مستقبل العمل:

كيف ستتغير الوظائف في عصر ما بعد "كورونا"؟

05 May 2020


بدت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، منذ اندلاعها كنوع جديد من الأزمات لم يَرَ العالم لها مثيلًا من قبل، فهي قد ولدت عوامل ومحفزات تغيير في معظم جوانب حياة البشر، والتي قد يكون لها دخل كبير في جميع ما سيحدث من تغيرات في أسلوب الحياة في الحقبة التالية من التاريخ البشري.

وتنبع أهميتها ودورها المتوقع هذا من أنها أجبرت البشر على التنازل عن حريتهم في التنقل، ووضعت سكان كل دولة داخل حدودها، من دون القدرة على المغادرة. وتسببت في إغلاق العديد من الأنشطة الاقتصادية. كما وضعت هذه الأزمة نسبة كبيرة من سكان العالم في إقامة جبرية في منازلهم، وتركتهم يفكرون في كيفية إدارة حياتهم اليومية.

وتتمثّل محصلة ذلك في تحوّلين آخذين في التشكل في سوق العمل؛ يتمثل التحول الأول في أن أُجبر الملايين على ترك وظائفهم، وهناك ملايين باتوا محل تهديد. أما التحول الثاني فهو أنّ معظم مَنْ بقوا على رأس أعمالهم أصبحوا مُجبرين على تأديتها من المنزل، ومن دون الذهاب إلى المكاتب. وأمام هذا الواقع الجديد، تثار العديد من التساؤلات بشأن المستقبل الذي ينتظر العمل في ظل هذين التحولين الآخذين في التشكل.

فحجم الوظائف المليونية المفقودة يُثير المخاوف من أن يكون العمل في طريقه إلى الاختفاء، كما تنبأ له كثيرون من قبل، وإن كان بوسائل أخرى. كما أنّ مَنْ سيبقون في أعمالهم سيصبح التساؤل حول الأسلوب الذين يؤدون به هذه الأعمال في المستقبل. 

نظرية "نهاية العمل":

لأهمية العمل في حياة البشر، باعتباره -وفق هيجل- "هو الذي يخلق التاريخ البشري، ويحول العالم الطبيعي إلى عالم يمكن أن يسكنه الإنسان"؛ فإن أي تغييرات جوهرية تطرأ عليه (أي العمل) وطريقة تأديته، لا بد أنها تمثل عند حدوثها محطات ونقاط تحول جديدة في ذلك التاريخ البشري.

والتحوّل الأول الذي نحن بصدده في العمل هنا، والذي أفرزته أزمة كورونا؛ هو حجم العمل المفقود أو الوظائف التي أُلغيت، أو يمكن أن تلغى، وهو حجم آخذ في التنامي. وقد قدرت منظمة العمل الدولية عدد الذين يمكن أن يتحولوا إلى عاطلين جدد بسبب الإغلاق الاقتصادي المفروض كجزء من الإجراءات الاحترازية لمحاصرة فيروس كورونا عالميًّا بنحو 25 مليون شخص؛ وهذا العدد يتجاوز من فقدوا وظائفهم في الأزمة المالية العالمية عام 2008، والذين بلغوا 23 مليون شخص.

وبتوسيع دائرة العمال المتأثرين بالأزمة، بضم أولئك الذين اضطروا إلى قبول التسريح المؤقت من وظائفهم، أو حصلوا على إجازات غير مدفوعة الأجر، أو قبلوا بتقليص ساعات عملهم، أو غير ذلك؛ تقول المنظمة إن هذه الأزمة قد تُفقد العالم إجمالي ساعات عمل تعادل نحو 160 مليون وظيفة بدوام كامل.

ليس هذا فحسب، فبجانب ذلك ترى المنظمة أن إجراءات الإغلاق الاقتصادي الهادفة لمحاصرة كورونا، أصبحت تمثل تهديدًا لمصير 1.6 مليار عامل بالاقتصاد غير الرسمي حول العالم؛ وهذا الرقم يعادل نحو نصف القوى العاملة العالمية، التي تمثل نحو 3 مليارات نسمة.

