انتعاش غير متكافئ:

السيناريوهات الأربعة لمخاطر أزمة كورونا في ٢٠٢٠

29 July 2020


عرض: هدير أبو زيد - معيدة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية

ألقى انتشار فيروس كورونا "كوفيد-١٩" بظلاله السلبية على كافة جوانب الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، لا سيما مع غياب فرص الاستجابة العالمية للتعامل معه، وهو ما أدى إلى تشتيت انتباه أغلب الحكومات عن معالجة القضايا الاستراتيجية الطويلة الأمد التي بدأت تلوح في الأفق مع بداية العام الجاري. 

في هذا السياق، طرح مجموعة من الخبراء في مركز السيطرة على المخاطر " Control Risks" – وهو شركة استشارية متخصصة بإدارة المخاطر– تقريرًا مفصلًا لرصد أهم المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية الناجمة عن جائحة "كوفيد-19" خلال عام 2020، ومن المتوقع استمرارها حتى بداية عام 2021. 

اعتمد الخبراء على عدد من المؤشرات الكمية والكيفية لتقييم المخاطر المختلفة لفيروس كورونا "كوفيد- 19"، كالاعتماد على سعر الطلب والصرف والائتمان التجاري والتكلفة لتقييم المخاطر الاقتصادية، وتحديد عدد الهجمات الإرهابية ومدى استعداد وقدرة قوات الأمن العام لحماية الشركات والمواطنين فضلًا عن أعمال الشغب والإضرابات لتقييم المخاطر الأمنية. أما المخاطر السياسية، فيمكن تقييمها من خلال معدلات الاستقرار السياسي، ومظاهر الفساد الحكومي، ومعدلات التغيير التنظيمي، ناهيك عن معدلات تدخل الحكومة في قطاعات الأعمال. 

مخاطر متعددة:

طرح الخبراء خمسة مخاطر رئيسية ناجمة عن جائحة "كوفيد 19" خلال عام 2020، على النحو التالي:

أولًا– ضعف الحكومات: يرى الخبراء أن معظم الحكومات، سواء الديمقراطية أو الأوتوقراطية، فشلت في التعامل مع الوباء؛ فبدلًا من الاستجابة التعاونية العالمية للوباء التي كانت ستعزز فرص النجاح في القضاء نهائيًّا على الفيروس؛ اكتفت أغلب الدول بتبادل المعدات الطبية، وتحركت كل حكومة بمفردها دون التعاون مع حكومات البلدان الأخرى، وهو ما أدى إلى ترسيخ الاستقطاب وانعدام الثقة بالحكومات، فضلًا عن تعزيز فرص النقاد الشعبويين للعولمة.

ولعل الأزمة المالية العالمية في عام 2008، خير دليل على أهمية وفاعلية الاستجابة العالمية التعاونية؛ حيث تعاونت جميع الدول بجانب المنظمات، سواء المحلية أو الإقليمية أو العالمية، فضلًا عن دور المراكز المالية الرئيسية بأسواقها المختلفة من أجل التعامل مع تلك الأزمة، وهو ما لم نجده في التعامل مع وباء "كوفيد-19" لنكتشف بذلك أن العالم لم يكن متوقعًا حدوث الوباء وحسب، بل لم يكن مستعدًا له أيضًا.

ثانيًا– شلل اقتصادي وضعف سياسي: فمع التوقف المفاجئ للنشاط الاقتصاد خلال المراحل الأولى من الوباء، لم يتجلَّ الأثر السياسي للجائحة إلا من خلال التركيز على فكرة "الالتفاف حول العلم"، لكن مع سرعة انتشار المرض وتطوره بزيادة نسب الإصابة والوفيات، ظهرت الآثار السياسية الحقيقية له (صور عدم الاستقرار الحكومي بشقيه السياسي والاقتصادي) كما هو الحال في البلدان ذات الائتلافات السياسية الهشة، والبلدان التي تعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط؛ لذا فقد بدأت العوامل الاقتصادية والاجتماعية تحظى بأولوية على حساب الصحة العامة.

وبناءً عليه، ستضطر أغلب الدول إلى المخاطرة بالعدوى في سبيل العودة إلى العمل مرة أخرى بفتح كافة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. وهنا يتوقع الخبراء أن كلًّا من البرازيل وإسبانيا ستواجه ضغوطًا سياسية حادة لن تأتي نتائجها على خير.

