الغطاء الناعم:

آثار التغلغل الروسي التدريجي في الثقافة السورية

12 September 2024


مع اقتراب الذكرى التاسعة للتدخل العسكري الروسي في سوريا بحلول يوم 30 سبتمبر 2024، كشفت أرقام وزارة التربية السورية عن زيادة ملحوظة في أعداد الطلاب الدارسين للغة الروسية في المدارس السورية؛ إذ وصلت إلى 39500 طالب وطالبة من الصف السابع الأساسي وحتى الثاني الثانوي.

فعلى مدار السنوات التسع الماضية من الوجود الروسي على الأراضي السورية منذ عام 2015، ارتكزت السياسة الروسية على نهج متوازي المسار؛ تمثل في استراتيجيات القوة الذكية (Smart Power)؛ وهي مزيج من الاستراتيجيات المتبعة في القوتين الناعمة والصلبة (Soft and Hard Power) استطاعت روسيا من خلالها الجمع بين الوجود العسكري على الأراضي السورية عبر قاعدة حميميم الجوية، والوجود الثقافي من خلال تدريس اللغة والثقافة الروسية؛ وذلك لفتح آفاق جديدة من التغلغل والهيمنة الثقافية.

ومن ثم منذ أن تدخلت روسيا عسكرياً في الحرب السورية لصالح نظام بشار الأسد؛ فإنها حاولت تثبيت أقدامها بصورة متدرجة وغير تقليدية، من خلال مأسسة تدريس اللغة والثقافة الروسية في التعليم الحكومي السوري. فإلى أي مدى استطاعت موسكو تحقيق ذلك؟ وما هي التداعيات المُحتملة لهذا النهج الروسي؟

تغلغل ثقافي:

منذ عام 2015، شهدت الساحة السورية تزايداً ملحوظاً في دراسة اللغة والثقافة الروسية، على المستويين الرسمي والشعبي، وانتشرت كلمات روسية مثل: "بريفييت - مرحباً" و"كاك ديلا - كيف حالك"، و"سباسيبا - شكراً"، وغيرها؛ وهو ما يمكن ملاحظته على النحو التالي:

1- تدريس الروسية في المناهج السورية كلغة ثانية: بدأ تدريس اللغة الروسية في المناهج التعليمية السورية بصفة رسمية ابتداءً من عام 2015؛ بحيث أصبحت لغة اختيارية ثانية من اللغات الأجنبية، إلى جانب الإنجليزية والفرنسية، في مرحلة التعليم الأساسي. 

2- زيادة أعداد دارسي اللغة الروسية: كشفت أرقام وزارة التربية السورية عن زيادة ملحوظة في أعداد دارسي اللغة الروسية كلغة ثانية؛ إذ وصل عددهم في العام الجاري إلى نحو39500 طالب وطالبة، وذلك بعد أن كان عددهم عام 2020 نحو 24 ألف طالب وطالبة، ووصل في العام التالي إلى أكثر من 31 ألفاً، موزعين على 217 مدرسة في 12 محافظة، بكادر تدريسي يبلغ 190 معلماً لهذه اللغة.

3- لجنة مشتركة لتطوير المناهج الدراسية: تسلمت وزارة التربية السورية، في أغسطس الماضي، حوالي 5 آلاف كتاب لمنهج تعليم اللغة الروسية للصف السابع الأساسي؛ وهو الكتاب الذي تم تأليفه من قِبل لجنة مشتركة من وزارتي التربية السورية والروسية ليتم تدريسه بشكل تجريبي في العام الدراسي الجديد في ست محافظات سورية هي: دمشق، وحِمص، وطرطوس، واللاذقية، والسويداء ودرعا.

4- منح دراسية في الجامعات الروسية: افتُتح قسم للغة الروسية في جامعة دمشق في العام الدراسي 2015. كما كانت إحدى ثمار التعاون المشترك بين وزارتي التربية الروسية والسورية في السنوات الماضية حصول ألف طالب وطالبة سوريين سنوياً على منح دراسية في جامعات روسية؛ ليصل عدد الدارسين السوريين في هذه الجامعات إلى 5 آلاف طالب وطالبة منذ عام 2019 وحتى الآن. فضلاً عن افتتاح ستة صفوف دراسية في وزارة التربية السورية منذ عام 2020 لتعليم اللغة الروسية عن بُعد عبر شبكة الإنترنت.

