متطلبات التعايش:

كيف تفيد خبرات إفريقيا مع الأوبئة بمواجهة كورونا؟

20 May 2020


في الوقت الذي سيطر فيه الهلع على معظم دول عالم الشمال المتقدم، بسبب الانتشار السريع وواسع النطاق لفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، كانت القارة الإفريقية أفضل حالًا، قياسًا بتوقيت انتشار الوباء بالقارة، وعدد حالات الإصابة والوفاة الناجمة عنه، ومقدار الخوف مما قد يُصيبها من خسائر بشرية ومادية. ويعود ذلك إلى عوامل مختلفة أبرزها الخبرات العريضة التي تملكها القارة في مواجهة الأمراض والأوبئة، وقدرة حكوماتها وشعوبها على التعايش معها، واستخلاص الدروس المستفادة منها. لذا تبدو أهمية تناول تجارب مواجهة الأوبئة في إفريقيا، وانعكاس ذلك في مواجهتها لأزمة كورونا.

بداية، لم يكن وباء كورونا سوى مجرد رقم جديد يُضاف إلى قائمة الأوبئة الأخرى الأكثر سوءًا، التي ضربت شعوب القارة السمراء منذ قرون خلت، حيث عانت القارة من أوبئة عديدة، أهمها: الملاريا، الكوليرا، الحمى الصفراء، الإيبولا، السل، شلل الأطفال، الإيدز، حمى لاسا. وقد تكررت دورات حدوث تلك الأوبئة لأكثر من مرة. وظلت العوامل المسببة لها قائمة، خاصة الانتشار الواسع للبعوض، في المستنقعات، وخلال فصول سقوط المطر، التي تمتد لأكثر من ستة أشهر في أغلب دول إفريقيا جنوب الصحراء، والافتقار إلى نظم حديثة للصرف الصحي والتصريف الآمن لمياه الأمطار، والعادات الغذائية غير الصحية، خاصة تناول اللحوم غير المطهية.

كان تواتر الإصابة بتلك الأوبئة، وقصر المدة الزمنية بين كل جائحة وأخرى، وارتفاع أعداد المصابين والوفيات، وتفاقم الخسائر الاقتصادية الناجمة عنها؛ دافعًا للحكومات إلى تخفيف قيود الحظر الذي تفرضه على مواطنيها تدريجيًّا، لتستمر الحياة بالتوازي مع تنامي المعارف والمدركات بشأن كافة أبعاد تلك الأوبئة.

التركيز على الجانب الوقائي:

على سبيل المثال، واجهت القارة الانتشار المتكرر للإيبولا أعوام 1976 و2007 و2014 و2018 بعدم إيقاف الحياة بالبلاد المنكوبة. بل إنها نجحت في خفض عدد الوفيات بين المصابين من 90% عام 1976 إلى 70% عام 2014 ثم 66% عام 2018. وهنا تحسب لنيجيريا تجربتها الناجحة في احتواء الإيبولا، بالتركيز على الوقاية والاكتشاف المبكر أكثر من الاهتمام بجوانب العلاج. فبمجرد انتشار الوباء في دول جوارها سارعت نيجيريا لإغلاق حدود البلاد، والتوعية والتباعد الاجتماعي، والتقصي والحجر الصحي والعزل بالمستشفيات. وبالمثل كان التركيز على جانب الوقاية سببًا مباشرًا لتقليص أعداد المصابين بالملاريا، التي تأتي على قمة الأوبئة المنتشرة بإفريقيا، وفقًا لأعداد المصابين بها والوفيات الناجمة عنها، حيث تقع 90% من حالات الملاريا عالميًّا بالقارة السمراء.

اعتماد أسلوب "مناعة القطيع":

كثيرًا ما تلجأ الدول الإفريقية إلى اعتماد ما يُسمى أسلوب "مناعة القطيع"، في مواجهة الأوبئة. وقد طبق ذلك بالفعل في مواجهة شلل الأطفال، ليتم القضاء عليه نهائيًّا بالقارة عام 2016. كما أنه يطبق حاليًّا بالنسبة للملاريا والحمى الصفراء. فالتعايش مع المرض يُكسب أجسام البعض القدرة على إنتاج أجسام مضادة، قد تمثل عاملًا وقائيًّا ضد الإصابة به مستقبلًا. ومن الجدير بالذكر أن هناك ثلاثة عوامل قد اضطرت الدول الإفريقية لاعتماد أسلوب "مناعة القطيع" هي:

