مابعد "الخلافة":

مستقبل الإرهاب في ٢٠٢٠ بعد انهيار "داعش"

23 December 2019


عرض: عبدالله عيسى الشريف - باحث دكتوراه في العلوم السياسية

في أعقاب مقتل "أبو بكر البغدادي" زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي في غارة أمريكية في 27 أكتوبر 2019 في إدلب بشمال غرب سوريا، وإعلان التنظيم في تسجيل صوتي في 31 أكتوبر 2019 تعيين "أبي إبراهيم الهاشمي القرشي" خلفًا للبغدادي؛ بدأت التحليلات والكتابات الغربية تبحث عما يحمله كل ذلك من تداعيات ليس على بقايا التنظيم في سوريا والعراق فحسب، وإنما أيضًا على فروعه الخارجية، وعلى مستقبل الظاهرة الإرهابية بشكل عام.

وفي هذا الإطار، يأتي كتاب "ما بعد الخلافة: تنظيم الدولة الإسلامية ومستقبل الشتات الإرهابي" للكاتب "كولن كلارك" (الأستاذ المساعد في جامعة كارنيجي ميلون، وكبير الباحثين في مركز صوفان الاستشاري للشئون الأمنية، والباحث المشارك في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي). يسعى الكتاب لوضع تصور مستقبلي لما يمكن أن تئول إليه الأحداث، وتحديد فرص نجاح التنظيم في التكيف وإعادة تجميع صفوفه بعد السقوط الفعليّ للخلافة المزعومة، وخسارة آخر معاقله في باغوز السورية في مارس 2019. 

وقد ضم الكتاب خمسة فصول، استعرض المؤلف خلالها تقييم مسيرة تنظيم "داعش"، وجذوره وتطوره وانتكاساته، ونظامه الداخلي، وما عبّر عنه بـ"الشتات الإرهابي" القادم، والتحول من استراتيجية التوسع إلى استراتيجية البقاء والاستمرار.

ويقدم الكتاب عرضًا عامًّا للظاهرة الإرهابية بأسرها، من حيث الجوانب العقائدية والتكتيكات، إلى قضايا التطرف والمقاتلين الأجانب العائدين إلى بلدانهم الأصلية.

عدو عالمي جديد

ينطلق "كلارك" من فرضية أن تجربة "الخلافة" في تنظيم "داعش" تمثل ذروة تطور غير مألوفة في نشاط التنظيمات الإرهابية العالمية، وتعد ظاهرة مبتكرة من جوانب عدة. فهي بمثابة ظاهرة ذات أبعاد فكرية ومادية من خلال ما تبنته من أفكار وأيديولوجيات مُتطرفة، انعكست على الشق المادي باستباحة الدماء والحُرمات والأوطان والحدود. وقد تحولت من فكرة إلى واقع ملموس؛ إذ لم يعد على الإرهابيين أن يستندوا إلى ماضٍ تاريخي مثالي للخلافة الأصلية، بل يمكنهم أن يستندوا إلى أن ثمة "خلافة حديثة" مزعومة قد تحققت في الذاكرة الحيّة للجميع، وستظل مُتوقدة لعقود مقبلة.

ويشير الكاتب إلى أن محاولة تنظيم داعش إقامة خلافته المزعومة في سوريا والعراق سيظل مصدرًا للإلهام لفترة طويلة في المستقبل، مما يعني أن بإمكان الإرهابيين أن يحفزوا عناصرهم وقواتهم على مواصلة أنشطتهم استنادًا إلى إمكانية تحقيق الخلافة المزعومة وسردية التنظيم.

يحاول "كلارك" تعريف ماهية الظاهرة الإرهابية، عبر عدّة أسئلة حول أصولها وتطورها، وأيديولوجيتها، واستراتيجيتها وأهدافها، فضلًا عن هيكلها. وفي هذا الصدد، يشير إلى فتوى "عبدالله عزام" (من أوائل منظري الإرهاب والأب الروحي للجهاد الأفغاني) التي تحمل عنوان "في شأن الدفاع عن الأراضي الإسلامية"، التي صدرت في عام 1984، والتي كانت بمنزلة حجر الزاوية الأيديولوجي للنزعة الإرهابية الحديثة.

وحدة الأفكار وتباين المسارات

يتساءل الكاتب حول ماهية تنظيم "القاعدة" في شكله الحالي: هل هو منظمة؟ أم حركة؟ أم أيديولوجيا؟ ويُفرق بين "القاعدة" كتنظيم مركزي، والتنظيمات المرتبطة بالقاعدة، والأفرع المحلية لها، وشبكة القاعدة. ويتطرق لأوجه الاختلاف بين تنظيمي "القاعدة" و"داعش".