5- أنشطة ثقافية باللغة الروسية: في عام 2021 وفي ظل تبادل علمي استمر لأكثر من ثلاثة أعوام، أقامت جامعة البعث السورية بالتعاون مع جامعة موسكو التكنولوجية، أولمبياد اللغة الروسية، بمشاركة 200 طالب وطالبة من مدارس وجامعات سورية، ومن المعهد العالي للغات بحِمص، فضلاً عن خريجين آخرين. وفي عام 2022، أقام المركز الثقافي العربي في كفرسوسة بدمشق، بالتعاون مع المركز الثقافي الروسي، معرضاً للكتاب الروسي التعليمي والترفيهي، خُصص فيه جناح لكتب الطفل باللغة الروسية.

ويمكن ملاحظة أن مظاهر المد الثقافي الروسي جمعت بين العرض والطلب؛ أي عرض روسي متزايد لتدريس اللغة والثقافة الروسية في شكل تعاون رسمي حكومي متعدد الأشكال بين وزارة التربية الروسية ومثيلتها في سوريا، فضلاً عن تقديم منح طلابية سنوية في الجامعات الروسية وألوان مختلفة من الأنشطة والفعاليات الثقافية في الداخل السوري لاجتذاب أكبر قاعدة شعبية، كما في أولمبياد اللغة الروسية ومعرض كتاب الطفل باللغة الروسية. ومن ناحية أخرى، كان هناك طلب سوري متزايد، في ظل إقبال الطلاب على دراسة اللغة والثقافة الروسية، والحصول على منح دراسية، فضلاً عن المحال التجارية التي باتت تكتب لافتاتها بالروسية نظراً للوجود الروسي الفعلي على الأرض.

دوافع متبادلة:

يمكن تقسيم دوافع دراسة اللغة والثقافة الروسية في سوريا إلى دوافع سياسية وعسكرية، وأخرى اقتصادية واجتماعية، وثالثة متعلقة بدوائر التنافس الإقليمي والدولي على سوريا، وذلك على النحو التالي:

1- أهداف سياسية وعسكرية: في عام 2015 تزامنت مشاركة القوات الروسية في الحرب السورية للدفاع عن نظام الأسد، مع إقرار وزارة التربية السورية للروسية كلغة ثانية رسمياً ضمن اللغات الأجنبية في التعليم السوري؛ ومن ثم، ربما سعى النظام السوري لتوفير دعم شعبي للروس على الأراضي السورية من خلال مأسسة تعليم اللغة الروسية في المدارس الحكومية، فضلاً عن رفع مستوى التعاون بين وزارتي التربية في البلدين، في سبيل التعرف أكثر على ثقافة الحليف العسكري الأول لدمشق.

يُضاف إلى ما تقدم، الحاجة الماسة منذ الأيام الأولى لوجود القوات الروسية على الأراضي السورية، لتعلُّم اللغة الروسية بين الفرقاء في سوريا من معسكري النظام والمعارضة، خاصةً المصطلحات الخاصة بسلاح الجو والعمليات الحربية أثناء اشتداد المواجهات؛ لأن القوات الروسية كانت حاضرة بقوة في تلك المواجهات؛ ومن ثم فإن تعلم اللغة الروسية كان هو السبيل الفعال لإحراز تقدم على الأرض، واستكشاف الخطط والتحركات التي كانت موسكو طرفاً حاسماً فيها.

2- دوافع اقتصادية واجتماعية: في ظل استمرار تداعيات الحرب السورية على الداخل هناك، ومن بينها تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في العديد من المناطق؛ ازداد التوجه لصالح تعلم اللغة الروسية على أمل الحصول على منحة دراسية والسفر لروسيا باعتبار أنها تضع الأولوية للأشخاص الذين درسوا اللغة الروسية.

وفي السنوات القليلة الماضية، كانت هناك مشروعات اقتصادية روسية واسعة النطاق في سوريا؛ خاصةً في مجال البنية التحتية وإعادة الإعمار، كما في إعادة بناء ميناء طرطوس، وتحديث مصنع إنتاج الأسمدة في حِمص، وترميم عديد من حقول النفط والغاز، فضلاً عن توقيع 40 اتفاقية خلال اجتماع الرئيسين فلاديمير بوتين وبشار الأسد في مارس 2023؛ استهدفت قطاعات محورية تشمل الطاقة والكهرباء والنفط والبنية التحتية والإسكان والتنمية الصناعية؛ وهي مشروعات تتطلب في مجموعها وجوداً روسياً، تستمر معه الحاجة لدراسة اللغة والثقافة الروسية؛ خاصةً أن مثل هذه المشروعات طويلة الأمد.

