انعكاسات التصعيد:

هل تتراجع العلاقات الإيرانية- الأوروبية في عهد بايدن؟

24 January 2021


بذلت الدول الأوروبية منذ انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 ثم فرضها عقوبات على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، جهوداً حثيثة لإنقاذ الاتفاق النووي من الانهيار، والحفاظ على مستوى معين من العلاقات مع إيران رغم أن التوتر كان سمة رئيسية لتلك العلاقات، نتيجة الانتقادات المستمرة التي وجهتها الأخيرة لتلك الدول بالتقاعس عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة باحتواء تأثير العقوبات، من خلال تفعيل آلية "انستكس" التي توصل إليها الجانبان لتحقيق هذا الهدف.

وفي الواقع، فإن تلك الدول سعت إلى ذلك من أجل تجنب ما تعتبره "الخيار الأسوأ" الذي يتمثل في انهيار الاتفاق النووي، باعتبار أن ذلك سوف يفرض، في رؤيتها، عواقب وخيمة على أمن واستقرار المنطقة سرعان ما سوف تصل ارتداداتها إلى أراضيها، خاصة أنها تزيد من احتمال اندلاع حرب جديدة في منطقة مفعمة بكثير من عوامل الاحتقان والتوتر، وستساهم في تصاعد حدة الأزمات التي يفرضها تزايد أعداد اللاجئين إليها.

وقد حاولت تلك الدول بالفعل التوسط بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية من أجل تقليص حدة الخلافات بين الطرفين، على غرار فرنسا، التي سعت إلى ترتيب لقاء بين الرئيسين الأمريكي (السابق) دونالد ترامب والإيراني حسن روحاني على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019، إلا أن ذلك لم ينجح في تحقيق نتائج تذكر في هذا السياق، في ظل إصرار كلا الطرفين على التمسك بمواقفه وعدم تقديم أية تنازلات مسبقة.

مناورات تكتيكية:

إيران بدورها سعت إلى استثمار تلك المساعي ليس فقط لتعزيز قدرتها على التعامل مع تداعيات العقوبات الأمريكية، وإنما أيضاً لتوسيع نطاق الخلافات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، على نحو يمكن أن يؤدي، وفقاً لرؤيتها، إلى توسيع هامش الخيارات وحرية المناورة المتاحة أمامها، وبالتالي دعم موقفها في مواجهة سياسة "الضغوط القصوى" التي كانت تتبناها الإدارة الأمريكية السابقة. ومن هنا، حرصت إيران على توجيه انتقادات متواصلة ضد السياسة الأوروبية لكن دون الوصول إلى مرحلة قد تفرض أزمة قوية لا يمكن احتواءها في تلك العلاقات، خاصة أن ذلك كان معناه مواجهة كتلة غربية موحدة ضدها على نحو كان سيزيد من حدة الضغوط الدولية التي تتعرض لها.

مرحلة جديدة:

لكن مع فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 3 نوفمبر 2020، ثم وصوله إلى البيت الأبيض لتولي مهام منصبه في 20 يناير 2021، بدا أن ثمة مرحلة جديدة سوف يكون لها تأثيرها على علاقات الدول الأوروبية سواء مع إيران أو مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو ما يمكن تناوله في النقاط التالية:

1- "الثغرات الكامنة": رغم أن تلك الدول أبدت تحفظات عديدة على السياسة التي تبنتها إدارة ترامب إزاء الاتفاق النووي، إلا أنها لم تتغاضى في الوقت ذاته عن ما يمكن تسميته بـ"الجوانب الإيجابية" التي فرضتها تلك السياسة، خاصة فيما يتعلق بإلقاء الضوء على "الثغرات" الخطيرة التي يتضمنها الاتفاق، والتي أضعفت من قوته باستمرار وقلصت من دوره المحتمل في دعم الأمن والاستقرار في المنطقة.

