مصالح متشابكة:

المسارات المستقبلية للأمن في القارة الآسيوية

30 November 2015


إعداد: أحمد عبدالعليم


ثمة محاولات لاستشراف مستقبل القارة الأسيوية، نظراً لما تتمتع به من ثقل ديموغرافي واستراتيجي كبير، فضلاً عن تحقيقها طفرات اقتصادية كبيرة خلال العقود القليلة الماضية التي شهدت كذلك صعوداً صينياً له تأثيرات كبيرة ليس فقط على مستقبل هذه القارة، ولكن أيضاً على المجتمع الدولي؛ حيث تعد بكين قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة اقتصادياً وعسكرياً.

وانطلاقاً مما سبق، تأتي الدراسة المعنونة: "وجهات نظر الجيل القادم حول مستقبل الأمن الآسيوي"، والصادرة عن "صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة"، والتي أعدها عدد من الباحثين والمتخصصين في الشأن الآسيوي، وفي مقدمتهم "أرون فريدبرج" Aaron Friedberg  أستاذ العلوم السياسية والشئون الدولية في جامعة برنستون الأمريكية.

وتعرض هذه الدراسة وجهات النظر الأمريكية بشأن مستقبل القارة الآسيوية خاصةً فيما يتعلق بالبيئة الأمنية في هذه القارة، والصعود الصيني وتبعاته الإقليمية والدولية، ومستقبل الدور الأمريكي في آسيا، ومستقبل العلاقات الأمريكية- الصينية. وكذلك تحاول الدراسة الإجابة على تساؤل متعلق بالمسارات المستقبلية المحتملة لعدد من دول القارة مثل اليابان، الهند، أستراليا، ونيوزيلندا، ومدى تأثير تلك الدول على مستقبل التنمية في القارة، وكذلك على الوضع الأمني فيها.

وجهات نظر أمريكية بشأن مستقبل القارة الآسيوية

يشير "Aaron Friedberg" إلى أنه منذ نهاية الحرب الباردة، تواجه آسيا توجهات متناقضة فيما يتعلق بالبيئة الأمنية، فمن جانب شهدت القارة عوامل محفزة على السلام، ومنها زيادة في التدفقات البينية للسلع ورأس المال والمعلومات، وتوسيع البنية التحتية، وزيادة التكامل الإقليمي. ومن جانب آخر؛ شهدت آسيا ارتفاعاً لمستويات المنافسة والصراع بين دول القارة المختلفة، بالإضافة إلى انتشار التقنيات المدمرة، والنزاعات على الأراضي والموارد، وهو ما يؤدي إلى عدم الاستقرار الأمني.

وفي هذا الصدد، يستعرض كل من  Caitlin Talmadg- أستاذ العلوم السياسية والشئون الدولية المساعد في جامعة جورج واشنطن، وZack Cooper – الزميل في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وجهات النظر الأمريكية بشأن مستقبل القارة الآسيوية، وذلك من خلال بحث النقاط التالية:

1- أمن القارة الآسيوية:

يشير الباحثان إلى أن معظم الأمريكيين يعترفون بمركزية القارة الآسيوية بالنسبة للمصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية الأمريكية، حيث تضم هذه القارة حوالي نصف سكان العالم واثنين من المحيطات الحيوية، بالإضافة إلى كونها تعد بمثابة موطن لحلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة اللذين يرتبطون معها بعلاقات مستقرة.

وبالرغم من الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، والتحديات العالمية الأخرى التي تواجه واشنطن، لكن تظل القارة الآسيوية ذات مكانة استراتيجية أكبر للولايات المتحدة. وقد شهدت هذه القارة نمواً خلال العقود الماضية لم يسبق له مثيل، بالإضافة إلى خلق أسواق جديدة للسلع والخدمات الأمريكية، فضلًا عن إيجاد فرص جديدة للاستثمار. وكذلك نجحت القارة في تحقيق الأمن والرخاء، وبدت أكثر ليبرالية من الناحية السياسية.

وفي ظل هذا الجانب الإيجابي في القارة الأسيوية، بيد أنه لا يمكن تجاهل وجود تحديات عدة، من أهمها وجود دول أسيوية غير ديمقراطية، والمعاناة من عدم المساواة في الدخول، ناهيك عن نشوب صراعات بين دول آسيوية وبعضها البعض مثل الهند وباكستان، والتهديدات النووية المتصاعدة من كوريا الشمالية، وما ترتب على الصعود الصيني الكبير من تغيُّر جذري في البيئة الأمنية بالقارة.

2- الصعود الصيني:

يؤكد الكاتبان أن الصين لديها عدد كبير من السكان، وموقع جغرافي استراتيجي، وتاريخ ثقافي، بالإضافة إلى نمو اقتصادي سريع، وإنفاق عسكري قوي. وبالتالي، فإن هذه المقومات جميعها تشير إلى أن الصين أصبحت قوة عظمى. وقد تعامل العديد من المراقبين الأمريكين مع الصعود الصيني باعتباره أمر إيجابي لأنه مثلاً يجعل المستهلكين الأمريكيين يستفيدون من المنتجات مخنفضة التكلفة التي تخرج من المصانع الصينية، وفي المقابل تستفيد الصين من حماية الولايات المتحدة لها في الممرات الملاحية العالمية، حيث تستورد الصين معظم مواردها النفطية من دول الخليج العربي.

