مناخات الكراهية:

تحديات مواجهة "جرائم الطعن" في أوروبا بين التسييس والأمننة

17 September 2024


تحظى مواجهة حوادث الطعن باهتمام ملحوظ من قِبل العديد من الحكومات الأوروبية، خاصةً في ظل تصاعد مخاطر هذا النوع من الجرائم وتهديده لأمن هذه الدول. وفي هذا الإطار، أعلنت وزارة الداخلية الألمانية، يوم 9 سبتمبر 2024، عن توسيع نطاق إجراءات المراقبة الحدودية مع جميع الدول التسع المجاورة لألمانيا، في إطار جهود مكافحة الهجرة غير القانونية والتصدي للتهديدات الأمنية بعد سلسلة من الهجمات، ومنها حادثة الطعن في مدينة زولينغن في شهر أغسطس الماضي، التي أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وتبناها تنظيم داعش الإرهابي.

وبالتزامن مع ذلك، أطلق رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، يوم 9 سبتمبر الجاري، ائتلافاً لمنع الشباب من ارتكاب الجرائم بواسطة سكاكين، بعد أن وقعت عدة هجمات بسكاكين في البلاد على مدار الأسابيع الأخيرة، وعى رأسها حادثة طعن ثلاث فتيات في مدينة ساوثبورت في يوليو الماضي.

كما شهدت دول أوروبية أخرى في الفترة الأخيرة حوادث طعن، تنوعت أسبابها ما بين تلك الناجمة عن عنصرية أو تطرف ديني أو جرائم عادية، فضلاً عن ارتكابها من قِبل البعض تحت تأثير الأمراض النفسية والعقلية. ولم تقتصر هذه الحوادث على فئة عمرية محددة، سواء من الجناة أم الضحايا.

حوادث متكررة:

أعلنت الشرطة الألمانية، في 25 أغسطس 2024، بيانات حول هوية الجاني في حادثة الطعن التي جرت بمدينة زولينغن في 23 أغسطس عند الاحتفال بذكرى مرور 650 عاماً على تأسيس المدينة التي يقطنها حوالي 160 ألف نسمة. وحسب المُعلن من الشرطة الألمانية، فقد قُتل ثلاثة من كبار السن وأُصيب ثمانية آخرون، على يد شاب سوري يبلغ من العمر 26 عاماً. ولم ينتهِ شهر أغسطس الماضي حتى شهدت ألمانيا حادثة طعن أخرى يوم 30 من نفس الشهر من قِبل سيدة ألمانية أقدمت على طعن ركاب حافلة في مدينة زيغن غربي البلاد؛ مما أسفر عن إصابة ستة أشخاص، وتصادف أن الحافلة كانت تقل أفراداً للذهاب للاحتفال بذكرى تأسيس مدينة زيغن؛ وهو ما يعني أن حادثتي طعن في ألمانيا في خلال أسبوع واحد تقريباً من جناة مختلفين في الهوية؛ وقعتا لنفس السبب وهو الاحتفال بذكرى تأسيس مدينة. 

ولم تكن مدن ألمانيا وحدها من عانت خلال الأشهر الماضية من حوادث طعن؛ إذ شهدت مدن أخرى في عدة دول وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وفنلندا وسويسرا، حوادث طعن وإن اختلفت وتيرتها وأسبابها. ولعل ذلك ما دفع رئيس الوزراء الحالي، كير ستارمر، لإدراج تلك الأزمة في برنامجه الانتخابي قبل انتخابات يوليو الماضي. كما أطلق ستارمر، يوم 9 سبتمبر الجاري، ائتلافاً لمنع الشباب من ارتكاب الجرائم بواسطة سكاكين، جامعاً بين مجموعات الحملات والأسر والشباب المتضررين من جرائم السكاكين، وهي الطريقة الأكثر شيوعاً للقتل في إنجلترا وويلز. وتسعى الحكومة أيضاً إلى تشديد القوانين المتعلقة ببيع السكاكين عبر الإنترنت وحصول الشباب عليها.

ويمكن عرض أبرز حوادث الطعن في دول أوروبا وأسبابها خلال العام الجاري وحتى نهاية أغسطس الماضي في الجدول التالي:


وثمة عدة ملاحظات على هذا الجدول، ومنها ما يلي:

1- تُعد بريطانيا من أعلى الدول الأوروبية في حوادث الطعن على مدار العام الحالي، واللافت أن الحوادث التي وقعت في شهري يوليو وأغسطس الماضيين لا يُشار فيها إلى شبهة إرهابية؛ بل إن أغلب الدوافع لا تخرج عن كونها إما جرائم عادية نتيجة شجار أو مرض عقلي مصاب به مرتكب الحادثة كما جرى في ساوثبورت على يد شاب رواندي.

