مآسي حادة:

كيف تعكس مسألة "المقابر الجماعية" تفاعلات المنطقة العربية؟

21 June 2020


تعكس المقابر الجماعية، مجهولة الهوية، التي تم العثور عليها مؤخراً أو اكتشفت في فترات سابقة في مناطق جغرافية مختلفة بعدة دول عربية مثل السودان وليبيا واليمن وسوريا والعراق، تأثيرات لا تزال مستمرة، على نحو ما انعكس في مطالبة عدة أطراف ليبية بإجراء تحقيق دولي في المقابر الجماعية التي اكتشفت في بعض المناطق، والعثور على مقبرة جماعية لمجزرة مجندي الخدمة العسكرية في عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وتجهيز الميليشيا الحوثية مقابر جماعية لدفن موتى فيروس "كورونا" في العاصمة صنعاء، واكتشاف مقبرة جماعية لعشرات الجثث في شمال سوريا نتيجة لجرائم "داعش" التي ارتكبها كوادر التنظيم ضد السكان المدنيين، وتصاعد الجدل حول ملف المغيبين والمختطفين في العراق، وتجاوز القضايا العالقة في العلاقات الكويتية- العراقية.

وقد تعددت الحالات الكاشفة عن تأثير مسألة المقابر الجماعية، سواء لمدنيين أو عسكريين، على مسار تفاعلات المنطقة العربية، داخلياً أو بينياً، في النصف الأول من عام 2020، وذلك على النحو التالي:

جدل متصاعد

1- مطالبة عدة أطراف ليبية بإجراء تحقيق دولي في المقابر الجماعية ببعض المناطق: تصاعدت حدة الجدل داخل ليبيا حول قضية المقابر الجماعية في الفترة الماضية. إذ استنكر الاتحاد العربي لحقوق الإنسان، في 9 يونيو الجاري، الانتهاكات وجرائم الحرب الممنهجة التي ارتكبتها الميليشيات والجماعات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق بحق المدنيين في إطار الأعمال الانتقامية والعدائية، داعياً إلى تحرك دولي لوقف هذه الجرائم ومحاسبة الجناة.

وأعرب رئيس الاتحاد العربي لحقوق الإنسان عيسى العربي عن بالغ القلق الذي يراود المجتمع الدولي مما يتعرض له المدنيون بتلك المناطق على أيدي الفصائل والجماعات العسكرية، حيث تمثلت تلك الجرائم والانتهاكات في القتل خارج إطار القانون، لا سيما بمدينة ترهونة التي تم رصد عملية تكديس مئات الجثث بمستشفياتها، بالإضافة إلى جرائم حرب تمثلت في قتل الأسرى والمصابين، خاصة الجرحى والمصابين المتواجدين في المستشفيات لتلقي العلاج.

ويبدو أن ذلك كان أحد الأسباب التي دفعت أطرافاً أخرى إلى إلقاء الضوء على القضية نفسها، في الثُلث الثاني من يونيو الجاري، على إثر العثور على 8 مقابر جماعية لعشرات الجثث بمدينة ترهونة، وبعض المناطق المحيطة. ولم يقتصر ذلك على الأطراف المحلية بل إن أطرافاً دولية عديدة طالبت بسرعة التحقيق، ومن بينهم سفراء الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا لدى ليبيا.

مجزرة "العيلفون"

2- العثور على مقبرة جماعية لمجزرة مجندي الخدمة العسكرية في عهد البشير: أشارت عدة وسائل إعلامية، في 14 يونيو الجاري، إلى أن السلطات السودانية بدأت في نبش رفات قتلى جنود مجزرة معسكر "العيلفون" التي حدثت في عام 1998 عندما قبضت حكومة جبهة الإنقاذ الإسلامية على الشباب في شوارع المدن والقرى، وأدخلتهم المعسكرات ليتلقوا تدريبات لمدة ثلاثة أشهر، قبل الدفع بهم إلى أتون الحرب في جنوب السودان ضد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان. وقد طلب المجندون قسرياً في أحد المعسكرات التابعة للقوات المسلحة السودانية، السماح لهم بقضاء إجازة عيد الأضحى مع أهاليهم، إلا أن قيادة المعسكر رفضت ذلك. 

