة بحالة وزير الخارجية الأمريكى السابق، مايك بومبيو، الذى وضع إطارا لزيارته الوحيدة إلى إفريقيا، فى فبراير 2020، حول المنافسة مع بكين، وحث حينها الدول الإفريقية على توخى الحذر من وعود «الأنظمة الاستبدادية»، على حد وصفه، واعتبر أن الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة ستحقق «تحررا حقيقيا».

تعزيز التبادل التجارى. إن أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة فى إفريقيا هما نيجيريا وجنوب إفريقيا، حيث يمثلان معا أكثر من نصف إجمالى التجارة بين الولايات المتحدة وإفريقيا. وبشكل عام، تمثل التجارة مع قارة إفريقيا 1٪ فقط من إجمالى التجارة الخارجية للولايات المتحدة. بينما تصدر البلدان الإفريقية الموارد الطبيعية فى المقام الأول، فإنه يتم استيراد العديد من العناصر المُصنعة من الولايات المتحدة. وهذا الاختلال فى التوازن مع أفقر منطقة فى العالم يتم الترويج له بشكل متعمد من خلال قانون النمو والفرص فى إفريقيا (أجوا)، الذى ظل ساريا منذ 20 عاما. ويسمح هذا القانون باستيراد السلع المُعفاة من الرسوم الجمركية من العديد من الدول الإفريقية، ويدعم بشكل أساسى التجارة فى الملابس المُنتجة فى إفريقيا، وهى أهم الصادرات المُصنعة إلى الولايات المتحدة.

ومع ذلك، انخفضت التجارة بين الدول الإفريقية والولايات المتحدة بشكل حاد على مدى السنوات الخمس الماضية. وفى الوقت نفسه، تُظهر المقارنة أن الصين أصبحت شريكا تجاريا مهما بشكل متزايد لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والقارة بأكملها. وطبقا لأحدث الإحصاءات، يبلغ حجم التجارة بين الدول الأفريقية والصين أربعة أضعاف حجم تجارة الأولى مع الولايات المتحدة. وعليه، فإن التوجه الأمريكى الجديد نحو إفريقيا يسعى إلى تحقيق شراكات اقتصادية مع دول هذه القارة.

التركيز على مكافحة الإرهاب. لعل من أبرز ملامح السياسة الأمريكية المعاصرة تجاه إفريقيا مكافحة الإرهاب ودعم القوات العسكرية والأمنية الوطنية. قام الجيش الأمريكى منذ عام 2001 بإنشاء شبكة من القواعد فى نحو 15 دولة إفريقية، وبشكل أساسى فى منطقة الساحل والقرن الإفريقى. وقد انخرطت القوات الأمريكية فى أنشطة واسعة النطاق بالقارة السمراء على مر السنين، حيث دفعت واشنطن مليارات الدولارات فى شكل «مساعدات أمنية» لشركائها الأفارقة، كما قامت قوات العمليات الخاصة الأمريكية نفسها بمهام قتالية لمكافحة الإرهاب فيما لا يقل عن 13 دولة إفريقية بين عامى 2013 و2017. وفى عام 2019، شنت الولايات المتحدة غارات جوية على أهداف إرهابية لحركة الشباب فى الصومال بمعدل مرة واحدة فى الأسبوع.

وفى عام 2007، تم إنشاء القيادة الأمريكية فى إفريقيا (أفريكوم) ومقرها فى مدينة شتوتجارت، لإدارة عمليات الانتشار. واعتبارا من يناير 2020، وفقًا لـ «أفريكوم»، تمركز 5100 من أفراد الجيش و1000 من المدنيين العاملين فى البنتاجون فى إفريقيا. وبدأ هذا الوجود الأمريكى يتناقص مع زيادة المطالب الداخلية بضرورة عودة القوات من الخارج. وحتى الآن، لا توجد مؤشرات على أن إدارة بايدن ستصبح أكثر انخراطا عسكريا فى مكافحة الإرهاب. وفى الوقت نفسه، من غير الواضح أيضا ما إذا كان قرار ترامب الخاص بسحب القوات من إفريقيا سوف يتم تعديله.. وتولى الإدارة الأمريكية فى عهد بايدن مسألة الوجود الروسى فى المنطقة اهتماما بالغا، وهو ما يجعلنا أمام ظاهرة «الاحتواء المزدوج» لكل من الصين وروسيا فى إفريقيا.

التحديات الإثيوبية والسودانية. لقد استهلك بلينكن بالتأكيد الكثير من الوقت خلال محطته الأولى فى كينيا، التى تهدف الولايات المتحدة إلى أن تكون بديلا عن أديس أبابا فى القيام بدور إقليمى قيادى، لمناقشة الأوضاع المتردية فى كل من السودان وإثيوبيا. فقد تسببت الحرب الأهلية التى استمرت عاما فى إقليم تيجراى بإثيوبيا فى حدوث مجاعة وفظائع متزايدة. وحاولت الولايات المتحدة من دون جدوى إقناع الحكومة هناك بوقف القتال والسماح بوصول المساعدات الإنسانية. وبدلا من ذلك، أطلق رئيس الوزراء الإثيوبى، آبى أحمد، انتقادات شديدة الخطورة ضد الجهود الغربية لوقف الحرب برسالة على موقع «تويتر»، حيث ألقى فيها باللوم فى المشاكل التى تشهدها إثيوبيا على «حرب سردية معقدة» يقودها «أعداء» لم يكشف عن أسمائهم، وذلك فى إشارة إلى ألد خصومه التيجراى. وقال أحمد إن هذه القوى «تستخدم المعلومات المضللة كمسار لتحركها الشرير». وفى ظل هذا الإصرار والتعنت من أطراف الحرب جميع فى إثيوبيا، بحث بلينكن عن مساعدة إقليمية لهذه الأزمة.

وفيما يتعلق بقضية السودان، يبدو أنها أقل تعقيدا. فقد أدان الوزير بلينكن إجراءات البرهان الاستثنائية، وطالب بعودة رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، من أجل استمرار مسيرة الانتقال الديمقراطى وانتخاب حكومة مدنية. ولعل الصفقة التى تم بموجبها عودة حمدوك يوم 21 نوفمبر 2021 إلى منصبه وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، قد أعادت قدرا من الاستقرار إلى السودان.

لم يوضح بلينكن الخطوات الإضافية التى قد تتخذها الولايات المتحدة للتأثير على مسار الأحداث فى السودان وإثيوبيا، لكنه حذر من أنه سوف تكون هناك عواقب لما أسماه «الفظائع» فى إثيوبيا.

ختاما، أظهرت جولة بلينكن الأفريقية أن هناك تحولا ملحوظا فى الطريقة التى ترى بها الولايات المتحدة وتتحدث عن إفريقيا. لقد تحدث الوزير بلينكن فى محطاته الثلاث عن الشراكات التعاونية التى تقوم على الندية والمصالح المتبادلة، وابتعد عن «الأسلوب الاستعلائى» الذى ميز خطابات الإدارات الأمريكية السابقة نحو إفريقيا. ولا شك أن الاعتراف الأمريكى بأن «إفريقيا هى المستقبل»، يؤكد أنه لم يعد من الممكن تجاهل هذه القارة، بيد أن المعيار الذى سوف يحدد مسار النهج الجديد تجاه إفريقيا يعتمد على مدى التخلى عن خطاب تنافس القوى العظمى ودلالاته الاستعمارية فى القارة الإفريقية.

*لينك المقال في الشروق*