الجسر الأوراسي:

كيف تفكر روسيا في جغرافيا الطاقة بالشرق الأوسط؟

02 April 2018


عرض: رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية المساعد - جامعة القاهرة

عقب التخلي عن كافة المساعي للانضمام إلى النظام السياسي العالمي الغربي، تسعى روسيا جاهدةً لترسيخ صورةٍ ذاتيةٍ جديدةٍ لها كمركزٍ أوراسي يربط بين أوروبا والصين. وعلى إثر تلك المساعي، بات الشرق الأوسط مركزيًّا في الاستراتيجية الروسية العالمية للمرة الأولى في تاريخها. وفي هذا السياق، تبرز أهمية دراسة "برونو ماسيس" المستشار لدى (London’s Flint Global)، المعنونة: "مغامرة الطاقة الروسية الجديدة"، والمنشورة في دورية (The Cairo Review of Global Affairs)، الصادرة عن كلية الشئون الخارجية والسياسة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

وقد استهل الكاتب دراسته بالاستشهاد بما طرحه "ديمتري ترينين" في كتابه المعنون: "ماذا تفعل روسيا في الشرق الأوسط؟" ليبين كيف كان الأخير هامشيًّا في المصالح الجيوسياسية الروسية تقليديًّا، فقد سبق وتوسعت روسيا جنوبًا صوب البلقان وتركيا، كما امتدت نحو الهند البريطانية، وأفغانستان، وشمال إيران، لكنها لم تتجاوز أيًّا من تلك المناطق إلى ما هو أبعد منها.

انخراط شرق أوسطي:

لم يسبق للاتحاد السوفيتي أو الإمبراطورية الروسية خوض أيّة حرب في المنطقة العربية. ويمكن فهم ذلك في إطار الحروب الروسية في شمال القوقاز، وضد أفغانستان، وآسيا الوسطى. فكافة تلك المغامرات العسكرية -على حد وصف الكاتب- لم تكن تشجع روسيا على العودة إلى قلب العالم الإسلامي. ومن ثمّ، فانخراط روسيا في الحرب الأهلية السورية لم يكن متوقعًا، ولا يمكن فهمه بمعزل عن الكيفية التي تُعزز بها سوريا المصالح الاستراتيجية الروسية.

يُشكل التدخل العسكري الروسي ثورةً في الشئون العالمية، فللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، تُعمِل دولةٌ ما -بخلاف الولايات المتحدة- القوة العسكرية بعيدًا عن حدودها، دون استشارة واشنطن أو إشراكها في اتخاذ القرار. ولكن مع التلكؤ الروسي في التدخل في الحرب الأهلية السورية، بات واضحًا أنها لم تكن راغبةً في إيجاد حلٍّ سياسيٍّ إنسانيٍّ للحرب، بقدر رغبتها في أن تصبح العامل الأكثر أهمية في أي حلٍّ مستقبلي.

ووفقًا للكاتب، يجب النظر في عددٍ من المؤشرات الأولية التي بدأت في الظهور بين عامي 2013 و2015؛ وفي مقدمتها الضغوط التي تعرض لها الاقتصاد الروسي، لا بسبب العقوبات التي فُرضَت في أعقاب الأزمة الأوكرانية، وإنما نتاجًا للانخفاض الشديد في أسعار الطاقة. وعلى الرغم من كونها أحد أكبر منتجي الطاقة، لم تهتم روسيا بتحديد أولويات الجغرافيا السياسية، بعكس الصين التي وإن اعتمدت إلى حدٍّ كبير على تدفقات الطاقة الداخلية، فإنها سعت جاهدةً طيلة عقود لتمديد نفوذها في: (آسيا الوسطى، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية)، لمواجهة كافة الاحتمالات وتنويع إمدادات الطاقة.

وفي نهاية عام 2015، كان خفض الإنفاق العام الروسي بنسبة (10%) أفضل دليل على تزايد الإجهاد الناجم عن العقوبات الدولية، وانخفاض أسعار الطاقة. ولمواجهة التحدي الروسي المباشر، قررت روسيا التوجه صوب الشرق الأوسط الذي أصبح أحد أهم الساحات التي يتحدد على إثرها المستقبل الروسي.