2- ثمة رابط مشترك بين حوادث الطعن في أوروبا، وهو الخلل الأمني الواضح. ففي فنلندا مثلاً، وقعت حادثتان بنفس الآلية في مركز تجاري في أسبوع واحد تقريباً لذات الدوافع العنصرية ضد أفراد من أصول مهاجرة.

3- تُعد الجرائم الدينية هي الأقل، فحتى حادثة الطعن في مانهايم يوم 31 مايو الماضي من قِبل اللاجئ الأفغاني يمكن اعتبارها انتقاماً لرفض طلب لجوئه.

4- يُعتبر تحميل اللاجئين والمهاجرين وحدهم مسؤولية انتشار حوادث الطعن، فرضية نفتها بيانات الجهات الرسمية للدول الأوروبية التي جرت بها أغلب هذه الحوادث. كما أن وصف الغرب بأنه مقبل على موجة من "الذئاب المنفردة" يبدو أنه أقرب إلى "رهاب الإسلام" أو ما يُسمى بـ"الإسلاموفوبيا".

تفسير الانتشار:

إن انتشار حوادث الطعن في أوروبا خلال الأشهر الماضية له سياقاته المفسرة، ولعل أهمها ما يلي:

1- ثورة المعلومات المضللة: تقدم مواقع التواصل الاجتماعي سيلاً من الأخبار والمعلومات التي يصعب حصرها وتفنيد مصداقيتها بسهولة، في ظل امتلاك دول ومؤسسات وحركات لما يُسمى بـ"الذباب الإلكتروني" أو "اللجان الإلكترونية"، ولكل منها بالطبع أهداف تسعى لتحقيقها. وفي ظل مناخ كراهية متصاعد، كان من السهل نشر معلومات مضللة ومغايرة للواقع، والأمثلة عديدة ومتكررة أدت إلى استمرار هذه الأزمة؛ بل وزيادتها في دول أوروبية. 

ففي إسبانيا وبريطانيا خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين، كانت هناك حوادث طعن أسهمت خلالها المعلومات المضللة عبر مواقع التواصل الاجتماعي في تزييف المشهد. فعندما قُتل طفل عمره 11 عاماً في مدينة توليدو الإسبانية على يد شاب إسباني (20 عاماً) في 18 أغسطس الماضي، ادّعت مواقع التواصل الاجتماعي أن الجاني من أصول عربية من دول شمال إفريقيا، بالرغم من نفي السلطات الإسبانية ذلك. كما انتشر في البداية أن الجاني في حادثة ساوثبورت هو مهاجر مسلم؛ مما أدى إلى اندلاع أعمال شغب وهجوم على الشرطة والمساجد؛ إذ أُصيب ما يزيد على 130 ضابط شرطة، وتم حرق بعض أقسام الشرطة والمساجد المحيطة، فضلاً عن أماكن إيواء اللاجئين. في حين أن الجاني في هذه الحادثة لم يكن مسلماً ولا مهاجراً، لكن اليمين المتطرف أراد خلق حالة من الكراهية ضد المهاجرين وطالبي اللجوء.

2- عقلية اليمين المتطرف: مالت دول أوروبية كبرى خلال السنوات العشر الماضية لتفسيرات عدة بشأن تراجع أوضاعها الاقتصادية، وفي مقدمتها "نظرية الاستبدال العظيم" والتي مفادها أن استبدال مهاجرين يحملون ثقافات مختلفة وبشرة غير بيضاء بالسكان الأصليين ذوي البشرة البيضاء سوف يقضي على هوية الأوروبيين. 

ومع فشل الأحزاب التقليدية في أوروبا (يمين، ويسار الوسط، والمحافظون)، صعد اليمين المتطرف للحكم في دول مثل: إيطاليا، أو تحكم في ائتلافات كما في السويد وفنلندا. وبالطبع كانت الهجرة الورقة الرابحة في أي استحقاق انتخابي، والنتيجة بروز ممارسات عنصرية وجرائم قتل (منها حوادث طعن) تجاه اللاجئين والمهاجرين. وفي المقابل أيضاً، وقعت حوادث طعن تجاه السكان الأصليين من قِبل بعض المهاجرين سواء تحت ذريعة الانتقام لما يحدث في حرب غزة، أو فشل الحصول على الإقامة، بخلاف الرد على جرائم العنصرية وممارسات اليمين المتطرف العدائية ضد المسلمين كحرق المصاحف والرسوم المُسيئة لرموز الإسلام.