وكان أهم ما كشفته تلك السياسة هو أن القيود التي تتعرض لها الأنشطة النووية الإيرانية، وأخطرها ما يسمى بـ"بند الغروب"، مؤقتة على نحو سوف يُمكِّن إيران، بعد مضى عدة سنوات، من ممارستها بشكل أكبر وأكثر خطورة في مرحلة لاحقة. فضلاً عن أن التصعيد معها دفعها إلى الكشف عن نواياها الحقيقية، ولاسيما ما يتعلق باستغلال الاتفاق لرفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها دون أن تكون لديها استعدادات جدية للتعامل مع المخاوف الغربية والعربية من انعكاسات برنامجها النووي، وهو ما بدا واضحاً في الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها في مرحلة ما بعد العقوبات الأمريكية، والتي تحاول من خلالها العودة إلى مستويات ما قبل الاتفاق النووي.

وقد أثارت تلك الخطوات انتقادات حادة من جانب الدول الأوروبية، على نحو بدا جلياً في تصريحات مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 19 يناير الجاري، والتي حذر فيها من أن "الاتفاق النووي عند منعطف خطير"، وذلك في تعقيبه على قيام إيران برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20%. واتضح ذلك أيضاً في تحذير وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، في 16 من الشهر نفسه، من أن إيران تبني قدرات لإنتاج أسلحة نووية، في إشارة إلى إعلان الأخيرة عن الاستعداد لإنتاج معدن اليورانيوم، وهى خطوة تعتبرها الدول الأوروبية غير ضرورية في ضوء ما يسمى بـ"الأهداف المدنية" الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، والتي انعكست في الاتفاق النووي.

2- الملفات الغائبة: انتبهت الدول الأوروبية في العامين الماضيين إلى خطورة تركيز الاتفاق مع إيران على الجوانب الفنية للبرنامج النووي فقط، دون التطرق إلى الملفات الأخرى التي لا تقل أهمية وخطورة، ولاسيما برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي. فقد اندفعت إيران، من أجل رفع كُلفة الإجراءات العقابية الأمريكية، إلى إجراء تجارب متعددة لتطوير برنامج الصواريخ الباليستية غير عابئة بالانتقادات التي وجهت لها بانتهاك الاتفاق، كما واصلت تقديم دعمها للميليشيات المسلحة الموجودة في دول الأزمات. وهنا، فإن تلك الدول اعتبرت أن التغاضي عن تلك الملفات فرض ارتدادات سلبية في مرحلة لاحقة، حيث استندت إليها طهران في الرد على العقوبات الأمريكية وتوجيه تهديدات علنية ومباشرة إلى كل الأطراف بما فيها الدول الأوروبية ذاتها التي قد تتأثر مصالحها في حالة نشوب أى تصعيد عسكري في المنطقة خلال المرحلة القادمة. 

3- تداعيات الاختلاف: ربما تحاول تلك الدول تقليص مساحة التباينات في المواقف مع الإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة تجاه إيران، حيث أنها سوف تشجع أى مبادرة أمريكية لفتح قنوات تواصل مع الأخيرة من أجل اختبار مدى القدرة على تسوية الخلافات العالقة بين الطرفين. وهنا، فإن تلك الدول سوف تكون حريصة على الترويج إلى أن وصول إدارة أمريكية جديدة إلى البيت الأبيض سوف يساهم في تقارب السياستين الأوروبية والأمريكية خلال المرحلة القادمة، على ضوء التغييرات المحتملة التي قد يجريها الرئيس الجديد جو بايدن. والهدف الأساسي من ذلك بالطبع يعود إلى توجيه رسالة لإيران بأنها لن تستطيع في المرحلة القادمة استغلال أية خلافات في المواقف بين الطرفين لتوسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها ورفع مستوى التصعيد، على غرار ما كان يجري في عهد إدارة الرئيس ترامب.

مسار محتمل: 

على ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن الخلافات العالقة بين إيران والدول الأوروبية لم تعد ثانوية، وقد تتصاعد حدتها خلال المرحلة القادمة، على نحو يمكن أن يؤدي إلى تراجع مستواها، لاسيما في حالة ما إذا تقلصت فرص الوصول إلى تفاهمات بين إيران وإدارة بادين، وهو احتمال لا يمكن استبعاده، في ظل إصرار إيران على رفض إجراء أية مفاوضات جديدة، أو توسيع الاتفاق النووي الحالي ليشمل برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي، بما يعني أن إيران سوف تواجه، في هذه الحالة، كتلة غربية وضغوطاً أقوى، في حالة ما إذا لم تساهم في إنجاح المقاربة المحتملة للرئيس بايدن.