علاوة على ما سبق، فإن روسيا إذا ما قورنت بالمنافسين الإقليميين في سوريا (أي إيران وتركيا)، ستكون كفتها راجحة، فهي لا تكترث بالبُعد الديني أو المذهبي خلافاً لطهران، ولا توجد بينها وسوريا قضايا عالقة مثل أنقرة؛ لذا كان من بين العوامل المساعدة لتزايد الطلب على اللغة والثقافة الروسية كونها غير متعلقة إلا بالمصالح الروسية السورية، فلا يدخل فيها البُعد الخاص بقضية الكُرد كما بالنسبة لتركيا، ولا بالمد الشيعي كما بالنسبة لإيران؛ ومن ثم كان للتقارب الثقافي الروسي السوري ما يبرره ليس فقط بالنسبة للداخل السوري، ولكن أيضاً بالنسبة لرغبة بعض الشباب السوري في الحصول على منح دراسية والسفر لروسيا، وربما منها إلى أوروبا.

3- التنافس الإقليمي والدولي على سوريا: لعل واحدة من دوافع لجوء روسيا إلى نهج يجمع بين الجانبين العسكري والثقافي معاً، هو بيئة التنافس الإقليمي والدولي على سوريا، ليس فقط مع خصومها الدوليين مثل: الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة، ولكن كذلك مع منافسين في المنطقة مثل: إيران وتركيا. واكتسبت روسيا، من خلال تجربتها في سوريا، المزيد من الدروس المستفادة في ظل تجربة طويلة الأمد، ومن أبرزها القدرة على إدارة المشهد بإحكام من خلال اتخاذ قرارات سريعة ولكن غير متعجلة، وأن تكون بيدها ضربة البداية؛ وهو ما حاولت كل من إيران وتركيا استنساخه من خلال تقديم دراسة اللغة والثقافة التركية والفارسية للسوريين، جنباً إلى جنب مع وجودهما العسكري، كما تفعل روسيا، غير أن الكفة ظلت راجحة لصالح موسكو في هذه الحالة. ومن ثم رأت روسيا أن توسيع نطاق دراسة لغتها وثقافتها في سوريا سيساعدها على التغلغل أكثر في هذا البلد؛ بحيث تستطيع من خلال ذلك تقديم نفسها لسوريا الرسمية والشعبية باعتبارها الشريك الأكثر تكاملاً على الساحة.

يُضاف إلى ما سبق، أن ثمة دوافع روسية متعلقة بإعادة توظيف مواردها وتقليل نفقاتها العسكرية الخارجية مع استمرار وجود قواتها في سوريا؛ بسبب حربها الجارية في أوكرانيا؛ وهو ما قد يكفله لها المد الثقافي بانتشار دراسة اللغة والثقافة الروسية في سوريا؛ إذ أصبحت الحرب في أوكرانيا هي الشاغل الأول لروسيا؛ الأمر الذي جعلها تُقدم على خفض قواتها في سوريا وتنسحب من أراضٍ كانت تسيطر عليها في اللاذقية، إلا أنها في المقابل لا تزال تعتبر وجودها في سوريا مهماً كورقة مُساومة في محادثاتها مع الغرب.

انعكاسات مختلفة:

على الرغم من أن التقارب الثقافي بين روسيا وسوريا في السنوات التسع الماضية، أتاح المزيد من الفرص التعليمية داخل وخارج سوريا؛ فإن هذا التقارب له تداعيات عديدة ليس فقط على مستقبل الوجود الروسي على الأراضي السورية، ولكن ربما أيضاً على الحضور الإيراني والتركي هناك، وذلك على النحو التالي:

1- المزيد من التغلغل الروسي في سوريا: فالتقارب الثقافي بين البلدين مرتبط بتوفير غطاء شعبي لوجود روسيا العسكري وبإمكانية توسيعه مستقبلاً. والدليل على ذلك هو ترحيب الرئيس الأسد في لقائه مع بوتين، في مارس 2023، بإنشاء روسيا المزيد من القواعد العسكرية على الأراضي السورية إذا ما أرادت ذلك؛ وهو ما يمكن أن يتيح لموسكو المجال لمزيد من التغلغل؛ إذا استطاعت حسم معركتها الطويلة في أوكرانيا؛ ومن ثم حاولت بعدها إعادة تموضع قواتها من جديد في سوريا.

