غياب الاستراتيجية:

تقييم الرؤية الأمريكية للأمن الاقتصادي في القرن الـ21

06 September 2024


عرض: نشوى عبدالنبي 

يواجه النظام الاقتصادي العالمي منعطفاً حرجاً؛ إذ أدت الاضطرابات في سلاسل التوريد الناجمة عن جائحة "كورونا" والكوارث المناخية والصراع الروسي الأوكراني إلى تأزم النظام النيوليبرالي الحالي. ومع تصاعد التوترات الجيواقتصادية والجيوسياسية العالمية، بدأت الولايات المتحدة وشركاؤها في تعزيز أجندة أمن اقتصادي دولي تهدف إلى تقليل التعرض للمخاطر وزيادة القدرة على الصمود. إلا أنه بينما تملك مجموعة الدول السبع (G7)، ومنها اليابان والاتحاد الأوروبي استراتيجيات محددة للأمن الاقتصادي، تفتقر الولايات المتحدة بشكلٍ عام إلى مثل هذه الاستراتيجيات.

من هنا، سعى كل من إيملي بينسون وكاثرين مورديان وأندريا ليونارد إلى تقييم أدوات الأمن الاقتصادي للحكومة الأمريكية، في سياق تقرير نشره مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في يوليو 2024، تحت عنوان "نحو استراتيجية أمريكية: توجهات القرن الحادي والعشرين لصنع السياسة المحلية والدولية"، ويركز التقرير على أدوات التجارة والاستثمار الاستراتيجية، بما في ذلك الرسوم الجمركية وضوابط الصادرات والعقوبات، ثم يتطرق إلى كيفية تفاعل النهج الأمريكي للأمن الاقتصادي مع نهج الشركاء الأجانب، وفي الأخير، يقدم مقترحات حول كيفية تعزيز نهج مجموعة الدول السبع (G7) للأمن الاقتصادي.

يلفت التقرير في بدايته النظر إلى تغير مفهوم "الأمن الاقتصادي". فقبل حوالي عشر سنوات، كان المفهوم يرتبط بالاستقرار الاقتصادي للأفراد وليس للدولة، إلا أن الأمن الاقتصادي أصبح قضية دولية؛ إذ بات يعكس إدراك التهديدات الخارجية التي تستهدف الاستقرار الاقتصادي للدولة؛ ومن ثم أصبح تعريفه يتعلق بـ"القدرة على الحماية ضد المحاولات المتعمدة من قبل كيانات أجنبية لتعطيل اقتصاد بلد ما، وإجباره على اتخاذ مواقف محددة".

على أساس ذلك، يوضح التقرير العلاقة بين استراتيجية الأمن الاقتصادي والسياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ يبرز غياب استراتيجية أمريكية عامة للأمن الاقتصادي مقارنة بتطور ونشر الشركاء الأجانب استراتيجيات في هذا المجال. مع ذلك، فقد صدرت في السنوات الأخيرة استراتيجية أمن اقتصادي أمريكي خاصة بالصين من قبل لجنة مجلس النواب الأمريكي. ففي ديسمبر 2023، نشرت تلك اللجنة تقريراً واسع النطاق وحظي بدعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ويفصل التقرير 150 توصية حول "إعادة ضبط" العلاقات الاقتصادية الأمريكية الصينية.

الأدوات الهجومية والدفاعية: 

تستمد الحكومة الأمريكية قدراً كبيراً من ترسانتها لأدوات القوة الاقتصادية من مجموعة من القوانين تمنح الوكالات الأمريكية سلطة هائلة لإصدار استراتيجية اقتصادية. ومن الأدوات الهجومية للأمن الاقتصادي الأمريكي، ما يلي:

1- رقابة الصادرات، وهي أداة أساسية للسياسة الخارجية الأمريكية موجودة منذ عقود. ففي القرن العشرين، تطورت تلك الأداة لتتحكم في المدخلات التي قد تنتج أسلحة دمار شامل؛ إذ يسهل الحصول على موافقة الدول على فرض قيود على الصادرات عندما تتفق على طبيعة التهديد. وتستخدم الولايات المتحدة حالياً ضوابط التصدير بشكل متزايد كأداة للأمن الاقتصادي؛ بهدف إعاقة نمو قطاع الذكاء الاصطناعي والرقائق المتقدمة في الصين؛ إذ يمكن أن يوفر التقدم في هذه المجالات فوائد عسكرية كبيرة. 