ووفقاً لروايات موثقة لعدد من شهود العيان، فإن بعض المجندين حاولوا التسلق من المعسكر بالقوارب عبر نهر النيل الأزرق، وقتل بعضهم غرقاً، في حين قتل آخرون برصاص جنود حراسة المعسكر. وقد شكل النائب العام السوداني تاج السر الحبر، في يناير الماضي، لجنة خاصة لتقصي الحقائق وكشف ملابسات القضية، التي راح ضحيتها أعداد من القتلى والمفقودين، والتي أحدثت هزة لدى الرأى العام السوداني. وعلى الرغم من أن الجهات المعنية بصدد التوسع في أعمال الحفر، إلا أنها تواجه معضلة تتعلق بوجود قبور لموتى دفنوا بالقرب من المقبرة الجماعية التي دفنت بها جثث مجزرة العيلفون.

وتجدر الإشارة إلى أنه لا توجد إحصاءات رسمية منضبطة لأعداد القتلى، لأن الأرقام الفعلية أكبر من تلك التي تم تدوينها في قسم الشرطة بمنطقة العيلفون (تبلغ 52 قتيلاً). ووفقاً للبيان الصادر عن الجيش السوداني في إبريل 1998، فقد تم انتشال 31 جثة من النهر، فيما سجلت وثائق قيادة المعسكر، على نحو ما نشرته وسائل الإعلام حينذاك، غياب 206 من المجندين الذين كانوا يتلقون تدريباتهم في المعسكر. وقد نددت العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية بتلك المجزرة، وطلب مجلس الأمن حينذاك من حكومة البشير إجراء تحقيقات في الحادث، لكن الحكومة تجاهلت ذلك المطلب، ولايزال مصير عشرات المفقودين مجهولاً حتى الآن.

مقابر "كورونا" 

3- تجهيز الميليشيا الحوثية مقابر جماعية لدفن موتى "كورونا" في صنعاء: اعتمدت حركة المتمردين الحوثيين، طبقاً لتقارير إعلامية، سياسة التعتيم على حجم الإصابات والوفيات بفيروس "كورونا" في مناطق سيطرتها وخاصة بالعاصمة، نتيجة تهالك النظام الصحي وغياب الإجراءات الوقائية ونقص حاد في الأدوية وتفشي الأوبئة كالكوليرا لاسيما بعد تحذير الأمم المتحدة من أن انتشار "كورونا" باليمن سيؤدي إلى كارثة إنسانية، وهو ما دفع الميليشيا إلى تجهيز مقابر جماعة لدفن موتى "كورونا" في العاصمة صنعاء.

وفي هذا السياق، تتهم منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة اليمنية ميليشيا الحوثيين بالتكتم على ضحايا وإصابات "كورونا" باليمن. كما طالب وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني في تصريحات لوكالة "سبأ"، في 4 يونيو الجاري، بتشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق حول جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها الميليشيا الحوثية بحق المواطنين في مناطق سيطرتها عبر إدارة ملف "كورونا" على الطريقة الإيرانية، من خلال التوظيف السياسي للوباء العالمي، وإخفاء البيانات والمعلومات عن المنظمات الدولية والرأى العام العالمي، وهو ما دفع المواطنين إلى تجنب اللجوء إلى المستشفيات الخاصة والبقاء في منازلهم، كما تم اعتقال الأطقم الطبية.

جرائم "داعش" 

4- اكتشاف مقبرة جماعية لعشرات الجثث في شمال سوريا: وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 13 إبريل 2020، فقد عثر فريق من مجلس الرقة المدني على مقبرة جديدة تحتوي على عشرات الجثث، في قرية الحمرات بريف الرقة الشرقي شمال سوريا. وتعود الجثث لمدنيين ومسلحين، ويُرجح أنهم قُتلوا خلال وجود تنظيم "داعش" في المنطقة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه تم اكتشاف العديد من المقابر الجماعية في تلك المنطقة خلال العام الماضي عن طريق استخدام الطائرات بدون طيار لتحديد مكان "الحفر"، حيث كان يتم دفن الأشخاص الذين يتعرضون للاختطاف أو الاحتجاز.    