1-تقاعس شركات الأدوية عن إنتاج اللقاحات:  في العديد من الأحيان قد تتقاعس شركات الأدوية العالمية عن القيام بالأبحاث اللازمة لاكتشاف اللقاحات والأدوية اللازمة لمكافحة الأوبئة، اقتناعًا منها بعدم جدوى ذلك على مستوى الربح المادي، أو نتيجة لسرعة تحور الفيروسات المسببة للأوبئة، ومقاومتها للأدوية المنتجة. فعلى سبيل المثال، بالرغم من اختفاء مرض الجدري من أوروبا وأمريكا الشمالية منذ أربعينيات القرن العشرين لكنه استمر في إفريقيا، دون اكتراث شركات الأدوية، ليقضي على 20% من المصابين به حتى عام 1980، عندما سجلت الصومال آخر إصابة بالمرض.

 وقد يصل الأمر ببعض الشركات إلى إجبار الحكومات الإفريقية على استخدام الأفارقة بشكل غير أخلاقي، كحقل تجارب للأدوية واللقاحات الجديدة، وهو ما حدث خلال أزمة كورونا، حيث عرض أحد الأطباء الفرنسيين أن تكون إفريقيا هي ميدان الاختبار للقاحات ضد الفيروس الجديد، وهو الأمر الذي أدانته منظمة الصحة العالمية بشدة.

2- منح الأولوية للاقتصاد على حساب المرضى: قد تمنح بعض الحكومات الإفريقية الأولوية للاعتبارات الاقتصادية على حساب الإنفاق لأجل علاج المرضى أو تطوير اللقاحات، مما يجبر ملايين المرضى على التعايش مع الآلام. ومثال ذلك رفض الرئيس "تابو مبيكي" في جمهورية جنوب إفريقيا الاعتراف بالصلة بين فيروس نقص المناعة المكتسب (إتش.آي.في) وبين الأعراض المترتبة عليه. مؤكدًا أن الفقر هو السبب الأساسي لمعظم تلك الأعراض. وكانت النتيجة هي أن بلاده أصبحت أكبر مركز للإيذر على مستوى العالم، حيث بلغت نسبة المصابين بالمرض فيها زهاء 22% من السكان، بينما كان العلاج الوحيد المتاح آنذاك هو المكملات الغذائية.

لكنّ رحيل "مبيكي" عن السلطة عام 2008 منح الفرصة لخليفته "جاكوب زوما" لإطلاق حملة موسعة لفحص المرضى وإنشاء المراكز العلاجية المتخصصة. كما عدلت جنوب إفريقيا قانون براءة الاختراع لديها في مايو 2018 لتسمح للشركات بإنتاج الأدوية بأسعار مناسبة للفقراء، وذلك بعد ضغوط قوية مارستها حملة إصلاح قوانين براءات الاختراع. وكان الدرس الأكبر المستفاد هنا هو عدم جدوى إنكار المرض وإهمال علاجه، وضرورة منح الأولوية لاحتياجات المواطنين، وليس لأرباح الشركات الاحتكارية.

3- التركيب الديمغرافي للشعوب الإفريقية: إن أغلب الشعوب الإفريقية هي شعوب فتية، حيث تبلغ نسبة الشباب دون 25 عامًا زهاء 60% من مواطني الدول الإفريقية، فيما تبلغ نسبة الفئة العمرية التي تبلغ 65 عامًا 3% فقط. وبالتالي فإن غلبة فئة الشباب مقارنة بكبار السن يقلل أعداد المواطنين المحتمل إصابتهم بالمرض، ويخفض أعداد الذين سيحتاجون للرعاية المكثفة، مما يعني انخفاض عدد الوفيات. ولعل هذا العامل هو ما يجعل الحكومات الإفريقية أكثر اطمئنانًا في التعامل مع أزمة كورونا، التي لا يمكن مقارنة خسائرها البشرية أو الاقتصادية بالخسائر الناجمة عن الملاريا -مثلًا- التي تتسبب في وفاة مليون إفريقي سنويًّا، بمعدل 3000 شخص يوميًّا.