2- العقوبات الاقتصادية: يمكن أن تتخذ العقوبات الحديثة أشكالاً متنوعة، بما في ذلك حظر الأسلحة، والقيود على القبول (حظر السفر)، وتجميد الأصول، وغيرها من الإجراءات الاقتصادية مثل القيود على الواردات والصادرات. 

3- قوائم الرقابة الاستراتيجية: تستخدم الولايات المتحدة مجموعة متنوعة من قوائم الرقابة الاستراتيجية على التجارة والاستثمار، والتي يمكن استخدامها لأغراض هجومية ودفاعية على حدٍ سواء. تهدف هذه القوائم إلى منع الصادرات وإعادة التصدير، ونقل المعلومات، وتدفق البيانات والمالية، وكذلك وضع قواعد تتعلق بالعقود الحكومية مع كيانات أجنبية.

وفيما يتعلق بالأدوات الأمريكية الدفاعية للأمن الاقتصادي، أوضح التقرير أن أدوات الردع الأمريكية حظيت في السنوات الأخيرة باهتمام أكبر، بدءاً من عقوبات روسيا وصولاً إلى ضوابط رقائق الذكاء الاصطناعي على الصين. ومع ذلك، يتزايد الزخم في الولايات المتحدة للاستفادة بشكل أكبر من الجانب الوقائي للسياسة التجارية الاستراتيجية. ومن تلك الأدوات ما يلي:

1- القسم 232، وهي مجموعة من الرسوم الجمركية التي يمكن للرئيس الأمريكي فرضها لأسباب تتعلق بالأمن القومي.

2- الفقرة 301 من التعريفات الجمركية، وهي بند شامل يسمح للولايات المتحدة بفرض التعريفات الجمركية لتصحيح الممارسات التجارية الأجنبية غير العادلة. 

3- العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة، يدعم هذا الإجراء بشكل أساسي الحزب الجمهوري؛ إذ سيؤدي إلغاء صفة العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة إلى فرض نوع من "ضريبة الأمن القومي"؛ إذ يدفع المستهلكون علاوة سعرية على السلع الصينية الواردة. 

4- السياسة الصناعية والحوافز الإيجابية؛ إذ تهدف حزم رئيسية مثل: قانون خفض التضخم وقانون الرقائق والعلوم إلى دعم إنتاج الولايات المتحدة للتقنيات الخضراء وشبه الموصلات. وبالإضافة إلى هذه الحوافز الإيجابية لنقل الإنتاج والاستثمار إلى الولايات المتحدة، تتضمن هذه الحزم أيضاً "شروطاً ملزمة" تربط التمويل بأهداف السياسة الخارجية الأوسع نطاقاً.

التعاون الدولي والأمن الاقتصادي:

ينتقل التقرير إلى تفاعل النهج الأمريكي للأمن الاقتصادي مع نهج الشركاء الأجانب من خلال التعاون الاقتصادي الدولي؛ إذ يشير إلى أن القرن العشرين شهد إنشاء مؤسسات دولية مثل: اتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية، والتي وضعت قواعد التجارة الدولية. وفي وقتٍ لاحق، وضعت المؤسسات المالية الدولية مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أُطراً للتعاون الاقتصادي الدولي. مع ذلك، فإن النظام الاقتصادي الليبرالي الجديد الذي تم إنشاؤه في أعقاب الحرب العالمية الثانية يواجه تحديات كبيرة؛ بسبب إعادة ترتيب المنافسة بين القوى العظمى: الولايات المتحدة والصين. 