أعباء الكاظمي

5- تصاعد الجدل حول ملف المغيبين والمختطفين في العراق: يتمثل أحد الملفات الرئيسية التي تواجه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلال الفترة الحالية في البحث في قضية المقابر الجماعية التي ظهرت بعد القضاء على تنظيم "داعش" في المناطق المحررة، لاسيما بعد تزايد المناوشات المتبادلة على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" بين الاتجاهات المحسوبة على المكون السني والأخرى المحسوبة على المكون الشيعي بشأن العوامل التي ساهمت في صعود "داعش". فبينما يرى البعض أن سكان مناطق غرب العراق ساعدوا التنظيم في توفير الملاذات الآمنة، اعتبر البعض الآخر أن المسئولين الشيعة كان لهم الدور الرئيسي في صعود "داعش" نتيجة الإقصاء والتهميش الذي انتهجوه في المحافظات ذات الغالبية السنية.

وقد بدأت تلك المناوشات بعد إطلاق جماعات ناشطة تمثل المناطق الغربية هاشتاج "وينهم"، ويعني أين هم؟، في إشارة إلى آلاف الأشخاص الذي غيبوا واختطفوا في تلك المناطق خلال الأعوام (2014-2018)، حينما كان تنظيم "داعش" يسيطر على ثُلث مساحة العراق، وبعضهم تم دفنه بمقابر جماعية. 

غير أن المقابر الجماعية عرفتها العراق خلال فترة حكم الرئيس صدام حسين لاسيما في ظل اضطهاده للشيعة والأكراد بل والسنة المعارضين له. ويصادف 16 مايو من كل عام اليوم الذي فتحت فيه أول المقابر الجماعية بعد سقوط نظام صدام حسين سواء عن طريق الإعدامات أو استخدام الأسلحة الكيماوية أو دفن المواطنين وهم أحياء بالمقابر الجماعية أثناء قمعه الاحتجاجات أو تصفية كل من حاول الوقوف في مواجهته.

مخاوف الماضي

6- تجاوز القضايا العالقة في العلاقات الكويتية- العراقية: قام وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر الصباح، في 14 يونيو الجاري، بزيارة بغداد، وهى الزيارة الأولى من نوعها لمسئول كويتي رفيع المستوى في عهد حكومة مصطفى الكاظمي، حيث تسلم الأخير رسالة خطية من أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح. وقد أشار الكاظمي في تصريحات لدى وسائل الإعلام إلى أن "لدى البلدين فرصة تاريخية لتطوير العلاقات الثنائية بينهما، ومعالجة ملف الحدود بالطريقة التي يتم من خلالها التحرر من مخاوف الماضي ووفق مبدأ حسن النية".

وأوضح الكاظمي أن "العلاقات بين العراق والكويت ترتكز على روابط عائلية وقبلية واجتماعية"، مؤكداً أن حكومته "ستستمر في التعاون بشأن قضية الأسرى الكويتيين في حرب الخليج عام 1991، وإعادة ما تبقى من الأرشيف الأميري في العراق". لذا، قد تحاول الحكومة العراقية برئاسة الكاظمي تقليص الأبعاد النفسية مع الكويت بشأن أحد الملفات العالقة وهو نقل رفات الكويتيين المتبقية من العراق.

قضايا فرعية:

خلاصة القول، يلقي الكشف عن المقابر الجماعية في المنطقة العربية الضوء على قضايا فرعية عديدة ومنها الحرص على حماية مواقع هذه المقابر من العبث، لحين التعرف على هوية الضحايا، وأسباب الوفاة وإعادة جثامينهم إلى ذويهم، مع الأخذ في الاعتبار صعوبة التوصل إلى الجناة الذين ارتكبوا جرائم خارج إطار القانون، لاسيما في ظل تعدد المقابر الجماعية واستمرار اشتعال الصراعات المسلحة، فضلاً عن وجود ألغام قرب هذه الجثث لمحاولة قتل من يصل إليها. 

كما أن تلك المقابر تعكس تكرار أعمال القتل الانتقامية من قبل الميليشيات المسلحة في مواجهة بعضها، وهو نمط بارز في الحالة الليبية. علاوة على أن تأثيرات انتشار "كورونا" في اليمن دفعت ميليشيا الحوثيين في مناطق سيطرتها إلى التكتم على حالات الإصابة والوفاة بالفيروس في ظل انهيار النظام الصحي منعاً لإثارة غضب الرأى العام المحلي والعالمي وتوجيه انتقادات حادة من قبل المنظمات الدولية. هذا فضلاً عن جرائم "داعش" في مواجهة المدنيين خلال سيطرته على أجزاء من سوريا والعراق.