نفوذ واشنطن:

التأثيرات المتوقعة لـ "الدولار الرقمي" على الاقتصاد العالمي

31 July 2021


عرض: د. إبراهيم سيف منشاوي - مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

ظهر في الآونة الراهنة عدد من التحديات التي تعيق استمرار هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي، وتأتي على رأسها عمليات الرقمنة، حيث تتم حالياً إعادة تنظيم النظام التقليدي للمدفوعات والصرف بطريقة تتحدى سلطة الدولار، مما يدعو لاستكشاف المشهد المتغير للعملات الرقمية، والتي من بينها الدولار الرقمي؛ لتوضيح مدى أهميته للاقتصاد العالمي. وهو الأمر الذي يركز عليه كل من مايكل غرينوالد، ومايكل مارجوليس في تقريرهما "لماذا الدولار الرقمي مفيد للعالم؟" والذي تم نشره في مركز "بيلفر للعلوم والعلاقات الدولية" (Belfer Center for Science and International Affairs).

من "بريتون وودز" إلى "صدمة نيكسون":

تم التوصل في "بريتون وودز" عام 1944 إلى نظام تم بموجبه ربط العملات العالمية بالدولار الأمريكي، وذلك كمحاولة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد العالمي بعد الحرب ومنع التلاعب المدمر بالعملة. وقد أدى هذا الترتيب إلى ترسيخ هيمنة الدولار على التمويل الدولي، ولكن مع تعافي الاقتصادات الوطنية بعد الحرب من الركود، أدت المخاوف المتزايدة من التضخم إلى الدعوة إلى ضرورة تحقيق الاستقلال المالي وزيادة احتياطيات الذهب. بيد أن الرئيس الأمريكي آنذاك نيكسون قام بدافع القلق والتفكير في الاستقرار الاقتصادي، بتجميد إمكانية تحويل الدولار إلى الذهب (صدمة نيكسون)؛ وذلك لأن مخزون الولايات المتحدة الأمريكية من الذهب حينها لم يكن كافياً لتغطية الحيازات الأجنبية من الدولار. وبعد ذلك بوقت قصير، تحول الاقتصاد المالي العالمي إلى نظام سعر الصرف العائم (تعويم العملة).

وخلال ذلك الوقت، صاغ وزير المالية الفرنسي آنذاك، فاليري جيسكار ديستان، مصطلح "الامتياز الباهظ"، نتيجة للضمانات الجديدة وفشل الدولار الأمريكي كعملة احتياطية دولية مفضلة. ومع ذلك، وعلى الرغم من تفكك نظام "بريتون وودز" والانتقادات اللاذعة لجيسكار، فقد حافظ الدولار الأمريكي على دوره كعملة احتياطية عالمية حتى اليوم من دون وجود أي اتفاق رسمي، وكأن الدولار قد تحول من كونه العملة الأساسية للتمويل الدولي إلى عملة الأمر الواقع، لأنه يوفر منفعة عامة ضرورية لمواجهة أي انهيار أو خلل في الاقتصاد العالمي.

نفوذ الدولار الأمريكي:

هناك الكثير من الاهتمام بالدور الحالي للدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي كونه عملة عالمية بحكم الواقع، ولأن ذلك بطبيعة الحال يمنح الولايات المتحدة سلطات خاصة، على رأسها:

1- دعم الولايات المتحدة لنظام عالمي يقوم على الديمقراطية والأسواق الحرة، إلى جانب دورها في الإشراف على المعايير المالية العالمية وتطبيق العقوبات.

2- دور الولايات المتحدة في موازنة الصدمات العالمية.

3- إتاحة إمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال الناضجة.

4- دعم الدور التاريخي للدولار كوحدة قياس ووسيلة للتبادل وتخزين القيمة.

فلقد منح الدولار للولايات المتحدة الأمريكية النفوذ لتشكيل تحالف لدعم الديمقراطية والأسواق الحرة. كما أنه مكّن واشنطن من تأكيد المعايير العالمية أو فرض العقوبات، من دون التهديد باستخدام القوة العسكرية أو استخدامها، وهو ما عاد بالفائدة على النظام المالي العالمي. كما يوفر الاعتماد الدولي على الدولار للولايات المتحدة القدرة على مكافحة الإرهاب، والكسب غير المشروع، والاحتيال الإلكتروني، ويمكنها كذلك من دعم البنية التحتية، ومشاركة البيانات، وتنسيق السياسات ودعم الإطار القانوني وقواعد السلوك، وتعزيز مرونة وموثوقية النظام المالي العالمي.