ثالثًا– زيادة الاحتجاجات الجماهيرية: فعلى النقيض مما يراه البعض، من أن جائحة "كوفيد-19" –من خلال سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعي– فرضت غطاءً لتقليل الاحتجاجات والتجمعات الجماهيرية وكافة الأنشطة الاجتماعية؛ يتوقع الخبراء أن انتشار جائحة "كوفيد 19" سيشجع المواطنين على اللجوء للاحتجاجات المباشرة أو غير المباشرة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، للمطالبة بحقوقهم ومحاسبة الحكومات والشركات.

وفي هذا الإطار، سيحاسب المواطنون حكوماتهم على معدلات الوفيات وعدد الإصابات، ومدى كفاءة نظم الرعاية الصحية، كما سيحاسبون الشركات على ما فعلته خلال الأزمة لمعرفة الشركات التي سرحت العمال وكم عددهم؟ والشركات التي وفرت نظامًا للتأمين الصحي، وأخيرًا كيف تعاملت الشركات مع عملائها ومورديها والمجتمعات المحيطة بها خلال الأزمة؟... إلخ.

باختصار، ستعكس الصعوبات الاقتصادية ومظاهر عدم المساواة في الرعاية الصحية تحديات سياسية جديدة ستجعل العام المقبل عامًا مليئًا بالاحتجاجات الجماهيرية، لا سيما مع عودة قضايا التمييز العنصري على أساس اللون أو العرق، وعدم المساواة بين الدخل، والمساواة بين الجنسين، وتغير المناخ، إلى الواجهة مرة أخرى نتيجة لانتشار جائحة "كوفيد 19"، وهو ما سيجعل الشركات العالمية تتعرض لضغوط متزايدة لضمان تلبية سياساتها المتعلقة بالتنوع والشمول والأخلاقيات.

رابعًا– التنافس الأمريكي–الصيني: يرى الخبراء أنه على الرغم من نجاح الانتخابات الأمريكية في أوقات الأزمات الوطنية، كانتخابات عام 1864 وعام 1968، فإن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة ستكون مشحونة وغير مسبوقة؛ لأنها تأتي في إطار بوتقة جائحة عالمية من غير المتوقع انتهاؤها على المدى القصير. وهو ما يمكن أن تفسره باستمرار حملتا ترامب وجو بايدن في اتهام بعضهما بعضًا باللين في التعامل مع الصين، في الوقت الذي تقوم فيه كل من الإدارة الأمريكية والكونجرس بالضغط على الصين لحين موعد الانتخابات وربما بعدها، وهو ما سيجعل الانتخابات المقبلة نقطة فارقة في مسار المنافسة الاستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة.

علاوة على ما سبق، ستساهم الشركات المتعددة الجنسيات، بجانب سلاسل التوريد الكثيفة عبر المحيط الهادئ، في رسم ملامح التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة، وهو تنافس يدور حول الرغبة في الاعتماد على الذات صناعيًّا وزيادة التأثير العالمي، وساعد انتشار جائحة "كوفيد-19" على تفاقمه في الآونة الأخيرة.

 خامسًا– الأمن السيبراني: يتوقع الخبراء أن العالم سيشهد هجومًا واسع النطاق على البنية التحتية الحيوية في النصف الثاني من عام 2020 حتى بداية عام 2021، وهو ما سيتجلى في زيادة معدلات الهجمات والاختراقات الإلكترونية لكافة الشركات والقطاعات، سواء المحلية أو العالمية نتيجة لجائحة "كوفيد-19" التي من المتوقع أن تستهدف المجتمعات الطبية والعلمية أيضًا على وجه الخصوص، لا سيما أن العمليات السيبرانية سهلة وغير مكلفة وصعب الوصول إليها.

كما ستشجع جائحة "كوفيد-19" على خروج النشطاء إلى الشوارع الرقمية "منصات التواصل الاجتماعي" بأعداد كبيرة؛ لأن القيود المادية والقمع العنيف يجعل النشاط السيبراني أداة فعالة لإظهار الآراء، خاصةً أنه يوفر للأفراد المزيد من الوقت، وهو ما يستدعي وضع خطط واستراتيجيات مستقبلية لتعزيز مفهوم الأمن السيبراني خلال الفترة المقبلة. 