هذه التطورات المثيرة، تدفع إلى التفكير في مستقبل العمل برمته، وما إذا كانت أزمة كورونا ستتسبب في نهايته، وما إذا كانت ستدفع نحو تحقيق نبوءات بعض الفلاسفة والمنظرين، الذين تنبؤوا بذلك بالفعل، وإن كان لأسباب أخرى، مثل "جريمي ريفكن"، في كتابه "نهاية العمل". وهو إن كان قد طرح ذلك التنبؤ في عام 1995 لدى بزوغ فجر الطفرة التكنولوجية قائلًا: "إن التكنولوجيا ستُفضي -تدريجيًّا- إلى اختفاء اليد العاملة البشريّة"؛ لكن نتيجة تنبؤه كانت مشابهة، لما قد تكون الأزمة الحالية متجهة إليه، عندما قال: "يجب علينا أن نتوقّع انتشار البطالة والعوز"، وطالب بالاستعداد لذلك عن طريق "الاستثمار الضخم في الاقتصاد الاجتماعيّ، والتحلّي بالأمل في ظهور مجتمع أقل تعلّقًا بالتجارة والبيع، وأكثر تضامنًا". فهل تُحقق أزمة كورونا مثل تلك التنبؤات، ولكن بأدوات أخرى، لتقود العمل إلى النهاية ذاتها، وهل تترك ملايين البشر في عوز وحاجة وفقر؟

اختفاء المكاتب:

وضعت أزمة كورونا، من خلال ما فرضته من أساليب للإغلاق الاقتصادي، والتباعد الاجتماعي، نحو 2.6 مليار نسمة حول العالم في العزل المنزلي، وهذا العدد يفوق إجمالي سكان العالم في عام 1940، الذي بلغ 2.3 مليار نسمة. ويُعتبر إجبار البشر على التنازل عن حرياتهم في التنقل -بهذه الطريقة- هو أحد أهم قنوات ومحفزات التغيير التي فرضتها الأزمة، وهذه القنوات المحفزات هي التي تقود التحول الثاني المتعلق بالعمل في السياق الذي نحن بصدده. وقد يكون لهذا التحول تأثير يصل إلى مستويات تأثير اختراع الطباعة وآلة الاحتراق الداخلي والتلغراف والإنترنت وغيرها من الاختراعات التي غيرت أساليب الحياة كليًّا.

فببقاء البشر في المنازل، أصبحوا مجبرين على ممارسة أنشطة حياتهم اليومية من دون الانتقال إلى المواقع الطبيعية المخصصة لذلك، وفي هذا الإطار يأتي العمل أيضًا، حيث أصبح معظم البشر مجبرين على القيام بمهام وظائفهم من بيوتهم، ومن دون أن ينتقلوا إلى المكاتب، في إطار ما يُعرف بـ"العمل عن بعد". وبرغم أن مصطلح "العمل عن بعد" عرفناه منذ زمن طويل، لكنه ظل طوال ذلك الزمن استثناءً؛ لكن يبدو أن أزمة كورونا في طريقها إلى جعله قاعدة، وجعل الذهاب إلى المكاتب هو الاستثناء. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال آخر ألا وهو: هل تتسبب أزمة كورونا في اختفاء المكاتب؟.

يمكن القول -في هذا الموضع- إن الأزمة الراهنة كشفت جوانب لم ينتبه إليها البشر من قبل في أساليب أداء العمل، وقد يكون ذلك هو الأمر الحاكم في سياق هذا التحول في المستقبل. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى استقصاء نفذته قناة "سي إن بي سي" الإخبارية الأمريكية، لتقصي رأي عدد من مديري الشركات والبنوك الكبار حول العالم، حيث خرجت النتائج جميعها تؤكّد أن "العمل من المنزل" قد يكون هو "الوضع الطبيعي الجديد" لكثيرٍ من الموظفين والمديرين كذلك. كما أن شركات كبرى مثل "مونديليز" و"نيشن-وايد" وبنوكًا كبرى مثل "مورغان ستانلي" و"باركليز"، باتت تفكر جديًّا بانتقال دائم للعمل من المنزل، بما يقابله ذلك من تقليص لمساحات المكاتب.