ومن ثم، فهذا الإتجاه يرى أن الصعود الصيني لا يعني بالضرورة التراجع الأمريكي، خاصةً مع غياب أي تنافس أيديولوجي عالمي بين الولايات المتحدة والصين، عكس ما اتسم به الصراع الأمريكي- السوفيتي خلال الحرب الباردة، كما أن الطرفين الصيني والأمريكي يحاولان قدر الإمكان تجنُّب أي صدام عنيف بينهما.

3- العلاقات الصينية- الأمريكية:

يشير الباحثان إلى أن ثمة سمات عديدة قد تجعل الولايات المتحدة والصين عُرضة للحرب، حيث يعتقد الكثيرون أن نوايا بكين باتت أكثر عدوانية ضد واشنطن في ظل تنامي قوة الصين، وهو ما تجلّى في السلوك البحري الصيني الحازم.

كذلك فإنه على الرغم من أن الصين تركز بشكل رسمي على التنمية السلمية بيد أنها انتهجت سياسات تتسم بالعدوانية تجاه جيرانها الأضعف، بالإضافة إلى تنامي القومية الصينية ضد بعض جيرانها مثل اليابان. ومن جانب آخر، فإن واشنطن وبكين تركزان على قراءة نوايا بعضهما البعض بشكل خاطيء، حيث تركز وزارة الدفاع الأمريكية باهتمام على نمو الإنفاق العسكري الصيني بالرغم من كونه أقل من نظيره الأمريكي بشكل كبير، إذ يعتبر الأمريكيون أي نمو عسكري صيني أمراً مهيناً لهم.

4- الدور الأمريكي ومستقبل الأمن الآسيوي:

يرى الباحثان أن القارة الآسيوية تعد واحدة من المناطق القليلة التي تمثل أهمية حيوية لكلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن، وهو ما يستدعي  زيادة التحالفات في هذه القارة، وتوسيع الشراكات السياسية والاقتصادية، وتعزيز القيم المشتركة، وخلق علاقات بنّاءة مع الصين.

وبالتالي، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وبغض النظر عن الرئيس الأمريكي الجديد، سوف تظل تلك التوجهات الأمريكية مستمرة تجاه القارة الآسيوية بشكل عام، ونحو تعزيز الأمن الآسيوي بشكل خاص.

المسارات المتوقعة لمستقبل اليابان في القارة الآسيوية

يشير كل منMasahiko Ando  - نائب مدير مكتب التخطيط الاستراتيجي في وزارة الدفاع اليابانية، وAoi Fujita- باحث في معهد بحوث نومورا، إلى أن البيئة الاستراتيجية لليابان تتسم بالتغيُّرات السريعة في ظل التغيُّرات الحادثة في البيئة الخارجية المحيطة بها، حيث توجد نزاعات حدودية مع بعض الدول المجاورة، وكذلك في ظل تزايد وتيرة التسلُّح الصيني وتحديث القدرات العسكرية من خلال إنفاق ضخم، وهو ما تقابله اليابان بتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة في الجانب العسكري وعمل مناورات عسكرية مشتركة بين البلدين في ظل التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على الأمن في القارة الآسيوية.

كذلك على المستوى الاقتصادي، فإن العلاقات الأمريكية - اليابانية آخذة في التصاعد، وقد وافقت الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها على تصدير الغاز الطبيعي المُسال إلى اليابان.

وبالنظر إلى الوضع الداخلي الياباني، فإن الكاتبان يؤكدان على وجود اتجاه سلبي فيما يتعلق بالسكان في ظل انخفاض معدل المواليد، وهو ما يخلق مشكلة ديموغرافية مستقبلية كبيرة. ومن جهة أخرى، باتت الديون في وضع خطير بالرغم من تحسن الاقتصاد الياباني منذ عام 2012. كذلك برغم تميز اليابان في مجال الصناعة التكنولوجية بيد أنها مازالت تواجه مشكلة في دمج شركات القطاع الخاص في الاقتصاد العالمي بشكل يخدم الاقتصاد الياباني بشكل عام.

وفي ذات السياق، يتوقع الكاتبان أن تعطي اليابان أولوية لتسارع وتيرة الاستثمار الأجنبي المباشر، وتشجيع تنويع الإنتاج، وتعزيز الصادرات إلى الخارج، بالإضافة إلى أولوية أخرى متعلقة بتعزيز العلاقة مع روسيا، وهو من شأنه أن يزيد من تنويع الطاقة في اليابان، وتحقيق استقرار لأمن الطاقة فيها، علاوة على دعم القطاعات التجارية والزراعية في البلدين.

وفيما يتعلق بالنزاعات الحدودية مع دول الجوار، فإن اليابان ستحاول تجنب أي تصعيد لا داعي له من أجل الإسهام في الحفاظ على الأمن في القارة الآسيوية.

