تسييس الثقة:

كيف تفاضل الدول بين لقاحات فيروس كورونا؟

04 February 2021


مع الإعلان عن إنتاج لقاحات كورونا، وتعاقد بعض الدول على دفعات أولى منها؛ تبرز مسألة الثقة في هذه اللقاحات والمفاضلة بينها، حيث تلاحق بعضَ اللقاحات صورٌ نمطية عن الدولة المنتجة. كما طرحت مسألة سرعة إنتاج اللقاحات بعض الشكوك حولها، في ظل وجود تيار يرفض أساساً فكرة اللقاحات، وهو ما عزز من أهمية بناء الثقة في اللقاحات لطمأنة الناس حولها من أجل تحقيق المناعة الجماعية المنشودة، وذلك في ظل وجود بعض المحدِّدات التي تحكم عملية شراء اللقاحات.

شكوك متزايدة:

هناك حالة من التشكك في لقاحات كورونا بشكل عام، بجانب تلك الشكوك الخاصة بلقاحات معينة دون أخرى، وترجع هذه الحالة إلى:

1- تيارات معارضة التطعيمات: بعيداً عن لقاح كورونا، فإنّ هناك تياراً يرفض التطعيمات بشكل عام، وهو التيار الذي ينتشر في أوروبا أكثر من غيرها، وبالأخص في فرنسا، بسبب الاعتقاد بعدم أمان اللقاحات وعدم فعاليتها، والتشكك في المنظومة الطبية والإلزام الحكومي. فوفقاً لمؤلف كتاب "معارضو اللقاحات: كيف نواجه حركةً مضللة" للدكتور جوناثان بيرمان؛ فإن المشاعر النافرة من اللقاحات تنتج عن أسباب عديدة على رأسها الخوف من التجاوزات التي قد ترتكبها الحكومات، وإجبارها لهم على الخضوع للقاحات. ويزداد الأمر سوءاً عندما تدعم تيارات أو نخب سياسية هذا الاتجاه.

2- سرعة الإنتاج: تعتبر لقاحات فيروس كورونا المستجد هي اللقاحات الأسرع عبر التاريخ، حيث احتاج العالم لنحو 8 – 10 شهور فقط لإنتاج لقاحات ذات فعالية، بينما تُعتبر المدة الطبيعية لتطوير معظم اللقاحات 10 – 15 سنة؛ بل إن أسرع فترة لتطوير لقاح سابقاً كانت 4 سنوات لإنتاج لقاح النكاف. حيث تُعتبر عملية تطوير اللقاحات عملية طويلة وبطيئة.

ورغم أن الاعتماد على تقنيات مختلفة عن تلك التقليدية، وعدم المعاناة من مشكلات تمويلية، يفسر جانباً من سرعة التطوير؛ إلا أن عامل السرعة يبقى أحد عوامل الشك بسبب التخوف من قيام الشركات بما يُسمى "حرق المراحل"، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية من أجل إنتاج لقاحات سريعة.

3- عوامل الربح: يتخوف البعض من اللقاحات لعدم ثقتهم في النظام الرأسمالي العالمي. حيث يخشون من طغيان عامل الربح على عامل الجودة، خاصة في ظل المنافسة الكبيرة بين الشركات، وسعيهم إلى التوصل السريع إلى اللقاحات، وحصد أكبر حصة من السوق العالمية.

4- الثقة السياسية: تفسر مجلة "Scientific American" رفض شريحة كبيرة من الأمريكيين تلقي اللقاح بالارتباك والرسائل المتضاربة التي شهدتها الولايات المتحدة منذ بداية الأزمة، بما أضعف من معدلات الثقة السياسية في الإدارة الحكومية للأزمة، وهو ما ينعكس أيضاً على معدلات الثقة في التوجيه الحكومي نحو اللقاحات.

5- رسائل "رمزية اللقاحات": شهدت محاولات إنتاج اللقاح حالة من التسييس بنزعات قومية وتنافس دولي وتوظيف محلي، وهي حالة وصفها لورنس غوستين -أستاذ قانون الصحة العالمية بجامعة جورج تاون الأمريكية- بأنها رهانات سياسية لم يسبق لها مثيل بهذه الحدة على منتج طبي. حيث حظيت عملية إنتاج اللقاحات برمزية سياسية نتيجة تعامل الدول العظمى مع النجاح فيها على كونه انعكاساً لبطولتها العلمية واعترافاً بتفوق نظامها السياسي.

