أعواد النار:

إشكاليات "حروب المدن" في بؤر الصراعات العربية

01 January 2020


يُتوقع أن يشهد عام 2020 تصاعداً في تحديات "حروب المدن" في عدد من بؤر الصراعات المسلحة العربية، التي تشهد اقتتالاً بين أطرافها المتحاربة، لحسمها لأىٍ منهم، بعد مرور عدة سنوات على نشوب تلك الصراعات، وهو ما ينطبق بشكل خاص على مصراتة في ليبيا وتعز في اليمن وإدلب في سوريا. وتتمثل تلك التحديات في تغيير معادلات إقليمية، وتدمير البنية التحتية والخدمات الأساسية، وتزايد الخسائر البشرية وتفاقم الحالة الإنسانية بعد حصار الوكالات والمنظمات الإغاثية، وتهجير قطاعات سكانية من مناطقها، وتهيئة البنى المجتمعية للسلام، وهو ما يفرض تعقيدات لا أول لها من آخر لتعافي تلك المدن من الصراعات وإعادة الإعمار.

بوصلة الصراعات:

تحظى المدن العربية الثلاث- مصراتة وتعز وإدلب- بأهمية كبيرة في مجريات الصراعات المسلحة داخل دولها، لاعتبارات عديدة، منها كبر الكتلة السكانية التي تعيش بها. فكل من إدلب وتعز تضم حوالي ثلاثة ملايين نسمة، ويعد الفاعلون الرئيسيون بها قوى سياسية وعسكرية وأيديولوجية. إذ تتواجد في إدلب بعض التنظيمات الإرهابية وقوى المعارضة المسلحة الرئيسية وهى "هيئة تحرير الشام" و"الجيش السوري الحر"، وهى آخر معاقلها الرئيسية. كما أنها تتمتع بأهمية استراتيجية لأنها محاذية لتركيا الداعمة لتلك الكيانات المسلحة، ومجاورة أيضاً لمحافظة اللاذقية، معقل الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد.

وتعتبر إدلب وتعز بوابات لدخول المساعدات الإنسانية إلى البلاد، سواء من خلال معابر برية (معبر باب الهوى الحدودي) أو موانئ بحرية (ميناء المخا على البحر الأحمر). وتعد تعز المنطقة الفاصلة بين شمال اليمن وجنوبها، وتشرف على مضيق باب المندب، الذي تمر عبره 22 ألف سفينة سنوياً على الأقل، منها ناقلات نفط، وهو ما يعكس أهمية موقعها وتأثيرها في حركة الملاحة الدولية، بالإضافة إلى وقوعها على ميناء المخا.

عنف المدينة:

تواجه تلك المدن الثلاث داخل بؤر الصراعات المسلحة في الإقليم، وتحديداً في كل من ليبيا واليمن وسوريا، إشكاليات عديدة في سبيل تحريرها من الميلشيات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية التي تسيطر على أجزاء منها، بحيث تطلق عليها مصطلحات مثل "عملية إدلب الكبرى" و"مصير مصراتة" و"تعز مفتاح الحرب والسلام في اليمن"، على نحو ما تعكسه النقاط التالية:

جغرافيا متحركة:

1-تغيير المعادلات الإقليمية: لاتزال قوات النظام السوري المدعومة من الطيران الروسي تواصل ضرباتها الجوية في مناطق متفرقة من إدلب، حتى نهاية ديسمبر 2019. إذ يريد الجيش النظامي السوري السيطرة الكاملة على المدينة. لذا، أكد الرئيس بشار الأسد، في زيارة خلال أكتوبر 2019 هى الأولى له للمحافظة منذ اندلاع الصراع في عام 2011، على أن "معركة إدلب هى الأساس لحسم الحرب في سوريا". كما أشار وزير الخارجية السوري وليد المعلم، خلال حوار مع قناة "آر تي" في 24 ديسمبر الفائت، إلى "فشل التفاهمات الروسية-التركية حول إدلب"، لافتاً النظر إلى أن "الخيار العسكري بات البديل المطروح لها".

ويعكس ذلك رغبة النظام السوري في تجاوز صيغة التفاهم بين روسيا وتركيا التي تم التوصل إليها في سبتمبر 2018 حينما منحت الأولى مهلة للثانية لتنفيذ بندين: أولهما فتح الطريقين الرئيسيين بين اللاذقية وحلب، وثانيهما إخلاء المنطقة الآمنة من الإرهابيين وسلاحهم الثقيل، مع الأخذ في الاعتبار أن قرار الحسم العسكري تم اتخاذه بعد رفض الجماعات المتطرفة الانسحاب من المناطق التي تم الاتفاق عليها مع الجانب التركي.