ويخلص إلى أن تنظيم "القاعدة" يختلف اختلافًا كبيرًا عن تنظيم "داعش"، عبر العديد من الفروق الجوهرية، على النحو التالي:

• الهيراركية الصارمة: يشير "كلارك" إلى أنه في حين كانت القيادة المركزية للقاعدة تضم هيكلًا تنظيميًّا شديد البيروقراطية، وله العديد من اللجان والإجراءات، فإن فروعها والأفراد الملهمين كانوا يتصرفون في كثيرٍ من الأحيان باستقلالية عملياتية كبيرة. 

ويرتبط هذا أيضًا بمفهوم "الجهاد بلا قائد"، الذي شرحه مُنظّر "القاعدة" "أبو مصعب السوري". فتنظيم "القاعدة" كان -من نواحٍ كثيرة- فكرة أكثر منها تنظيمًا، في ضوء حرص العناصر التي تنتمي لتلك الفروع على عدم الاتصال بشكل مباشر بالتنظيم الرئيسي، حيث لا يوجد، في الغالب، أي رابط تنظيمي بين الطرفين. وينطوي التنظيم على نوع من المفارقة، حيث "يخضع لإشراف مُحْكَم في القمة وانتشار رخو في القاعدة". وذلك على خلاف تنظيم "داعش" الذي تبنى منذ البداية هيكلًا تنظيميًا صارمًا من القيادة العليا إلى الصفوف الدنيا عبر سلسلة من الإجراءات البيروقراطية الشديدة.

• خلفيات الإرهابيين: حيث يرى المؤلف أن خلفية مجندي "داعش" تختلف كُليًّا عن مقاتلي تنظيم "القاعدة". فقد استقطب "داعش" ما يقرب من 43,000 مقاتل أجنبي من أكثر من 120 دولة، ومع ذلك، ووفقًا لوثائقه، اعتبر التنظيم أن 5% فقط من المجندين الوافدين لديهم معرفة مُتعمقة بالإسلام، في حين وصف 70% منهم بأنهم لا يملكون سوى فهم "أساسي" للدين. 

ويشير "كلارك" إلى النقاش الدائر بين الباحثين حول طبيعة المجندين في "داعش"، بمن فيهم الباحث البلجيكي "ريك كولسيت" الذي يرى أن "الانضمام إلى داعش هو مجرد تحول إلى شكل آخر من أشكال السلوك المنحرف، يأتي مباشرة بعد الانتماء إلى عصابات الشوارع، وأعمال الشغب، والاتجار بالمخدرات، وجنوح الأحداث". وكان هذا أيضًا موضوع نقاش مستمر بين اثنين من الباحثين الفرنسيين في الدين الإسلامي، وهما "جيل كيبل" و"أوليفييه روي".

• الاختلاف التكتيكي: يرى المؤلف أن دوافع هذه التنظيمات العنيفة ذات التطلعات العالمية، وأهدافها وهياكلها التنظيمية وأساليب عملها، واستراتيجيات التعامل والقواعد الحاكمة لتحرك تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، تختلف جذريًّا فيما يتعلق بالعنف والتكتيكات. حيث حاول زعيم تنظيم "القاعدة" "أيمن الظواهري"، أن يتعلم الدرس من أحداث 11 سبتمبر، وأصبح الآن أكثر تمييزًا في الاستهداف، في حين لا يمكن قول الشيء نفسه عن تنظيم "داعش". ويرى الكتاب أنه في حين أن نهج "القاعدة" يهدف إلى "كسب القلوب والعقول"، يهدف "داعش" إلى "قطع الرقاب".

تمويل احتياطي

يرى المؤلف أنه على الرغم من خسارة مناطق خلافته وما ارتبط بها من مصادر دخل مربحة، لا يزال تنظيم "داعش" يتمتع بموارد جيدة، فحجم ما حققه "داعش" يُعتبر أمرًا صادمًا؛ حيث حقق في ذروة سيطرته الميدانية عام 2015، وفرة مالية تجاوزت 6 مليارات دولار، عبر ثلاثةِ مصادر رئيسية هي: النفط والغاز، وهما اللذان وفّرا له قرابة 500 مليون دولار، من خلال مبيعات محلية بالأساس، والضرائب والابتزاز، وهما اللذان وفَّرا قرابة 360 مليون دولار، ونهب الموصل في عام 2014، حيث سرق التنظيم خلال تلك العملية ما يناهز 500 مليون دولار من خزائن البنوك، بالإضافة إلى إيراداتٍ أخرى.