ثلاث مناطق:

تبنت شركة "روسنفت" الروسية في أكتوبر 2017 تقسيم أوراسيا الكبرى (Greater Eurasia) إلى ثلاث مناطق رئيسية تبعًا لمناطق استهلاك الطاقة وإنتاجها؛ بحيث تضم الأولى أوروبا بما في ذلك تركيا، وتشمل الثانية آسيا والمحيط الهادئ بما في ذلك الهند. وبين كلتيهما توجد ثلاث مناطق رئيسية منتجة للطاقة، هي: روسيا-القطب الشمالي، وقزوين، والشرق الأوسط. ومن المثير للاهتمام أن المناطق الثلاث لا تنفصل عن بعضها بعضًا، بل تُعد كتلةً واحدةً متجاورةً جغرافيًّا. 

ووفقًا للكاتب، يتقاطع عددٌ من الصراعات الأكثر تأججًا في العالم المعاصر مع الخط الفاصل بين مناطق إنتاج الطاقة واستهلاكها؛ ومنها :(شرق أوكرانيا، وشمال العراق، وسوريا، وأفغانستان، وكوريا الشمالية). وبطبيعة الحال، لم ينشأ ذلك من فراغ أو في فراغ؛ فقد باتت تلك المناطق "جوائز قيمة" في النضال العالمي على موارد الطاقة. 

يوضح ذلك أحد ملامح الصورة الذاتية الروسية الجديدة؛ فوفقًا لمنظور الجغرافيا السياسية للطاقة، تكافح روسيا للتخلي عن توجهها التقليدي نحو أوروبا، وتأمل في النظر إلى الشرق والغرب لتعزيز مصالحها بمرونة. وهو ما يمكن فهمه في ظل هيمنة الدول الكبرى على منطقتين من المناطق الثلاث السابقة؛ إذ تُسيطر ألمانيا على أوروبا، بينما تُسيطر الصين على منطقتي آسيا والمحيط الهادئ. كما لا يمكن فهمه بمعزلٍ عن ثورة الغاز الصخري الأمريكي، فمع تزايد الإنتاج الأمريكي من النفط والغاز على مدى السنوات العشر الماضية، تغير دور الولايات المتحدة في الجغرافيا السياسية العالمية للطاقة، وتراجعت أهمية الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية.

ومع إحلال العرض المحلي محل الواردات، لم تعد الولايات المتحدة بحاجة للاستثمار في السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. ولا شك في تغير موقفها من الحرب الأهلية السورية عقب ثورة الغاز الصخري؛ مما أتاح بدوره عدة فرصٍ لروسيا، لكنه وفي المقابل، مَكّن الولايات المتحدة من استخدام الطاقة كأداةٍ جيوسياسية، توجه من خلالها تدفقات الطاقة، وتؤثر بها على أسعار السوق، لمكافأة الدول الصديقة ومعاقبة العدوة.

وعززت محاولات استخدام أسواق الطاقة لتوجيه النتائج الجيوسياسية القناعات الروسية بضرورة الهيمنة على أسواق الطاقة العالمية، مما دفعها للتدخل بشكلٍ أكثر فعالية في الشرق الأوسط. ومن هذا المنظور، يمكن فهم اهتمام روسيا المتجدد بالمنطقة في إطار إحكام قبضتها على مناطق إنتاج الطاقة الثلاث تحت قيادتها، مما يُمهد لها الطريق لتشكيل النظام الأوروبي-الآسيوي الجديد. 

ويعتمد النفوذ الروسي في أوروبا والصين على مدى قدرة موسكو على زيادة سيطرتها على إنتاج الطاقة، ومن ذلك الاتفاق الروسي-السعودي في نهاية عام 2016 لتقليل الإنتاج النفطي بشكلٍ جماعي، وإعطاء دفعةٍ لأسعار النفط العالمية. ويُدلل ذلك الاتفاق على قدرة روسيا على التأثير في مختلف قرارات الشرق الأوسط. وفي أقل من عام، حققت الاتفاقية هدفها المتمثل في رفع أسعار النفط إلى مستوى 60 دولارًا للبرميل.