فقد قال المدير التنفيذي بشركة "مونديليز" للأغذية إن "الشركة تقوم ببعض التعديلات التي ستجعل مهمتها أسهل بمواجهة أي أزمة، وقد لا نحتاج لجميع المكاتب التي نمتلكها حول العالم حاليًّا؛ لذا هناك جهد كبير يُبذل لارتباط الأمر بتكاليف العمل". كما قال المدير التنفيذي لبنك باركليز: "إن وضع الموظفين في مبنى المكاتب معًا قد لا يحصل أبدًا مرةً أخرى. ستكون هناك تعديلات طويلة الأمد على كيفية تفكيرنا باستراتيجية الموقع، وقد تكون فكرة وضع 7000 شخص في مبنى أمرًا من الماضي". وفي بنك "مورغان ستانلي" قال المدير التنفيذي إن "البنك سيحتاج إلى عقارات أقل بكثير لإتمام عملها مستقبلًا، وذكر أنه منذ احتدام أزمة كورونا، بات 90% من موظفي البنك يعملون من منازلهم".

وفي خطوة أكثر تقدمًا في الاتجاه ذاته، أعلنت شركة "نيشن-وايد" الأمريكية للتأمين بالفعل الانتقال الدائم لـ"نموذج عمل هجين"، حيث ستباشر الشركة عملها في أربعة مكاتب رئيسية في كل من ولايات: أوهايو، وأيوا، وأريزونا، وتكساس، بينما سيتابع بقية الموظفين عملهم من بيوتهم في معظم مواقع الشركة.

وقد تُمثل هذه النتائج صيدًا ثمينًا للشركات والمؤسسات الخاصة حول العالم، والتي ترغب بتخفيض إنفاقها، سواء لتعظيم الأرباح أو حتى تحسبًا لأي أزمات مالية داخلية لديها، أو أزمات عالمية مماثلة للأزمة الراهنة، كما قد تنساق وراءها مؤسسات حكومية حول العالم أيضًا.

لكن لا بد من الإشارة إلى أن هذا التحول الذي يبدو براقًا للوهلة الأولى؛ قد تكون له تبعاته الاقتصادية السلبية التي لا يمكن إغفالها، بما قد يتسبب في تفاقم التحول الأول، والمتعلق بفقدان المزيد من الوظائف، لا سيما وأن الانخراط في ذلك التوجه بشكل غير محسوب سيدفع إلى تقليص الكثير من أحجام الأعمال في تلك الشركات، كما أن آثاره السلبية تمتد لقطاعات عديدة كالقطاع العقاري، الذي سيفقد كثيرًا من الطلب على العقارات التجارية، وقد يتفاقم الأمر ليتحول إلى أزمات عقارية جديدة في بعض الدول. ويتزامن ذلك مع تأثر العديد من الصناعات المرتبطة بقطاع الأعمال، كالخدمات اللوجستية، والخدمات العمومية، وخدمات الصيانة والأمن، وصناعة الأدوات والأجهزة المكتبية وغيرها، وكل ذلك يصب في اتجاه فقدان المزيد من الوظائف.

ختاماً فإن كان للعمل عن بعد مزايا، كونه يقلص تكاليف الشركات، وبالتالي يضمن لها المزيد من الأرباح، ويُساعد -في الوقت ذاته- على تقليص استهلاك الطاقة، وما يرتبط بذلك من إيجابيات على البيئة؛ إلا أنّ الاستفادة من هذه المزايا لا بد أن تُدار بشكل متوازن، وبما يضمن تعظيم الفائدة وتقليل الأضرار قدر الإمكان، من أجل الحد من تفاقم أزمة البطالة العالمية، والحدّ كذلك من تأثيرها المتوقّع على الاقتصاد الكلي، لا سيما في الدول التي تمثل القطاعات المرشحة للتأثر سلبًا بسببها نسبًا كبيرة من ناتجها، وعلى رأسها القطاع العقاري.