وقد سعى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب نحو إنتاج بلاده للقاح كورونا قبل انتهاء ولايته من أجل توظيف ذلك في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وعلى الجانب الآخر، كان واضحاً دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمحاولات إنتاج لقاح روسي، والذي سُمي باسم أول قمر صناعي سوفيتي "سبوتنيك" في دلالة رمزية على روح المنافسة الدولية بين الولايات المتحدة وروسيا على إنتاج اللقاح كما على أشياء أخرى. كما اهتمت الصين بإنتاج لقاح للفيروس في إطار من المنافسة الدولية مع روسيا والولايات المتحدة، وكذلك لمعالجة تداعيات الفيروس على سمعتها الدولية. ويتسبب تغليب البعد السياسي في تشكك البعض بسبب تأثير هذا البعد على الجانب العلمي والطبي، وأن تكون اللقاحات أُنتجت تحت ضغوط عاجلة لتحقيق أهداف سياسية دون استيفاء متطلبات طبية.

5- الحصانة القضائية: منحت بعض الدول حصانة قضائية لبعض الشركات المنتجة للقاحات، لتشجيع هذه الشركات على إنتاج وتوزيع اللقاحات دون تخوف من تعرضها لخسائر وتعويضات اقتصادية نتاج ملاحقة أفراد لها قضائياً، وهو ما يزيد من تشكك بعض الأفراد في جودة وكفاءة هذه اللقاحات المحصنة.

6- نقص المعرفة: لا يزال فيروس كورونا المستجد يحظى بغموض في الأوساط العلمية حول خصائصه وتأثيراته وأعراضه الدقيقة، بالإضافة إلى طفراته وتحوراته المتتالية، وهو ما يُعزز الشك حول التمكن من التوصل للقاحات دقيقة رغم محدودية المعرفة العلمية بالفيروس.

7- الشائعات ونظرية المؤامرة: ظهرت نظرية المؤامرة في الجدل حول اللقاحات، كما ظهرت حول الفيروس من قبل، فقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المنصات الإعلامية معلومات مضللة وشائعات حول اللقاحات، ومنها ما أُثير حول زرع اللقاح لشريحة إلكترونية في الجسم، وهي المعلومات التي قد تحد من إقبال شرائح اجتماعية معينة على اللقاحات، خاصة تلك الشرائح ذات المستوى المعرفي المتدني التي لا تتوفر لديها فرص التأكد من صحة هذه الأخبار.

عوامل الثقة:

بجانب معالجة الشكوك سالفة الذكر لتعزيز الثقة في اللقاحات بشكل عام، فإن هناك عوامل أخرى تسهم في المفاضلة بين اللقاحات المختلفة وبناء الثقة في أحدها، وتتمثل فيما يلي:

1- مواجهة الطفرات: شهد فيروس كورونا خلال العام الماضي تحورات عديدة، ونتجت سلالات مختلفة عن سلالته الأولى. وتعتبر قدرة اللقاح على مواجهة الطفرات التي تطرأ على الفيروس، وإمكانية تعديله بسهولة لمواجهة السلالات الجديدة، من عوامل المقارنة بين اللقاحات. فعلى سبيل المثال، أكد الرئيس التنفيذي لشركة "بيونتيك" على ثقته العلمية في قدرة لقاح "فايزر-بيونتيك" الحالي على العمل ضد السلالة البريطانية الجديدة من الفيروس، وذلك حتى لا تهتز ثقة المواطنين في اللقاح وتنخفض أسهمه. كما أكد قدرة الشركة على تطوير لقاح خاص ضد أية سلالات أخرى في غضون ستة أسابيع.

2- شفافية التجارب العلمية: يعتبر توفر درجة عالية من الحريات الإعلامية محفزاً على الثقة في المنظومة، حيث يعطي مؤشراً على كشف الرقابة الإعلامية لأية مَواطن خلل في اللقاحات، كما يتيح الإفصاح عن بروتوكولات ونتائج التجارب الإكلينيكية للباحثين تقييم البيانات، والتحقق من صحة الافتراضات.

وفي هذا السياق، فإن اللقاح الروسي يواجه اتهامات بندرة البيانات حول تجاربه الأخيرة، مقابل كثير من الترويج الحكومي. فيما لا تزال الصين محملة باتهامات غياب الشفافية حول إصابات كورونا في المرحلة الأولى من انتشار الفيروس بمدينة ووهان، وتساؤلات حول مدى سرعة قيامها بتبادل المعلومات.