الهند والأمن الآسيوي

يرى كل من Rohan Mukherjee - زميل غير مقيم في جامعة الأمم المتحدة في طوكيو، وVipin Narang – أستاذ العلوم السياسية المساعد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن التقدم الاقتصادي والعسكري الهندي المحتمل سيكون له العديد من الآثار الهامة بالنسبة للمشهد الأمني في القارة الآسيوية. ويوضحان أن موقع الهند الاستراتيجي ومقوماتها الكبيرة - اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً - تجعلها في مصاف الدول الكبرى الدول بالقارة.

وفي المقابل، تعاني الهند من الحدود غير المستقرة سواء مع باكستان أو الصين، وكذلك فإن الهند لديها مخزون تاريخي من الصراعات والحروب بالمنطقة، حتى أنه في ظل المصالح المشتركة بين الهند والصين باعتبارهما قوتين كبيرتين، فإن الصعود الصيني يشكل مخاطر واضحة وتحديات كبرى للهند في ظل الاحتكاكات الحدودية بينهما والمنافسة البحرية.

وتعي الحكومة الهندية جيداً ضرورة التركيز على الاقتصاد، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز فرص الوصول إلى الأسواق. ويؤكد الكاتبان على أن الهند بحاجة إلى العمل بشكل وثيق مع دول الآسيان ومع الصين، من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي، ومواجهة المخاطر المشتركة التي من ضمنها القرصنة، الإرهاب، والتهديدات الإلكترونية في الفضاء الإلكتروني بالإضافة إلى محاولة تسوية النزاعات البحرية والحفاظ على حرية الملاحة.

أندونيسيا وأستراليا ونيوزيلندا ومستقبل الأمن الآسيوي

طبقاً لما ذكره الدبلوماسي الأندونيسي Santo Darmosumarto، فإن بلاده تسعى نحو تعزيز نفوذها بالقارة الآسيوية ودعم مصالحها بالخارج، بالإضافة إلى دعم الدول النامية من خلال الدعوة لإجراء إصلاحات في المؤسسات المالية العالمية. كذلك فإن الرئيس الأندونيسي "جوكوي" طالب بجذب المستثمرين، وشدد على أهمية المشاركة الأجنبية في أي تنمية اقتصادية بالبلاد، وضرورة لعب أندونسيا دوراً هاماً في الأمن البحري الإقليمي وسلامة الملاحة في ظل وجودها كنقطة ارتكاز بين محيطين.

وبالتالي، فإن أندونسيا كقوة وسطى تحاول أن تلعب دوراً وسيطاً في تحقيق التوازن بين مصالح العديد من القوى في القارة الآسيوية، وذلك بالنظر إلى تعدادها السكاني وجغرافيتها الاستراتيجية ونموها الاقتصادي، علاوة على تحقيقها خطوات هامة في الحياة السياسية.

وبالنسبة لكل من نيوزيلندا وأستراليا، فقد نجحتا في تحقيق خطوات اقتصادية كبيرة في القارة الآسيوية. وفي هذا الصدد توضح "Julia M. Macdonald" – باحثة في برنامج الأمن الدولي بمركز بيلفر للعلوم والشئون الدولية في جامعة هارفارد، أن نيوزيلندا نجحت أن تكون أول دولة متقدمة تعقد اتفاقية تجارة حرة مع الصين، وهي ذات فوائد كبيرة للجانبين.

وتعد منطقة جنوب المحيط الهادي القريبة جغرافياً من أستراليا ونيوزيلندا، ذات تأثير بالغ على مستقبل البيئة الأمنية في آسيا، مع التأكيد على أن الصراع في هذه المنطقة ليس حتمياً، وثمة آفاق كثيرة للتعاون بما يخدم دول القارة بأكملها.

مُجمل القول، فقد تناولت هذه الدراسة المسارات المحتملة لمستقبل القارة الآسيوية بالتركيز على البعد الأمني وتشابكاته المختلفة سواء إقليمية أو دولية، ومدى تأثير الصعود الصيني على مستقبل القارة، لافتةً إلى اتجاه معظم دول القارة إلى اتباع سُبل سلمية من أجل تعزيز الأمن والاستقرار بها. وأكدت الدراسة على أن الصراع ليس حتمياً سواء على المستوى الإقليمي بين دول القارة الآسيوية، أو حتى في علاقات الولايات المتحدة والصين مع صعود الأخيرة اقتصادياً وزيادة إنفاقها العسكري.

وبالتالي، فقد خلصت الدراسة إلى أنه في ظل التشابكات المختلفة في القارة الآسيوية، فإن دولها تعي جيداً أنه كلما كانت توجهاتها أكثر سلمية كان المستقبل أفضل للقارة بأكملها.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "وجهات نظر الجيل القادم حول مستقبل الأمن الآسيوي"، والصادرة عن "صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة" في سبتمبر 2015.

المصدر:

Aaron Friedberg and others, “Next Generation Perspectives on the Future of Asian Security”, (Washington: The German Marshall Fund of the United States, September 2015).