ففي الآونة الراهنة، فرضت الولايات المتحدة مجموعة من العقوبات الجديدة على روسيا الاتحادية لتدخلها في الانتخابات الأمريكية، وكنتيجة للهجمات الإلكترونية التي عُرفت باسم "سولار ويندز" (SolarWinds) في عام 2020. كذلك، تعرضت الصين وإيران لمجموعة من العقوبات الأمريكية لتقييد النشاط الاقتصادي لهما. 

ومن خلال تعاون بنك الاحتياطي الفيدرالي مع المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لعب الدولار دوراً مهماً في الحفاظ على استقرار النظام المالي العالمي، حيث يساعد الدول على تجاوز الصدمات الاقتصادية، وتمويل الواردات، وتوفير الوصول إلى أسواق رأس المال الأكثر سيولة في العالم، ويساهم في دعم المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي من خلال مساهمته في حقوق السحب الخاصة. فالدولار يمثل 42% من "إكس دي آر" (XDR)، وهو الكود الرسمي لحقوق السحب الخاصة. 

وفي فترات الانكماش الاقتصادي، كما كان الحال خلال الأزمة المالية العالمية، ومؤخراً جائحة كورونا، أدت تدخلات الاحتياطي الفيدرالي في مارس وأبريل الماضيين إلى استقرار النظام المالي العالمي، وهو ما يعني أن الاحتياطي الفيدرالي أصبح يتصرف باعتباره البنك المركزي العالمي بحكم الواقع.

كذلك، يوفر الدولار الأمريكي مزايا عالمية في الوصول إلى الأسواق المالية الناضجة التي تقدم رأسمال منخفض التكلفة ومستقر، لأن الدولار – وفقاً للأمريكي مارك سوبيل - هو العملة الأكثر ديناميكية وسيولة في العالم، نتيجة لمصداقية الاحتياطي الفيدرالي. ومما يقوي من مكانة الدولار، أن الولايات المتحدة تعتمد على نظام رأسمالي متحرر ومرن يوفر ضمانات حقيقية للمستثمرين، إلى جانب نظام قانوني راسخ وجدير بالثقة. 

ولايزال الدولار الأمريكي أيضاً العملة التي تستحوذ على 85% من المعاملات في سوق الصرف الأجنبي الذي تبلغ قيمته 6.2 تريليون دولار في اليوم، فأكبر الاحتياطيات السيادية في العالم هي من الدولار. كما تلجأ العديد من الدول إلى الدولار كمخزن للقيمة في أوقات الأزمات نظراً للموثوقية العالية فيه، مثل الأرجنتين وفنزويلا. 

باختصار، للدولار الأمريكي آثار إيجابية بعيدة المدى على الاقتصاد العالمي، لذلك ينبغي توخي الحذر من الدعوات التي تنتقد وضع الدولار وتحاول استبداله؛ وذلك لأنه يقدم مجموعة من المزايا المتكاملة للنظام المالي العالمي.

الدولار كخيار مفضل:

استمر الدولار يتمتع بالأولوية في الاقتصاد العالمي بسبب حجم واستقرار الاقتصاد الأمريكي، والثقة العالمية في قيادة الولايات المتحدة، والتزامها بنظام قضائي مستقل، وحجم وعمق أسواق المال الأمريكية، والقدرة على الاستثمار بحرية وتصفية الأصول محلياً وعالمياً وتحويل العائدات كذلك عند الرغبة.

ويتضح أكثر الدور البارز للدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي من خلال الاعتماد على لغة الأرقام؛ فالدولار يمثل ما يقارب 60% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية، بينما يمثل الاقتصاد الأمريكي حوالي ربع إجمالي النشاط الاقتصادي العالمي. كذلك، فإن ما يقرب من نصف القروض المصرفية عبر الحدود وسندات الدين الدولية مقومة بالدولار، وحوالي نصف إجمالي التجارة الدولية تتم بالدولار، و40% من المدفوعات الدولية و85% من معاملات الصرف الأجنبي تتم مقابل الدولار. وبالتالي فالدولار حصل على دوره نتيجة لقوة الاقتصاد الأمريكي، ونضج مؤسساته المالية والقانونية. ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتوخى الحذر فيما يتعلق بوضع عملتها في الاقتصاد العالمي، لأن جاذبية الدولار الأمريكي أصبحت في خطر بسبب التوجه إلى الاعتماد على العملة المشيفرة التي أصبحت تستحوذ على السوق بقيمة 1.75 تريليون دولار. ومن ثم أضحى الأمر يتطلب المزيد من المرونة والابتكار للحفاظ على قيمة الدولار ومركزيته في الأنظمة المالية العالمية.

