استجابة نشطة:

دوافع التحركات الفرنسية في لبنان بعد انفجار بيروت

18 September 2020


أظهرت فرنسا استجابة سريعة وفعَّالة في تعاطيها مع تفجيرات مرفأ بيروت الأخيرة؛ وهو ما عكس حجم اهتمامها المتزايد بالتطورات في لبنان، بل وأكد على النفوذ التاريخي لفرنسا في هذه الدولة وطبيعته مقارنة بنفوذ الأطراف الخارجية الأخرى مثل إيران. ومع استمرار التظاهرات في الشوارع اللبنانية، يبدو أن فرنسا ستكون داعمة لمطالب المحتجين، وقد تدفع في تحقيق استجابة نوعية لتأسيس عقد اجتماعي جديد قائم على أسس المواطنة بدلًا من الطائفية التي أوصلت لبنان لهذا الوضع المتردي منذ سنوات.

استجابة سريعة:

في أعقاب التفجيرات التي وقعت الثلاثاء الماضي 4 أغسطس في مرفأ بيروت، وأسفرت عن مقتل حوالي 160 شخصًا على الأقل، وأكثر من 6 آلاف جريح، سارعت فرنسا بالاستجابة الفورية والعاجلة لمساعدة الشعب اللبناني، وهو ما انعكس في عدة مظاهر: 

1- كانت فرنسا أول دولة أوروبية تُدين رسميًّا تفجيرات مرفأ بيروت، وتعلن دعمها الكامل للشعب اللبناني في مواجهة الأزمة، وهو ما ظهر جليًّا في تصريحات وزير الخارجية الفرنسي "لو دريان" في تصريحات متلاحقة لوسائل إعلام فرنسية بأن "ما حصل في لبنان كارثة كبرى أصابت بلدًا شقيقًا، لبنان بمثابة العائلة لفرنسا التي تشاطره الحداد والمعاناة. في الشدائد الأصدقاء يكونون هنا ونحن هنا".

2- بادرت فرنسا بإرسال 3 طائرات لمساعدة بيروت في عمليات البحث والإنقاذ للضحايا في مناطق التفجير، كما شملت الطائرات عيادة طبية متحركة بإمكانها معالجة 500 جريح.

3- قام الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بزيارة بيروت يوم 6 أغسطس، ولم يكتفِ بلقاء مسؤولي الحكومة والبرلمان اللبناني والنخب السياسية فحسب، والذين تحدث معهم بنبرة حادة وصارمة، بل قام بنفسه بزيارة المناطق المنكوبة والتواصل المباشر مع المتضررين واحتضانهم، بل أعلن أمام جميع المواطنين أن أموال المساعدات ستذهب للمتضررين مباشرة وليس للحكومة. 

4- قادت فرنسا تنسيق المساعدات الدولية الموجهة للبنان، وهو ما انعكس في مؤتمر باريس لدعم لبنان الذي عُقد يوم الأحد الماضي 9 أغسطس بمبادرة من فرنسا والأمم المتحدة من أجل تحريك مساعدة طارئة للبنان، وأسفر عن تعهد الدول والمنظمات المشاركة فيه بتقديم نحو 253 مليون يورو على المدى القصير لمساعدة الشعب اللبناني، ودعا المشاركون بالمؤتمر السلطات اللبنانية إلى البدء سريعًا بالإصلاحات. 

وقد أبرزت هذه التحركات الفرنسية حجم الأهمية التي توليها فرنسا للبنان، وما تربطها بها من علاقات وطيدة. ونتيجة لهذه التحركات الملموسة من الرئيس "ماكرون"، قام بعض النشطاء بتدشين حملة توقيعات للمطالبة بعودة الانتداب الفرنسي إلى بلادهم، وتخليصهم مما وصفوه بـ"الفساد والأحزاب". 

وبرغم أن هذه الحملة جمعت حوالي 36 ألف توقيع في اليوم الأول لها فقط، وقوبلت بردود فعل متباينة؛ إلا أنها حملت دلالات هامة على طبيعة العلاقات الفرنسية اللبنانية وعلى نظرة بعض اللبنانيين لفرنسا في مقابل نظرتهم لحكومتهم؛ فالانتداب الفرنسي بالنسبة إليهم سيكون أهون عليهم من حكوماتهم الفاسدة.

وتجدر الإشارة -في هذا الصدد- إلى أن موقف "ماكرون" الداعم للشعب اللبناني ربما حفَّز من المظاهرات الداعية لإسقاط الحكومة اللبنانية وإعلانها استقالتها في 10 أغسطس الجاري، وتكليفها بتسيير الأعمال لحين تشكيل حكومة جديدة.

وقد سارعت الخارجية الفرنسية بدعم فكرة استقالة الحكومة اللبنانية، وأكدت أن "الأولوية هي لتشكيل حكومة جديدة بسرعة"، مؤكدة أن "الإصلاحات وإعادة إعمار بيروت أبرز تحديات الحكومة التي ستُشكل في لبنان"، وشددت على ضرورة "سماع مطالب الشعب اللبناني حول الإصلاح".