سيناريوهات محتملة:

مع استمرار انتشار جائحة "كوفيد 19"، يتوقع الخبراء حدوث أحد السيناريوهات الآتية خلال الفترة المقبلة:

السيناريو الأول– تدهور طويل المدى: وهنا يتنبأ الخبراء باستمرار انتشار الوباء على نطاق واسع نتيجة لفشل جهود الاحتواء عالميًّا ومحليًّا؛ لذا سيتم تقييد السفر والهجرة، ناهيك عن تأجيل الاجتماعات الدولية والمتعددة الأطراف إلى أجل غير مسمى، فضلًا عن تعطيل سلاسل التوريد الدولية نتيجة للقيود التجارية الصارمة. ومن ثم سيدخل الاقتصاد العالمي في مرحلة من الركود التام، وفي النهاية ستؤدي الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية إلى عدم الاستقرار السياسي في معظم بلدان العالم.

السيناريو الثاني– انتعاش غير متكافئ: سيبدأ الاقتصاد العالمي في الانتعاش بحلول أواخر عام 2020، ولكن بشكل غير متكافئ نتيجة لاختلاف البلدان في قدرتها على تخفيف الآثار الاقتصادية للجائحة، وهو ما يعني استمرار بعض البلدان في حالة الركود، كما سيزداد الوضع الأمني سوءًا، خاصةً في البلدان المتضررة ومن ثم ستتصاعد التوترات بين الدول نتيجة للنزاعات حول الوصول إلى المعدات الطبية.

السيناريو الثالث– انتعاش محدود: فبالرغم من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية لجائحة "كوفيد 19" ومعاناة بعض النظم الصحية المحلية أو الإقليمية من نقص الإمدادات الطبية الكافية؛ ستلجأ بعض البلدان إلى إعادة فتح اقتصاداتها، وستتخذ الشركات خطوات طوعية لتقليل التأثيرات السياسية والاقتصادية لجائحة "كوفيد 19" على طول سلاسل التوريد الخاصة بها.

وبناءً عليه، ستتمتع البلدان التي تمتلك قدرة عالية على احتواء وإدارة الأزمة، بمزايا جيو سياسية بخلاف تلك التي تواجه عمليات الإغلاق المتقطعة. 

السيناريو الرابع– انتعاش عالمي: وهنا يتوقع الخبراء أن العالم سينجح في السيطرة على وباء "كوفيد 19"، نتيجة لانخفاض عدد الإصابات والوفيات. وبناءً عليه، سيتم استئناف العمليات التجارية مع تخفيف القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع تدريجيًّا على مستوى العالم. ومع ذلك ستظل المخاطر الأمنية مرتفعة حتى تستأنف جميع الاقتصادات نشاطها بالكامل. 

كما سيتم استئناف الاجتماعات والفعاليات الدولية، فضلًا عن انتعاش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2021، لكن مع وجود نسب طفيفة من البطالة والديون. وأخيرًا، سيتوافر علاج أو لقاح لهذا الوباء لكن سيظل الوصول إليهما محدودًا وصعبًا، سواء داخل البلدان أو فيما بينها.

انطلاقًا مما سبق، رأى الخبراء أن السيناريو الثاني المعنون "انتعاش غير متكافئ" هو السيناريو الذي نعيشه في الفترة الراهنة، مؤكدين أنه ليس بالضرورة أن يحدث انتقال تسلسلي من سيناريو إلى آخر؛ فكل ما في الأمر أنهم يراقبون مجموعة محددة من المحفزات لكل سيناريو خلال الفترات المقبلة.

 ختامًا، أكد الخبراء ضرورة الابتكار والتكيف مع جائحة "كوفيد 19"، والبعد عن التحفظ والجمود في التعامل معه؛ حتى نتفادى آثارها السلبية على الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية. ولأن أسوأ وقت للتعلم عن إدارة الأزمات هو وقت الأزمة نفسه، ينادي الخبراء بضرورة قيام جميع الشركات والمنظمات بإنشاء قسم خاص لإدارة المخاطر تحسبًا لأي أزمة طارئة خلال العقود المقبلة.

فالتوترات الواضحة بين الولايات المتحدة والصين، وزيادة الابتزاز السيبراني وسرقة أمن المعلومات، فضلًا عن الافتقار إلى الاستجابة العالمية التعاونية للوباء؛ تشير جميعها إلى ضرورة وضع خطط طويلة المدى على وجه السرعة للقضاء عليها أو على الأقل لتقليل آثارها السلبية؛ فالعلاقة بين المخاطر السياسية ونظيرتها الاقتصادية لا تزال قائمةً.

المصدر:

Casper Leighton and others, “Risk map 2020: A Special Edition of our leading Political and Security Risk forecast to reflect the impact of COVID-19”, Control Risks, 2020.