ويتزامن مع ذلك تقدم بري لقوات الجيش النظامي السوري، ويتركز التصعيد العسكري في المرحلة الحالية على مدينة معرة النعمان ومحيطها شمال مدينة خان شيخون. غير أن ذلك قد يؤدي إلى تغيير موازين القوى المنخرطة في تفاعلات الصراع السوري، لغير صالح تركيا، ويجعل مصالحها مرهونة بزيادة مساحات التنسيق مع موسكو ودمشق، لاسيما أن أحد شواغلها الرئيسية هو مواجهة الأكراد وليس فتح جبهة جديدة ضد نظام الأسد وموسكو، خاصة أن التصريحات الروسية الأخيرة تشير إلى أن موسكو ستواصل العمل لبسط سيطرة الحكومة السورية على كل أراضيها.

وفي هذا السياق، أكد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، خلال اجتماع مع قادة الوحدات التركية المتمركزة على حدود سوريا في مدينة هطاي في 29 ديسمبر الفائت، على أن "بلاده لن تخلي بأى شكل من الأشكال نقاط مراقبتها العسكرية الاثنتى عشرة بمنطقة خفض التصعيد في إدلب شمال غربى سوريا، لضمان وقف إطلاق النار، وإنها لن تخرج من هناك"، الأمر الذي يفسر قيام تركيا بتعزيز نقاط المراقبة. فهناك مخاوف لدى أنقرة من أن تقدم قوات الجيش النظامي السوري سيؤدي إلى إضعاف موقفها في معادلة الصراع السوري. ومع استعادة إدلب، ستكون قوات الجيش السوري قد أمَّنت حلب وحماه واللاذقية، ما سيترتب عليه عودة ملايين من اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

الأرض المحروقة:

2-تدمير البنية التحتية: تؤدي المواجهات الميدانية المباشرة بين الأطراف المتحاربة في بؤر الصراعات العربية إلى عمليات تدمير كلي للمناطق التي تندلع فيها، فيما يطلق عليه في الأدبيات سياسة "الأرض المحروقة"، وهو ما تفعله قوات الجيش النظامي السوري والقوات الروسية في إدلب. ويرى الجيش النظامي السوري، مثلاً، أن التعامل مع تهديدات "هيئة تحرير الشام" يستلزم صياغة المقاربة العسكرية التي ترمي إلى تشجيع وإجبار مكونات "الهيئة" على الانقسام والتفكك، وهو ما تدعمه موسكو، لاسيما أنه يحسم المعركة في مواجهة التنظيمات المتطرفة.

وقد نددت الأمم المتحدة، في 18 ديسمبر الفائت، بـ"تصاعد وتيرة الأعمال القتالية في إدلب، وخاصة القصف الجوي والتقارير عن استخدام البراميل المتفجرة، التي تسببت بمقتل عشرات المدنيين، بينهم نساء وأطفال"، مشيرة إلى أنه "رغم التأكيدات المتكررة بأن الأطراف المقاتلين يقصفون أهدافاً عسكرية مشروعة فقط، تستمر الهجمات على المرافق الصحية والتعليمية". ودعت نجاة رشدي المستشارة الإنسانية لمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا إلى وقف فوري للتصعيد، وحثت الأطراف جميعاً "على احترام التزاماتهم بموجب القانون الدولي، بما في ذلك الالتزام بضمان حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية".

استهداف المدنيين:

3-تزايد الخسائر البشرية: يتمثل أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الجيش الوطني الليبي في سياق معركة الحسم الرامية إلى تحرير العاصمة طرابلس من الميلشيات المسلحة المتطرفة والتنظيمات الإرهابية الخطرة، في التخوف من الخسائر البشرية. وفي هذا السياق، قال اللواء أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، وفقاً لما نقلته قناة "العربية" في 27 ديسمبر 2019: "إن قوات النخبة تستعد لدخول معركة الأحياء الرئيسية في طرابلس"، لاسيما أن هناك هدفاً للجيش الليبي يتعلق بمحاولة تحييد المناطق السكنية بمدينة مصراتة معقل الميلشيات المسلحة الموالية لحكومة الوفاق.

ولعل ذلك هو الذي يفسر إمهال الجيش الليبي، في 20 ديسمبر الفائت، ميلشيات مصراتة ثلاثة أيام للانسحاب من طرابلس وسرت، فضلاً عن منحها ثلاثة أيام أخرى، حتى لا يتواصل استهدافها يومياً دون انقطاع وبشكل مكثف، مع الاحتفاظ بحق استهداف أى معدات جديدة يتم نقلها لمصراتة وتخزينها فيها، وهو ما تزامن مع استعجال أنقرة إرسال مقاتلين موالين لها إلى الميلشيات الداعمة لحكومة الوفاق التي يقودها فايز السراج. ولعل إصرار التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة على السيطرة على إدلب هو الذي يزيد من الخسائر البشرية أيضاً.