مواجهة تردّي القطاعات الصحية:

يُمثل تردي مستوى القطاعات الصحية تحديًا كبيرًا في إفريقيا، حيث تبلغ نسبة الإنفاق على القطاع الصحي بالقارة 1% فقط من الإنفاق العالمي، فيما تبلغ نسبة العاملين بالقطاع الصحي بها 3% من العاملين بالقطاع عالميًّا. وقد استجابت القارة لهذا التحدي عبر خمسة حلول متكاملة هي:

1- حماية العاملين بالقطاع الصحي: أضحت إفريقيا أكثر اهتمامًا بحماية العاملين بالقطاع الصحي، وتعزيز إجراءات الوقاية داخل المستشفيات، باعتبار أن ذلك هو الشرط الأول للحفاظ على المنظومة الصحية الضعيفة أساسًا من الانهيار، خاصة بعد التقارير التي تكشف عن ارتفاع نسب العدوى بين الأطقم الطبية بالقارة إلى 10% على الأقل خلال فترات الوباء.

2- المراكز الخاصة والمؤسسات الدينية: تلعب المراكز الصحية الخاصة دورًا مكملًا للأدوار الحكومية، خاصة عندما تضطر أغلب الدول لخفض إنفاقها الحكومي على الصحة، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي والجهات المانحة. كما تقوم الكنائس والمراكز الإسلامية بدور فاعل في المواجهة، حيث تملك المنظمات الدينية زهاء 30% على الأقل من البنية الصحية الأساسية بإفريقيا. ففي زامبيا وليسوتو مثلًا توفر المؤسسات الصحية المسيحية 30% إلى 40% من خدمات الرعاية والعلاج الخاصة بالإيدز.

3- تكثيف جهود التوعية: نجحت الدول الإفريقية في التغلب على المشكلات المتعلقة بنقص الوعي لدى مواطنيها، خاصة بين الفئات غير المتعلمة بالمناطق الريفية، وذلك عبر الإذاعات المحلية، والأعمال الدرامية، والملصقات التوعوية، والمجتمع المدني، والقيادات القبلية، التي تعتبر الخط الأمامي للوقاية من الأمراض والاستجابة لها. ففي بوروندي -مثلًا- يتم الاحتفال بيوم وطني لمكافحة الملاريا، التي تصيب 2,5 مليون مواطن سنويًّا. وفي جنوب إفريقيا يقوم القس "ديزموند توتو" بدور محوري في مواجهة الإيدز.

4- التعاون الإقليمي: يُعتبر التعاون الإقليمي ضرورة يفرضها الانتشار الأفقي للأوبئة، حيث تنتشر الحمى الصفراء مثلًا في 34 دولة إفريقية من بين 47 دولة في العالم. وهنا تبدو أهمية إعمال آليات التعاون الإقليمي، ومن أهمها: المركز الإفريقي لمكافحة الأوبئة في إطار الاتحاد الإفريقي، وشبكة غرب إفريقيا لمكافحة السل والإيدز والملاريا، ومبادرة الرئيس المصري لعلاج مليون مواطن إفريقي من فيروس "سي". وتخصيص يوم 25 أبريل يومًا سنويًّا لمكافحة الملاريا بالقارة. وتبادل الخبرات عبر الدول. ومثال ذلك تنظيم الكونغو الديمقراطية حملة تطعيم استباقية ضد الإيبولا باستخدام لقاح ثبتت فعاليته في غينيا عام 2015.

تم تطبيق هذه الآلية خلال أزمة كورونا الراهنة، حيث عقد وزراء الصحة الأفارقة في منتصف فبراير 2020 اجتماعًا طارئًا لصياغة استراتيجية قارية لمواجهة الفيروس. واجتمع وزراء المالية الأفارقة في مارس 2020 لمناقشة العواقب المالية المحتملة للفيروس وطرق معالجتها. كما تم إنشاء صندوق إفريقي لدعم جهود مكافحة الوباء.

5- المساعدات الدولية: غالبًا ما تتجه الدول الإفريقية لطلب المساعدات الدولية لمواجهة الأوبئة. حدث ذلك خلال أزمة إيبولا عام 2014، مما دفع مجلس الأمن الدولي لاتخاذ قرار بالإجماع لوضع حد لسياسة عزل الدول المصابة (ليبيريا، سيراليون، غينيا)، ودعمها بشكل عاجل، في سابقة هي الأولى من نوعها التي يتخذ فيها المجلس إجراءات لمواجهة أحد الأوبئة بدعوى تهديدها للسلم والأمن الدوليين. كما قدم البنك الدولي أكثر من 500 مليون دولار لحكومات الدول الثلاث، لتعويض خسائرها بسبب الوباء، والتي بلغت 1,6 مليار دولار.