دوافع الموقف الفرنسي:

لم تكن استجابة فرنسا السريعة والمتنامية تجاه تطورات الأوضاع في لبنان سوى جزء من سياستها العامة تجاه هذا البلد، واستكمالًا لما بدأته منذ سنوات من محاولات لإصلاح الأوضاع الاقتصادية الداخلية في لبنان. ويمكن الإشارة إلى أهم دوافع الموقف الفرنسي الحالي في لبنان على النحو التالي: 

1- استعراض القوة: فقد عبَّرت تحركات "ماكرون" عن حجم النفوذ الذي تتمتع به فرنسا في لبنان، بصفتها دولة صديقة تدعم فرنسا حريتها واستقلالها وسيادتها الوطنية، وهو ما انعكس في رفض "ماكرون" نفسه فكرة "إحياء الانتداب الفرنسي"، وتأكيده أنه "لا يمكن أن يعوض عن قادة لبنان".

في الوقت ذاته، كانت زيارة "ماكرون" للمناطق المتضررة في بيروت ووعده للبنانيين بإعادة بناء المدينة والاستماع لشكواهم وتأكيده أن أموال المساعدات ستذهب للمتضررين مباشرة، بمثابة تأكيد للنفوذ الفرنسي، وقدرته على التأثير على النخب السياسية الحاكمة في لبنان من ناحية، وقدرته على الوصول إلى الشعب مباشرة من ناحية أخرى. 

بالإضافة إلى ذلك فإن تبني فرنسا مبادرة تنسيق المساعدات الدولية الموجهة للبنان كان ملمحًا آخر لنفوذ فرنسا في لبنان، بل وتفويض الدول والمنظمات الدولية لها في تأمين وصول هذه المساعدات لمستحقيها.

2- تعزيز نفوذ "باريس": وهو ما انعكس في أمرين؛ الأول هو سرعة تنظيم مؤتمر باريس لدعم لبنان وجمع تبرعات بالملايين كمرحلة مبدئية لإعادة بناء الأماكن المتضررة، وهو ما يعني أن ماكرون نفَّذ ما وعد به الشعب اللبناني، فضلًا عن قدرته على جمع قادة الفصائل السياسية اللبنانية على طاولة واحدة في مشهد نادر في مقر السفارة الفرنسية في بيروت وتوبيخه لهم، إن جاز التعبير، على عدم قيامهم بالإصلاحات المطلوبة وتحميلهم مسؤولية الأزمة.

أما الأمر الثاني فقد ظهر في تبني فرنسا خطابًا سياسيًّا تضامنيًّا مع "الشعب" اللبناني منذ وقوع التفجيرات؛ فقد غرَّد "ماكرون" على تويتر باللغة العربية عن تضامنه مع لبنان وحبه لها، كما قال للمواطنين أثناء زيارته إن "فرنسا لن تترك لبنان يرحل"، وإن "قلب الشعب الفرنسي لا يزال ينبض بنبض بيروت". وليس من شك أن هذا الخطاب الوجداني له تأثير كبير مع غالبية الشعوب ويزداد تأثيره أثناء الأزمات.

3- إضعاف النفوذ الإيراني: والمتمثل في حزب الله الذي يسيطر بشكل كبير على الحكومة اللبنانية "المستقيلة". وقد أظهرت تطورات التعامل مع الأزمة أن لفرنسا اليد الطولى في لبنان حاليًّا، مدعومة بتأييد داخلي من الشعب اللبناني نفسه من جهة، وبقدرتها على إعادة إعمار لبنان بعد الدمار من ناحية أخرى. 

وقد كانت استقالة الحكومة اللبنانية بقيادة "حسان دياب" بمثابة خطوة نحو إضعاف النفوذ الإيراني الذي تنامَى في السنوات القليلة الماضية، ومحاولة كسر العزلة العربية والدولية عليها وإعادتها لحلفائها الخليجيين والأوروبيين.

4- تحجيم النفوذ التركي: فبرغم كون النفوذ التركي في لبنان محدودًا حتى الآن، إلا أن فرنسا تسعى لمنع تنامي أي دور لتركيا هناك، خاصة مع التوترات الحالية بين باريس وأنقرة بشأن ليبيا، والخشية من الطموحات التركية في شرق المتوسط للتنقيب عن النفط والغاز.

ففي بداية يوليو الماضي، ألقت السلطات اللبنانية القبض على عدة أشخاص في طيارة خاصة قادمة من تركيا كان بحوزتهم 4 ملايين دولار. وفي شهر يونيو أعلن الجيش اللبناني استلام "ذخيرة من عيارات مختلفة مقدمة هبة من السلطات التركية"، هذا بالإضافة إلى تزايد نشاط الجمعيات التركية في شمال لبنان. 

