بدائل متناقضة:

كيف صعّدت سياسات تركيا أزماتها الخارجية؟

17 April 2019


ربما لم تواجه تركيا هذا الكم من الأزمات الخارجية في أى مرحلة مضت مثلما تبدو في المرحلة الحالية، وهو ما يعود، في قسم منه، إلى محاولاتها تبني خيارات متناقضة في وقت واحد. ورغم أنها تسعى عبر ذلك إلى توسيع هامش المناورة وحرية الحركة المتاح أمامها للتعامل مع الأطراف الأخرى المعنية بأزمات المنطقة والمنخرطة فيها، إلا أنه يفرض، في بعض الأحيان، مواقف مرتبكة وسياسات متناقضة، على نحو يؤدي إلى تصعيد حدة الضغوط الخارجية التي تواجهها في هذه المرحلة.

اعتبارات عديدة:

يمكن تفسير أسباب اتساع نطاق الأزمات الإقليمية والدولية التي تواجهها تركيا خلال المرحلة الحالية في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في: 

1- الجمع بين الأضداد: وهى سياسة حاولت تركيا تبنيها في أكثر من ملف إقليمي، وكان أبرزها الملف السوري. إذ حاولت تركيا أن تواصل تفاهماتها الأمنية والسياسية مع كل من روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية من جهة أخرى.

بل إنها ورغم معارضتها الظاهرة للنظام السوري، ألمحت أكثر من مرة إلى إمكانية فتح قنوات مع الأخير، حيث وضعت شروطًا بدت أقل حدة مقارنة بما كانت تتبناه في بداية تصاعد حدة الأزمة السورية في مارس 2011. 

وقد بدت تلك السياسة جلية في انخراط أنقرة في محادثات الآستانة مع كل من روسيا وإيران، وحرصها على التنسيق العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالتطورات السياسية والميدانية في الشمال السوري. إلا أنها لم تحقق نتائج بارزة في هذا السياق.

إذ بدا أن توازنات القوى في سوريا تميل لصالح النظام السوري وحلفائه، على نحو انعكس في تزايد مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الأخير إلى 60% من المساحة الإجمالية لسوريا، مقابل 30% للميليشيات الكردية و10% للفصائل التي تدعمها تركيا، وفقًا لبعض التقديرات.

كما لم تتراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن مواصلة دعمها للميليشيات الكردية في شمال سوريا رغم المحاولات التي تبذلها أنقرة في هذا السياق، حيث تعتبر الأخيرة هذا الدعم يمثل تهديدًا لأمنها ومصالحها. ومع أن واشنطن ألمحت إلى إمكانية إبعاد الميليشيات الكردية عن الحدود السورية-التركية، حيث قال كبير مستشاري العمليات في سوريا لدى وزارة الخارجية الأمريكية العقيد المتقاعد ريتش أوتزين، في 16 إبريل 2019، أن "تطبيق المنطقة الآمنة في شمال سوريا بشكل صحيح يمكن أن يؤدي إلى إبعاد الميليشيات الكردية عن الحدود وإبعاد السلاح الثقيل"، إلا أن ذلك لن يقلص، على الأرجح، من حدة القلق التي تنتاب أنقرة من استمرار هذا الدعم.

ومن دون شك، فإن ذلك يعود إلى أن أنقرة ترى أن المشكلة لا تكمن فقط في مواصلة هذا الدعم وإنما في مستواه، الذي ترى أنه يفوق الأغراض الأساسية منه والتي تتمثل في محاربة التنظيمات الإرهابية، فضلاً عن أن مواصلته بهذا المستوى لا يتوافق، في رؤيتها، مع المعطيات التي تفرضها التطورات الميدانية على الأرض، والتي تشير إلى تراجع تهديد تنظيم "داعش" بسبب الهزائم العسكرية التي تعرض لها، رغم وجود تحذيرات من احتمال إقدامه على استخدام خلاياه "النائمة" في تنفيذ عمليات إرهابية جديدة في المناطق التي كان يسيطر عليها في السابق. 

2- الخيارات الصعبة: تسعى أنقرة، في أحيان عديدة، إلى تبني خيارات متناقضة للخروج بأكبر قدر من المكاسب الاستراتيجية، إلا أنها تواجه ضغوطًا مقابلة من جانب الأطراف الأخرى المنخرطة في تفاعلات ثنائية معها حول بعض الملفات التي تحظى باهتمام مشترك من جانبها.

وقد انعكس ذلك في محاولاتها استخدام صفقتها مع روسيا لشراء منظومة صواريخ "إس 400"، وربما التهديد بشراء مقاتلات "سو 57"، لممارسة ضغوط على واشنطن فيما يتعلق بصفقة شراء مقاتلات "إف 35" والدعم المقدم للميليشيات الكردية.

إذ بدا أن الأخيرة حرصت بدورها على توجيه رسائل مضادة بأنها يمكن أن تفرض إجراءات عقابية في حالة ما إذا اتخذت أنقرة مزيدًا من الخطوات في هذا السياق.

فبالتوازي مع انعقاد المؤتمر السنوي السابع والثلاثين للعلاقات التركية –الأمريكية في واشنطن، في 15 إبريل الجاري، بدأ بعض المشرعين بالكونجرس في إعداد مشروع يمكن أن يصل إلى حد المطالبة بوقف صفقة تسليم تركيا مقاتلات "إف 35" ومنعها من المطالبة بالتعويض، باعتبار أنها، وفقًا لرؤية هؤلاء المشرعين، خالفت شروط عقد المشاركة في برنامج إنتاج الطائرة.

واللافت هنا، أن هذه المحاولات التركية قد تدفع موسكو بدورها إلى إبداء مواقف حذرة تجاه الصفقات التي يمكن أن تبرمها مع أنقرة خلال المرحلة القادمة، رغم استمرار التفاهمات القائمة بين الطرفين حول الملف السوري تحديدًا، ورغم حرص المسئولين الأتراك وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان على الإشارة إلى أن "صفقة إس 400 مسألة منتهية".

3- الانخراط في خلافات جديدة: ويأتي في مقدمتها التصعيد المتواصل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والذي بدأ مع انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي بالتوازي مع إعادة فرض عقوبات أمريكية على طهران، وانتهى بقرار تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية أجنبية. 

وهنا، فإن هذا التصعيد قد يضيف ملفًا جديدًا إلى قائمة الملفات الخلافية العالقة بين واشنطن وأنقرة. فمع أن الطرفين حاولا في الفترة الماضية احتواء هذا الخلاف، خاصة بعد أن سمحت الأولى للثانية بالاستمرار في استيراد النفط الإيراني في إطار المهلة التي منحتها لثماني دول مستوردة له، إلا أن هذا الاحتواء قد لا يستمر، وربما يبرز هذا الملف من جديد في مايو القادم، حيث لا تبدي الإدارة الأمريكية استعدادًا، حتى الآن، لتمديد هذه المهلة، رغم أن كل الاحتمالات ما زالت واردة. 

وقد بدأت أنقرة في توجيه إشارات بأنها سوف تتبنى مواقف مغايرة في حالة ما إذا واصلت واشنطن إجراءاتها العقابية ضد طهران، على نحو انعكس في معارضتها لقرار تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية أجنبية، إلا أن إصرار واشنطن على فرض ضغوط أقوى على طهران خلال المرحلة القادمة قد لا يتيح هامشًا واسعًا من حرية الحركة أمام أنقرة. 

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن المعطيات التي تنتجها التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط تفرض خيارات محدودة على تركيا، بشكل سوف يؤثر على اتجاهات سياستها الخارجية خلال المرحلة القادمة.