وفي ذروة انتشاره الجغرافي، سيطر "داعش" على أكثر من 100,000 كلم مربع من الأراضي التي يقطنها أكثر من 11 مليون شخص، معظمها في العراق وسوريا. ويزعم المؤلف أن قيادات التنظيم هرّبت قرابة 400 مليون دولار من الأراضي التي كانت تخضع لسيطرتها. وبالتالي، فإن لدى "داعش" القدرة على الصعود مرة أخرى في شكل سيناريو "تمرد". فكسر سيطرة "داعش" على الأرض هو الجزء السهل، والأصعب من ذلك هو أن "داعش" فكرة وأيديولوجيا ووجهة نظر عالمية لم تنتهِ بعد. ويؤكد المؤلف على أنه "قد ذهبت الأرض المادية للخليفة، لكن رسائله الأساسية وأفكاره وسرده قد تم زرعها بالفعل في أعداد لا حصر لها".

إعادة التموضع

يحلل "كلارك" مستقبل الحركة الإرهابية العالمية عبر ساحات القتال الجديدة، سواء بالانضمام لحروب أهلية قائمة، أو نشوء ملاذات آمنة ومحمية بديلة، بما في ذلك ليبيا، وأفغانستان، وجنوب شرق آسيا، وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. 

ويخلص إلى أن تجربة التنظيم في سوريا والعراق لا يمكن تكرارها في مكان آخر، فالظروف التي جعلت الخلافة ممكنة من خلال دول فاشلة ذات احتياطيات نفطية ضخمة، وهيمنة عربية ولا سيما عراقية على عناصر التنظيم، وتحالف مع القبائل السنية من الأنبار، والدور الحاسم للبعثيين السابقين، وإرث المؤسس "أبو مصعب الزرقاوي"، والطبيعة الجغرافية السهلة لسوريا، والحدود التي يسهل اختراقها، التي سمحت بتدفق المقاتلين الأجانب؛ كلها ظروف فريدة من نوعها، خاصة في تضافرها وتزامنها معًا. لكن ذلك لن يقف حائلًا أمام السعي الحثيث لشن هجمات تُلهم مجندين جددًا، بشكل أكثر خطورة وتحديًا بالنسبة لقوات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم.

ويشير الكاتب إلى أن عناصر تنظيم "داعش" وأتباعه ومجنّديه المحتملين ينجذبون إليه لمجموعة من الأسباب التي تختلف باختلاف الأشخاص، من الهروب من المظالم المحلية، التي يقابلها تنظيم "داعش" بحس الانتماء والتمكين، إلى الإيمان بقيام دولة خلافة مزعومة تحكمها الشريعة الإسلامية. وهو الأمر الذي يُثبت استمرار قابلية التنظيم على البقاء والمرونة والتعايش مع مختلف المعطيات، وأن مخزن مجنّديه وزعمائه المستقبليين قائم وملموس من خلال قيادة عملياتية محلية فاعلة، على الأرض في العراق وسوريا وفي جميع أنحاء العالم على حد سواء، حيث لا تزال عمليات التنظيم جارية في "ولاياته" النائية. 

ويضيف الكاتب أن التنظيم لا يزال ينعم بالتمويل الكافي، الذي، إلى جانب استمرار أيديولوجيته المتطرفة، يجعله خطرًا إرهابيًّا دائمًا في شكل هجمات الذئاب المُنفردة.

وختامًا، يطرح المؤلف ثلاثةَ سيناريوهات مستقبلية للعلاقة المحتملة بين القوتين الإرهابيتين الرئيستين (تنظيم القاعدة، وداعش). الأول أن يستمر الوضع الراهن على ما هو عليه، حيث تتواصل حالة الصراع بين داعش والقاعدة، ومع ذلك يظل كل منهما قائمًا. الثاني أن تحدث عملية مزايدة، حيث يتم تدمير هذا أو ذاك. الثالث أن يحدث تقاربٌ بين الاثنين، الأمر الذي يعتبره "كلارك" أمرًا غير وارد، دون نفي إمكانية التعاون التكتيكي بين التنظيمين، فأي تعاون من هذا القبيل من شأنه أن يكون على المستوى التكتيكي وليس على المستوى الأيديولوجي.

بيانات الكتاب: 

Colin P. Clarke, After the Caliphate: The Islamic State & the Future Terrorist Diaspora, (Cambridge: Polity Press, 2019).