2- غطاء ثقافي للخطط العسكرية: توجد روسيا حالياً، إلى جانب قاعدتها الجوية في حميميم، في ميناء طرطوس البحري، فضلاً عن إعلان وزارة الدفاع الروسية العام الماضي إعادة تشغيل قاعدة الجراح الجوية العسكرية شمالي سوريا لاستخدامها بصورة مشتركة؛ وما يُحرك بقاء أو تقليص روسيا قواتها في سوريا هو ما يجري في الحرب الأوكرانية؛ إذ انسحبت القوات الروسية من مناطق نفوذ لها في اللاذقية بعد تدخلها العسكري في أوكرانيا؛ الأمر الذي أفسح المجال لقوات أخرى تابعة لإيران للسيطرة على تلك المناطق. وربما يُعزى ما قامت به موسكو في هذه الحالة، من ضمن أسباب أخرى، إلى الركون لرصيد التقارب الثقافي مع سوريا والآخذ في التزايد.

3- تحجيم المد الإيراني في سوريا: قد يقابل كل زيادة في دراسة اللغة والثقافة الروسية، ممانعة سورية في إحراز أي تقدم في دراسة اللغة والثقافة الفارسية؛ وذلك لاعتبارات عديدة يأتي على رأسها تذمر الأهالي وقلقهم من نشر التشيَّع؛ إذ إن البُعد الثقافي في علاقة إيران بسوريا لا يخلو من طابع ديني مذهبي. ففي السنوات القليلة الماضية، حاولت إيران السير على خطى روسيا وإدخال الفارسية إلى مناهج التعليم الحكومي السوري تنفيذاً لاتفاقية بين طهران ودمشق تتعلق بتبادل الخبرات في المجالات العلمية والتعليمية والتربوية. وفي عام 2021، تمكنت إيران من فرض تعليم الفارسية في المدارس الحكومية التي تقوم بترميمها وإعادة تشغيلها، فضلاً عن افتتاحها مراكز لتعليم الفارسية في جامعات دمشق والبعث في حِمص، وافتتاحها كذلك فروع عدد من الجامعات الإيرانية مثل: جامعة تربية مدرس، وجامعة المصطفى، وجامعة الفارابي، وجامعة أزاد إسلامي. وأكثر ما يستعصي على إيران في هذه الحالة، هو البديل الذي توفره روسيا بالنسبة للمد الثقافي في المدارس والجامعات السورية.

4- وضع تركيا في مأزق: لا تزال تركيا غير قادرة على إحراز تقدم في استغلال البُعد الثقافي في سوريا، على عكس ما فعلته روسيا منذ تدخلها هناك عام 2015. ويوجد في تركيا جالية سورية تزيد عن ثلاثة ملايين شخص، وقد لا يُنظر لتقاربها الثقافي باعتباره تهديداً للسلم الأهلي في سوريا كما هو الحال مع إيران، غير أن التقارب الثقافي الآخذ في التزايد بين روسيا وسوريا يمكنه وضع تركيا في مأزق، في ظل عدم قدرتها على استنساخ التجربة الروسية أو الإيرانية في سوريا.

ختاماً، يمثل تدريس اللغة والثقافة الروسية في سوريا أداة تغلغل وهيمنة لموسكو على المدى المتوسط والبعيد؛ خاصةً أن تداعيات الحرب السورية تجعل النظام يبحث أولاً عن الاستقرار وعدم التقهقر للخلف. كما قد يجد النظام السوري في المد الثقافي الروسي فرصة مواتية لتعميق العلاقات مع حليفه العسكري الأول، ومن الناحية الشعبية أيضاً يرى العديد من السوريين في تعلم اللغة والثقافة الروسية خياراً براغماتياً لتحسين أوضاعهم الاقتصادية؛ من خلال إمكانية إيجاد فرص عمل لهم في الداخل أو الحصول على منح تعليمية خارجية تفتح أمامهم باب الانتقال للعيش في روسيا ومنها إلى أي من الدول الأوروبية.