كما لا يمكن الإنكار بأن هناك فئة من التركمان في شمال لبنان لها صلات مع تركيا، وليس من المستبعد وجود فئات محسوبة على الإخوان المسلمين لها صلات مع تركيا تتطلع لدور تركي في لبنان، لكن الدور التركي ذلك ما زال محدودًا في لبنان، برغم وجود رغبة لديها للامتداد على طول شرق المتوسط.

5- المهرب الخارجي: إذ يسعى "ماكرون" لتحقيق إنجازات على مستوى السياسة الخارجية تساهم في تعزيز النفوذ الدولي لفرنسا بما يصرف الانتباه أو يغطي على المشكلات الداخلية التي تواجهها فرنسا في الآونة الأخيرة في أعقاب فيروس كورونا والتراجع الاقتصادي وغيره. 

وتعد الساحة اللبنانية بتطوراتها الحالية أفضل منطقة للتحرك النشط للسياسة الخارجية الفرنسية، لكن يواجه هذا التحرك انتقادات من المعارضة الفرنسية الداخلية، سواء اليمين أو اليسار التي تتهم "ماكرون" بمحاولة استعادة الاستعمار الفرنسي للبنان، مؤكدين أن دعم فرنسا للبنان لا يجب أن يكون مشروطًا. 

تغيُّر بنية النظام:

أظهرت الأيام اللاحقة للأزمة اللبنانية حجم الحضور الفرنسي ومدى تأثيره على الأوضاع ليس على مستوى الحكومة والنخبة السياسية فحسب، بل على مستوى الشارع اللبناني أيضًا الذي انتفض يطالب بتغيير كل النخبة السياسية الحالية، ولم يكتفِ باستقالة الحكومة بل دعا إلى استقالة مجلس النواب أيضًا، وتغيير بنية النظام السياسي.

ونظرًا لتأييد فرنسا لاستقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، ودعوتها لوضع ملف الإصلاح الاقتصادي على رأس أولوياتها، فإن فرنسا من المحتمل بشكل كبير أن تدعم مطالب المحتجين عبر حشد الضغط الدولي نحو عقد اجتماعي جديد في لبنان، وإحداث تغيير في بنية النظام السياسي اللبناني القائم على المحاصصة الطائفية، من خلال دعم تشكيل نظام انتخابي يسمح بالتدرج من الطائفية إلى المواطنة.

وينبع ذلك من أمرين؛ أولًا تنامي الرغبة الداخلية في لبنان، في أعقاب التفجيرات، بتأسيس نظام سياسي جديد قائم على الديمقراطية والمواطنة بالأساس دون النظر للاعتبارات الطائفية والدعم الخارجي لبعض الطوائف والذي أودى بلبنان لهذا المصير. وثانيًا فساد النخبة السياسية الحالية ورفض المواطنين وكذلك فرنسا لها، وهو ما اعترفت به فرنسا والقوى الدولية ضمنيًّا حينما أكد "ماكرون" للمواطنين أن أموال المساعدات ستذهب إلى المتضررين مباشرة وليس إلى الحكومة أو النخبة السياسية.

بالإضافة إلى ذلك فإن تأسيس عقد اجتماعي جديد قائم على أسس المواطنة من شأنه أن يضعف النفوذ الإيراني في لبنان، خاصة في أعقاب التفجيرات الأخيرة بما يتيح الفرصة لاستعادة الدولة اللبنانية لحلفائها الخارجيين، سواء الخليجيين أو الأوروبيين والأمريكان، وكسر عزلتها وتشكيل حكومات تكنوقراطية قادرة على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة. 

بيد أن هذا الأمر لن يتحقق بالسهولة التي قد يبدو عليها؛ فهو يواجه عقبة العقلية الطائفية المسيطرة على الحياة في لبنان، فضلًا عن التوترات الإقليمية المحيطة بلبنان خاصة في سوريا والتي يكون لها تأثير بالغ على لبنان، بالإضافة إلى عدم مراعاته لموازين القوى في الواقع اللبناني وحدود تأثير الأطراف الخارجية في العملية السياسية، إذ إن التغيير لن يكون ممكنًا إلا بعد تغير موازين القوى الداخلية.

على الجانب الآخر فإن التفجيرات الأخيرة لم تفجر الميناء فحسب، بل فجَّرت مشاعر السخط الموجودة لدى قطاعات عريضة من اللبنانيين بما دفعها للتظاهر وتصعيد مطالبها لإسقاط النظام والنخبة السياسية بالكامل، وهو ما بدأت تتساقط أوراقه شيئًا فشيئًا باستقالة الحكومة. 

ومن ثم سيظل الرهانُ الفرنسي فيما يتعلق بتأسيس نظام انتخابي يسمح بالتدرج من الطائفية إلى المواطنة، قائمًا على قدرة المتظاهرين على تصعيد مطالبهم، وضمان حدوث تغييرات في بنية النظام السياسي نفسه، وهو ما سيحدد، ربما، حجم الدعم والاستجابة التي ستقدمها فرنسا والمجتمع الدولي لهذا المطلب.