3- دور القادة: حاولت الشركات من جهة والقادة السياسيون من جهة أخرى توظيف الثقة السياسية لبناء الثقة في اللقاحات، فقد حرص عدد من الرؤساء والقادة السياسيين على إعلان تلقي لقاح معين لطمأنة الشعب حول أمان اللقاحات، ومنهم نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، والرئيس المنتخب جو بايدن، اللذان تلقَّيَا لقاح فايزر أمام الكاميرات. وقد أكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون أوليوت، على أن أحد أهداف برنامج تطعيم كبار المسؤولين في الولايات المتحدة هو بناء ثقة الشعب الأمريكي في اللقاح، عبر الاطمئنان إلى أنهم يتلقون نفس اللقاح الآمن والفعال الذي يتلقاه قادة ونخب البلاد.

4-تأثيرات الإعلام: تلعب وسائل الإعلام دوراً في تشكيل الرأي العام والصورة الذهنية. وفي مسألة اللقاحات كغيرها يظهر دور وسائل الإعلام التي تروج للقاحات معينة، أو التي تنشر أخباراً حول توقف لقاح بسبب أعراض جانبية في التجارب السريرية ثم لا تفرد نفس المساحة لأخبار استئناف التجارب بعد اكتشاف عدم وجود علاقة بين اللقاح والأعراض. كما تُسهم وسائل الإعلام في تشكيل صورة إيجابية أو سلبية عن لقاح معين، وتتأثر بعض المنصات في ذلك باتجاهات سياسية أو قومية أو اقتصادية. كما تقوم بعض المنصات -على الجانب الآخر- بمعالجات ومقارنات موضوعية بين اللقاحات.

محددات واقعية:

توجد محددات أخرى لاستيراد الدول للقاحات معينة، وتتعلق هذه المحددات بقدرة الدولة على إنتاج لقاح معين محلياً، وكذلك بحقوق إنتاج اللقاح مثل التعهد الصيني بجعل تكنولوجيا اللقاح منفعة عامة عالمية. وكذلك توافر البنية التحتية اللازمة لتخزين بعض اللقاحات التي تحتاج إلى تكنولوجيا وظروف معينة لنقلها وتخزينها مثل لقاحي فايزر-بيونتيك وموديرنا. فبجانب عوامل الجودة، تُعتبر مدة تخزين اللقاحات ودرجة الحرارة اللازمة لتخزينه أحد عوامل المفاضلة المهمة.

وهناك أيضاً ما يتعلق بالقدرات التفاوضية للدولة، في ظل محدودية الكميات المنتجة من اللقاحات. فقد تجد دولة نفسها مضطرة للتعاقد على لقاح معين، بسبب حجز الكميات المتاحة من لقاح آخر لمدة طويلة. بالإضافة إلى العلاقات مع الدول المنتجة للقاحات، وما إذا كانت هناك مقاطعة أو عقوبات اقتصادية أو ما يحول دون إتمام عملية الشراء. أو على الجانب الآخر علاقات قوية تسهل التعاقد وتعطي مزايا إضافية. كما قد تتلقى بعض الدول كميات من لقاحات معينة على سبيل المنح.

بالإضافة إلى محدد السعر، وقدرات الحكومات على شراء لقاحات معينة، في ضوء الاحتياج إلى كميات كبيرة من اللقاح. ويعطي السعر تأثيرين مختلفين؛ أولهما انطباع ارتباط السعر المرتفع بالجودة المرتفعة، وثانيهما أن يحد السعر المرتفع من القدرة الشرائية للدول ذات الموارد المحدودة.

ختاماً، تعمل الحكومات على ترشيد قرارات شراء لقاحات معينة من أجل طمأنة مواطنيها لتلقي اللقاحات. وفي ضوء مؤشرات الثقة والمحددات الواقعية فإن بعض الدول تلجأ إلى استيراد أكثر من لقاح؛ إلا أن الخطر يكمن في أن تتزعزع ثقة المواطنين في لقاح قد يعزز المخاوف المثارة حول اللقاحات الأخرى، وهو الأمر الذي إذا حدث فسوف يحد من الإقبال على تلقي اللقاح، في الوقت الذي يسعى فيه العالم إلى تلقيح أكثر من 70% من سكان الكرة الأرضية من أجل تحقيق مناعة جماعية توقف انتشار فيروس كورونا المستجد.