دبلوماسية الطاقة:

يرى الكاتب أن روسيا تسعى للانتشار عبر الشرق الأوسط من خلال سلسلةٍ من الصفقات التي وقعتها في العامين الماضيين؛ حيث تُجري شركة "لوكويل" (Lukoil) العملاقة للنفط والغاز، والتي تعد ثاني أكبر شركة روسية بعد شركة "جازبروم"، مفاوضاتٍ لبدء الإنتاج في حقل (Eridu) المكتشف حديثًا في العراق.

كما أطلقت "جازبروم نفت" (الذراع النفطية لشركة جازبروم) وحداتٍ استكشافية في كردستان العراق، في الوقت الذي تدير فيه حقل (Badra) في جنوب العراق. وبالإضافة إلى ذلك، وقّعت "روسنفت" اتفاقيات تعاون مع كردستان، واشترت حصة تبلغ (30%) من حقل "ظهر" العملاق في مصر.

وأعلنت "روسنفت" سيطرتها على خط النفط الرئيسي في كردستان العراق، مما يزيد من استثماراتها في المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي إلى 3,5 مليارات دولار، على الرغم من العمل العسكري الذي قامت به بغداد نتيجة الاستفتاء الكردي. وقد ساعدت تلك الخطوة على حماية كردستان من الضغوط المتزايدة من قبل بغداد. 

وواصلت الشركة توقيع اتفاقيةٍ تمهيدية مع شركة النفط الوطنية الإيرانية قبيل إبرام اتفاق ملزم للمشاركة في مشاريع النفط والغاز الإيرانية على مدى السنوات القليلة المقبلة، باستثماراتٍ تصل إلى 30 مليار دولار. كما بدأت أربع شركات نفطية روسية بالتفاوض مع سوريا للاستثمار المشترك في مجال الطاقة، وهي "مغامرة" تدفعها الاعتبارات السياسية جنبًا إلى جنب مع مثيلتها التجارية؛ فلا تقتصر الأهداف الروسية على استكشاف واستخراج الاحتياطيات السورية من النفط بطبيعة الحال.

من خلال المشاركة النشطة في إعادة بناء وتشغيل البنية التحتية للنفط والغاز السوري، ستسيطر شركات الطاقة الروسية على طرق عبور النفط والغاز الإيراني والقطري المتجهة إلى أوروبا، مما يقرب اثنين من منتجي الطاقة من المدار الروسي، الأمر الذي يضيق الخناق على إمدادات الغاز الأوروبي.

فقد سبق لقطر وأن اقترحت في عام 2009 إمداد أحد خطوط الغاز الطبيعي عبر سوريا وتركيا إلى أوروبا. وبدلاً من ذلك، وقّع "بشار الأسد" اتفاقيةً مع إيران لبناء الخط من الخليج العربي عبر العراق وسوريا تحت البحر الأبيض المتوسط. وقد تم تأجيل ذلك المشروع بسبب الحرب، وعندما يتم استئنافه ستكون روسيا هي المسيطرة.

وختامًا، يتيح الموقع المركزي الذي تسعى إليه روسيا بين آسيا وأوروبا عدة خيارات بين الشرق والغرب. فقد باتت موسكو والشرق الأوسط جزءًا لا يتجزأ من وحدةٍ جيوسياسية واحدة، وهو الأمر الذي تطلب إعمال الأداة العسكرية الروسية في سوريا للتكيف مع ذلك الواقع الجديد من ناحية، والتواكب مع الجغرافيا السياسية للطاقة من ناحيةٍ أخرى.

المصدر:

Bruno Maçães, "Russia’s New Energy Gamble: Russia Seeks to Position Itself as a Leader among Energy-Producing Equals in Eurasia", The Cairo Review of Global Affairs, No. 28, Winter 2018, pp. 56-63.