ظهور العملات الرقمية:

بشكل عام، أدت ثمانية أحداث رئيسية إلى ظهور ونمو العملة الرقمية والتي يمكن اختصارها على النحو التالي: 

1- غيرت الأزمة المالية العالمية لعام 2009 المشهد المالي وثقة الناس في النظام المصرفي والسلطة المركزية. 

2- أتاح نظام "البلوك تشين" القدرة على التحول عن النظام المصرفي، والاستقلال عن السلطة المركزية. 

3- إنشاء "البيتكوين" Bitcoin. 

4- إطلاق "الإيثيريوم بلوكتشين" Ethereum blockchain في عام 2014، لتقديم عملة نادرة ولا مركزية تعتمد على الإنترنت لتحقيق المرونة اللازمة للتبادل التجاري من دون وسطاء مركزيين؛ وذلك من أجل بناء اقتصاد – وفقاً لجوزيف لوبين مؤسس Ethereum - ينتقل من الثقة الذاتية إلى الثقة الموضوعية على مدار العقود المقبلة. 

5- أدت جائحة كورونا إلى تسريع التحول بشكل كبير نحو الرقمنة والاقتصاد غير النقدي. 

6- عندما ازداد قلق البنوك المركزية في العالم من انتشار العملات المشيفرة، كثفت هذه البنوك من أبحاثها لتوفير بديل رقمي للعملات المشيفرة الخاصة، وكان هذا البديل هو العملة الرقمية للبنك المركزي "CBDC". 

7- ظهور منصات التكنولوجيا الرقمية، والتي سهلت من عملية نقل القيمة عبر الشبكة، ووفرت معلومات ائتمانية تعزز الجدارة الائتمانية للعملات الرقمية. 

8- أدى نجاح الشركات الخاصة في بناء شبكة مناسبة لأنظمة الدفع إلى زيادة تحييد السلطة الحكومية، وقد استجابت الحكومات لهذا المأزق باتخاذ إجراءات متنوعة، فالصين استجابت في وقت مبكر من خلال إطلاق اليوان الرقمي مع تشديد القيود على استخدام العملات المشيفرة. وفي الغرب، قامت الولايات المتحدة بتضييق الخناق على "فيس بوك" لكبح جهوده لإطلاق عملة رقمية عالمية، كما تجري الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بحوثاً لإطلاق عملة البنك المركزي الرقمية "CBDC".

تنافسية الدولار الرقمي:

إن الدولار الرقمي الحقيقي هو مسؤولية الاحتياطي الفيدرالي لأنه استدعاء مباشر لميزانيته العمومية. وعلى الرغم من أن البعض يرى أن العملة الرقمية للبنك المركزي سوف تشبه الأصول المدعومة بالعملات المشيفرة ككل، فإن البعض الآخر مثل "جيف كوكس" يشير إلى عدد من الفروق المهمة، وهي أن العملة الرقمية للبنك المركزي ستعمل مثل الدولار وتحظى بقبول واسع؛ لأنه سيتم تنظيمها بالكامل تحت سلطة مركزية. وهذا يسلط الضوء على عنصر أساسي للعملات الرقمية للبنك المركزي، وهو دور البنك في تحديد اللوائح والمعايير والرقابة على استخدام العملة، ما سيضمن تحقيق نتائج اقتصادية وأخلاقية مهمة في سباق العملات الرقمية.

وهنا يجب أن يطمح الدولار الرقمي إلى إعادة تأكيد المعايير والقيم الأمريكية، وتحقيق كفاءة أكبر في المعاملات العالمية، ودفع النفوذ السياسي، وضمان المساءلة، وتعزيز النمو الاقتصادي، وتوفير أمان أكبر للأرصدة المالية، والمساعدة في فرض نظام ومعايير عالمية جيدة، وتحقيق الاستقرار عند مواجهة الصدمات العالمية، وتوفير الوصول إلى أسواق رأس المال الناضجة، ودعم دوره التاريخي باعتباره وحدة القياس ووسيلة الصرف ومخزن القيمة.