ديموغرافيا متحولة:

4-تهجير قطاعات سكانية: فر آلاف من السكان القاطنين في مدينة إدلب إلى مناطق على الحدود مع تركيا طلباً للأمان النسبي، حيث تشير عدة وسائل إعلامية، نقلاً عن شهود عيان، إلى أن كثيراً من القرى أصبحت مهجورة أو بلدات أشباح، مستندة في هذا السياق إلى تقديرات صادرة عن الأمم المتحدة تكشف عن نزوح أكثر من 235 ألف شخص- أغلبهم من النساء والأطفال- بين 12 و25 ديسمبر الفائت من جنوب إدلب.

وعلى الجانب المقابل، تضغط تركيا للتوصل إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار. كما كرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحات إعلامية مختلفة وآخرها في 19 ديسمبر الفائت، أن "بلاده لن يكون بمقدورها تحمل موجة جديدة من اللاجئين السوريين". وقد حذر وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في 29 من الشهر نفسه، من أن "استمرار الهجمات على المنطقة سيؤدي إلى حدوث موجة هجرة كبيرة، وسيكون العبء الإضافي كبيراً على تركيا التي تستضيف نحو 4 ملايين من السوريين" حسب تصريحاته.

كما تشهد مدينة تعز اليمنية المحاصرة من ميلشيا المتمردين الحوثيين، على مدى السنوات الخمس الماضية، موجة نزوح جديدة باتجاه الخوخة الساحلية، لاسيما بسبب التصعيد العسكري الحوثي ضد أحياء سكنية ومستشفيات ومدارس وأسواق مزدحمة بالقذائف المدفعية والأسلحة الثقيلة. هذا بخلاف التعرض لمخاطر الألغام "غير المرئية". ولعل ما يعكس أهمية تعز أن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث أشار، في معرض بيانه الذي أدلى به أمام مجلس الأمن في 17 أكتوبر 2019 عن عملية السلام في اليمن، إلى أهمية "إحلال السلام في مدينة تعز المحاصرة حالياً".

وعلى الرغم من حدة المآسي الإنسانية التي تتعرض لها مدينة تعز، إلا أنها لم تحظ باهتمام المنظمات الدولية. فعلى سبيل المثال، قضى اتفاق استوكهولم، الذي تم التوصل إليه منذ ما يزيد عن عام، بإنشاء لجنة مشتركة للتفاهمات بشأن تعز، ولكنه لم يحدد أى تفاصيل حول آلية عمل اللجنة وكان تمثيلها قاصراً على شخصيات محدودة لا تمثل جميع مكونات تعز السياسية والاجتماعية خاصة الشباب والنساء والمجتمع المدني. وعلى الرغم من مرور عام على إنشاء تلك اللجنة، إلا أنها لم تعقد اجتماعاً واحداً حتى بداية عام 2020.

حاجز الثقة:

5-تهيئة البنى المجتمعية للسلام: يعد تعزيز أبعاد الثقة بين الأطراف المتصارعة من أبرز الصعوبات التي تواجه تحرير تلك المدن. وفي هذا السياق، يمكن القول إن هناك عقبات بالغة لتحقيق ذلك من جانب الفاعلين المسيطرين على تلك المدن رغم وجود قنوات تواصل بينهم في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، حدث تبادل للأسرى بين طرفى الصراع في تعز باليمن، وفقاً لما تم الإعلان عنه في 19 ديسمبر الفائت. إذ نجحت وساطة محلية وقبلية في الإفراج عن 75 معتقلاً مدنياً من جانب الحكومة الشرعية مقابل 60 أسير حرب من الجانب الحوثي.

ملف ضاغط:

خلاصة القول، إن أحد أبرز التحديات التي تواجه التحول من الصراع إلى السلم في بؤر الأزمات المسلحة في الإقليم يتعلق بالتعاطي مع ملف ضاغط كبير وهو "حروب المدن" التي نجم عنها قتل سكان وهدم بيوت وتشريد أسر، ويغلب عليها الاستعصاء في الحسم العسكري لمصلحة أحد الأطراف المتحاربة، وهو ما يضاعف من فاتورة الصراعات من ناحية ويجعلها ذات طبيعة ممتدة من ناحية أخرى. فليست ثمة نهاية للقتال في المدن العربية تلوح في الأفق.