مكاسب اليمين المتطرف:

حقق اليمين المتطرف مكاسب كثيرة عبر خطابه الإقصائي تجاه اللاجئين في أوروبا، فقد سارعت الحكومات والأحزاب المنافسة لتبني بعض السياسات المُرضية له، إما للتحالف معه أو كسب مساحة جماهيرية على حسابه. لكن الحالتين أسهمتا في تضييق الخناق على هؤلاء اللاجئين، واستمرار السياسات والممارسات المُعادية تجاههم. فعلى الرغم من أن الإحصاءات المنشورة لا تصب في صالح فرضية الإرهاب المنسوب لتيارات وجماعات إسلامية وخطورته على أمن أوروبا، ولاسيما تحميله مسؤولية جرائم الطعن؛ فإن ثمة تداعيات متوقعة في الفترة المقبلة لهذه الحوادث، منها الآتي:

1- الصعود السياسي لليمين المتطرف، وهو ما ظهر في تحقيق حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف فوزاً تاريخياً في الانتخابات الإقليمية بشرقي ألمانيا، مُستغلاً حوادث الطعن خلال شهر أغسطس الماضي.

2- تكثيف عمليات ترحيل اللاجئين وتقليص قبول طلبات اللجوء في أوروبا، وقد بدأت ألمانيا بالفعل في ترحيل لاجئين أفغان؛ إذ قررت الحكومة الألمانية يوم 30 أغسطس الماضي ترحيل 28 أفغانياً مداناً بارتكاب جرائم في ألمانيا إلى بلدهم، وذلك للمرة الأولى منذ عودة حركة طالبان إلى السلطة في أغسطس 2021. وكانت برلين قد أوقفت عمليات الترحيل إلى أفغانستان وأغلقت سفارتها في العاصمة الأفغانية بعد عودة طالبان إلى السلطة.

3- مراجعة أوضاع الدول المفترض أنها كانت غير آمنة لعودة اللاجئين إليها مثل سوريا وأفغانستان، على اعتبار أن ثمة استقراراً نسبياً في سوريا مثلاً وأن المعارك بها محدودة حالياً. وعلى الرغم من أن الحكومة الألمانية لا تتعامل مع حركة طالبان، فقد رحلت إلى أفغانستان لاجئين تمت إدانتهم في جرائم مختلفة، كما سبقت الإشارة.

4- السعي إلى تبنى تشريعات تُقنن وتُقيد حمل الأسلحة البيضاء في الأماكن العامة، وهو ما سوف تقوم حكومة العمال بمراجعته في البرلمان البريطاني، ولاسيما أن هناك ثغرات قانونية تسمح بعدم حظر بعض الأسلحة الحادة. كما أعلن الائتلاف الحاكم في ألمانيا عن تشديد القوانين الخاصة بحمل السلاح الأبيض.

5- سيطرة النهج الأمني على معالجة جرائم الطعن، فعلى الرغم من أن هناك تفسيرات من علماء اجتماع أوروبيين لا تربط بين جرائم العنف والهجرة؛ فإن النهج المتبع يتجه نحو التضييق على كل ما هو إسلامي؛ لذا كان هناك اجتماع بين وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، ونظيرها الفرنسي، جيرالد دارمانان، في 28 أغسطس الماضي؛ لبحث مواجهة ما سمته بـ"جرائم الإسلامويين". وسيراً على هذا النهج، اتخذت السلطات الألمانية تدابير أمنية جديدة، مثل: توسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية، وحظر الجمعيات الإسلامية.

إجمالاً، يمكن القول إن مناخ الكراهية والعنصرية من جانب، والخلل الأمني من جانب آخر، هي الأسباب الرئيسية لتزايد جرائم الطعن في العديد من الدول الأوروبية. وعلى الرغم من أن الإحصاءات تبرهن على أن مرتكبي أغلب حوادث الطعن هم من السكان الأصليين تجاه آخرين منهم أو تجاه ذوي البشرة الملونة من المهاجرين؛ فإن هذا لا يمنع الحكومات الغربية من تجاهل هذه الأسباب الحقيقية للظاهرة، وتحميلها فقط للاجئين، دون معالجة جذور المشكلة؛ مما سوف يترتب عليه تزايد معدلات حوادث الطعن دون رادع.