فإطلاق عملة البنك المركزي الرقمية الأمريكية ستوفر الاستقرار من خلال تقليل مخاطر التلاعب في السوق ومخاطر الاحتيال والكسب غير المشروع، بل وحماية المستهلك. كذلك، سيؤدي تحديث النظام القانوني الأمريكي في إطار إنشاء الدولار الرقمي إلى تقديم أفضل وسيلة للحفاظ على قيم الوضع الراهن وتوليد سياسة عامة جيدة وقادرة على مراقبة العملات الرقمية والمشيفرة. ويمكن استخدام الدولار الرقمي من قِبل الحكومات والمؤسسات المصرفية ومؤسسات الأعمال، أو من قِبل المستهلكين في سوق التجزئة لإجراء معاملات أرخص وأسرع وأكثر ملاءمة عن طريق القضاء على الاحتكاكات في المدفوعات، والمقاصة والتسوية، بما في ذلك المدفوعات عبر الحدود مثل التحويلات. 

كما أن استخدام عملات البنوك المركزية الرقمية سيسهل المقاصة بين البنوك والتحويلات عبر الحدود وتسوية التجارة الدولية ومعاملات أسواق رأس المال. وبالنسبة للأفراد، ستمكّن عملات البنوك المركزية الرقمية أي شخص من إرسال وتسلم دولارات أمريكية بتكاليف معاملات أقل من تلك التي توفرها الحلول التقليدية.

كذلك يمكن للدولار الرقمي أن يساعد في فاعلية السياسات من خلال الوصول بشكل مباشر إلى المستفيدين المقصودين من مدفوعات المساعدة الحكومية وتوليد البيانات حول كيفية تدفق الأموال عبر الاقتصاد العالمي، إلى جانب زيادة الشمول المالي من خلال الوصول لأي فرد لديه هاتف محمول. 

فقد ناقشت نائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، مؤخراً خيار استخدام الخدمات المصرفية الرقمية والإقراض الصغير لمعالجة أزمة الهجرة الناتجة عن العنف والمرض والاضطراب في غواتيمالا والسلفادور وهندوراس. ويجب أن يساعد الدولار الرقمي الحكومات في مراقبة الإنفاق، وتتبع تداول العملات، واستخدام البيانات التي تم إنشاؤها لضبط السياسة النقدية بشكل أفضل. 

وبذلك يمكن أن يعزز الدولار الرقمي الأمريكي الثقة الاجتماعية ومكافحة الفساد من خلال عقود أكثر شفافية وأنظمة مساعدة أجنبية معلنة. كما يمكن أن يسهل عملية النمو الاقتصادي ويحفز المنافسة في السوق الحرة، والوصول إلى التجارة والعمالة إذا تم قبوله في أجزاء مختلفة من العالم. أضف إلى ذلك، أن الدولار الرقمي سيسهل من التحويلات النقدية التي تتم عبر الحدود والموجهة إلى الدول النامية، ما سيسهل التجارة وسيؤدي إلى إلغاء الحدود الجغرافية وتوسيع مناطق التجارة الاقتصادية. وأيضاً سيوفر أكبر قدر من الأمان للأموال التي تنتقل في شكل رقمي لكل من المستهلكين والمؤسسات.

خلاصة القول، تعتبر السيطرة على العملة المهيمنة على الاقتصاد العالمي أمراً أساسياً لممارسة النفوذ من ناحية، وتحقيق العديد من الفوائد للاقتصاد العالمي من ناحية أخرى، على غرار ما حدث خلال إشراف الولايات المتحدة الأمريكية على الدولار. فالعالم أضحى اليوم منصات اجتماعية ومنصات دفع إلكترونية وأخرى. وقد يؤدي ظهور العملات الجديدة، كمحور مركزي لمنصات اجتماعية واقتصادية كبيرة ومهمة من الناحية النظامية تتجاوز الحدود الوطنية، إلى إعادة تعريف كيفية تفاعل المدفوعات وبيانات المستخدمين، وإعادة تشكيل طبيعة المنافسة في العملات، وهيكلية النظام النقدي الدولي، ودور الأموال العامة التي تصدرها الحكومة. لذا، وفي إطار هذه التحديات، ينبغي تطوير الدولار الرقمي الأمريكي لما سيحققه من فوائد كثيرة للاقتصاد العالمي.

المصدر: 

Michael B. Greenwald &Michael A. Margolis, Why a digital dollar is good for the world, Belfer Center for Science and International Affairs, Harvard Kennedy School, June 04, 2021, available at: 

https://www.belfercenter.org/publication/why-digital-dollar-good-world