كما ساهم التعاون بين الدول الإفريقية ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة في توفير الحماية للفئات الأكثر ضعفًا في زمن الأوبئة. ومثال ذلك تعاون دول غرب إفريقيا ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خلال أزمة إيبولا، والذي كان عاملًا أساسيًا في إدماج اللاجئين والنازحين ضمن الخطط الوطنية لمكافحة الوباء. وحرصت الدول الإفريقية أيضًا على الاستفادة من إمكانيات منظمة الصحة العالمية والدول الكبرى المتنافسة بالقارة في دعم قطاعاتها الصحية. فعلى سبيل المثال، أطلقت منظمة الصحة العالمية استراتيجية للقضاء على الحمى الصفراء بإفريقيا بحلول 2026، بالتعاون مع تحالف اللقاح واليونيسف وأكثر من 50 شريكًا في مجال الصحة. 

وأصدر مؤتمر طوكيو للتنمية الدولية في إفريقيا (تيكاد) إعلانًا في أغسطس 2019 لمواجهة الأمراض والأوبئة وتحقيق الأمن الغذائي بالقارة. وقد ساهم ذلك في تراكم خبرات عريضة لدى الدول الإفريقية. وأكسبها القدرة على التمييز بين الجهات المانحة من حيث قدرتها وسرعتها في الاستجابة لنداءات القارة، كما أكد درسًا مهمًّا هو أن الاستثمار في القطاع الصحي يُعتبر ضرورة لمواجهة الانهيار الاقتصادي الذي تُحدثه الأوبئة. وقد انعكس ذلك على مواجهة أزمة كورونا بإفريقيا، حيث تم إطلاق نداءات عديدة لطلب المساعدة الدولية، بغية اتخاذ إجراءات احترازية قبل استفحال الخطر بالقارة، بالتزامن مع الترويج لتقارير تُحذر من وفاة 300 ألف إفريقي على الأقل بالفيروس. كما طالبت بعض الدول بإسقاط الديون الإفريقية أو تعليق سداد أقساط الديون نتيجة للوباء.

وقد استجابت الولايات المتحدة لتلك المخاوف في أبريل 2020 بتخصيص 170 مليون دولار لمساعدة الدول الإفريقية في مواجهة الأزمة، وتنسيق برامج تدريبية للأطقم الطبية بإثيوبيا وناميبيا والكونغو الديمقراطية وغينيا، من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كما أعلنت الصين تقديم مساعدات مالية طارئة لإفريقيا. وعقد خبرائها مؤتمرات عبر الفيديو لتبادل الخبرات بشأن الوباء مع نظرائهم الأفارقة. وقامت الشركات الصينية والمنظمات غير الحكومية والصينيون المقيمون بإفريقيا بتقديم المساعدات للحكومات الإفريقية.

توفير الاحتياجات الغذائية:

تتعايش الدول والشعوب الإفريقية مع مشكلة نقص الغذاء في زمن الأوبئة بالاعتماد على أساليب عديدة، أهمها: تأمين المساعدات الغذائية عبر التواصل مع منظمة الأغذية والزراعة والجهات المانحة، والاعتماد على نمط الزراعة المعيشية، والأنشطة المرتبطة بها، حيث تقوم النساء عادة بزراعة المناطق المحيطة بالمنازل بالمحاصيل الغذائية الأساسية، وتربية الماشية للاكتفاء الذاتي، وجمع الأطعمة البرية، وتبادلها مع الجيران كنوع من التضامن الاجتماعي بين أبناء القرى.

وبالرغم من الخبرات الإفريقية في مكافحة الأوبئة والتعايش معها، لكن ذلك لا يُعد ضمانة كافية لمواجهة فيروس كورونا، نظرًا للافتقار إلى لقاح حتى الآن ضد الفيروس، وتدهور الحالة الأمنية في الدول المنكوبة بالحروب الأهلية، ومنها: جنوب السودان، والصومال، وإفريقيا الوسطى، وصعوبة تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي بمخيمات اللاجئين والنازحين، وعدم ثبوت أثر ارتفاع درجات الحرارة في القضاء على الفيروس. 

 وبالتالي، فإن الدرس الأكبر المستفاد هنا هو ضرورة تطبيق استراتيجية إفريقية تحت رعاية الاتحاد الإفريقي والجهات المانحة لزيادة مخصصات تنمية البحث العلمي وتطوير القطاعات الصحية بالقارة. فالتكلفة المرتبطة بذلك -أيًّا كانت- لا يمكن مقارنتها بالخسائر البشرية والاقتصادية الفادحة للأوبئة، خاصة عندما تحدث بشكل متزامن، خلال دورات تعاقب قصيرة المدى.