لذلك، تعمل الحكومات الشريكة للولايات المتحدة بشكل متزايد على "أمننة" اقتصاداتها من خلال أدوات تجارية واستثمارية جديدة تهدف إلى حماية وتعزيز التقنيات المتقدمة مع تقليل المخاطر من المنافسين الجيوسياسيين، لتحقيق أقصى استفادة من الحوافز الإيجابية. هنا يطرح التقرير اتجاهات لتعزيز الأمن الاقتصادي عبر التعاون الأمريكي مع الشركاء الأجانب من أبرزها:

1- التعاون الجمركي: تتضمن اتفاقيات التجارة الحرة عادة خفض التعريفات الجمركية أو إلغاءها على السلع المتداولة بين الدول المشاركة. وهذا يعزز تدفق السلع من خلال جعلها أرخص للمستهلكين والشركات. وعلى وجه الخصوص، ينبغي للولايات المتحدة وشركائها العمل بشكلٍ متضافر على إلغاء التعريفات الجمركية على التقنيات الخضراء بدلاً من رفعها.

2- تقييم المخاطر الجيوسياسية: تاريخياً، فشلت تخفيضات التعريفات في مراعاة الآثار الجانبية السلبية مثل: زيادة الانبعاثات أو عوامل المخاطر الجيوسياسية. هنا، ينبغي للولايات المتحدة وشركائها البدء في تطوير تصنيف للمخاطر التجارية، وتسعير كل من مخاطر المناخ والمخاطر الجيوسياسية مثل دعم الصين لروسيا في حربها على أوكرانيا.

3- تسهيل تجارة الخدمات: تضمنت اتفاقيات التجارة الحرة تجارة الخدمات، ويشمل ذلك الخدمات المالية والاتصالات السلكية واللاسلكية ومجموعة واسعة من الخدمات المهنية. ويقترح التقرير التزام الولايات المتحدة وشركائها بتحرير اللوائح وتسهيل تجارة الخدمات عبر الحدود، وسيبني هذا النهج على النجاحات القائمة ويدعمها، بما في ذلك نتائج قمة الولايات المتحدة واليابان في إبريل 2024.

4- التعاون التنظيمي: قد تشجع اتفاقيات التجارة الحرة التعاون التنظيمي بين الدول الأعضاء لمواءمة المعايير واللوائح، وخفض الحواجز التجارية، وتعزيز الاعتراف المتبادل بمعايير المنتجات والشهادات. 

5- منصة مكافحة الإكراه: كجزء من أجندة الاستعداد للأمن الاقتصادي، ينبغي للولايات المتحدة وشركائها العمل من خلال مجموعة السبع والأُطر الأخرى لمتابعة إنشاء منصة التنسيق بشأن مكافحة الإكراه الاقتصادي التي أُعلن عنها لأول مرة في قمة هيروشيما لمجموعة السبع لعام 2023. وينبغي أن تستضيف هذه المنصة مناقشات حول التدابير القسرية التي ينبغي على الدول الرد عليها مباشرة والتدابير التي تستحق رداً مشتركاً. وعلى المدى الطويل، قد تؤدي هذه المنصة إلى هيكل أكثر قوة يعمل مثل "الناتو الاقتصادي".

مقترحات الأمن الاقتصادي: 

عرض التقرير مجموعة مقترحات يجب على الحكومة الأمريكية العمل عليها من أجل تعزيز استراتيجية الأمن الاقتصادي الأمريكية، ومن أبرزها: 

- توفير موارد بشرية إضافية، إذ إن إضافة 17 مسؤولاً جديداً يركزون على الأمن الاقتصادي في خمسة قطاعات ومؤسسات مختلفة من شأنها أن تعزز قدرات الأمن الاقتصادي للولايات المتحدة، مع إعادة تنشيط مكتب الاتصالات الاقتصادية الدولية.

- تحسين الاستخبارات الاقتصادية من خلال تبني التكنولوجيا: لقد ركز جمع المعلومات الاستخباراتية في الولايات المتحدة تاريخياً على مسائل الأمن الصعبة، خاصة وأن التوسع الكبير في اختصاص مجتمع الاستخبارات ليشمل تركيزاً أكبر على الأمن الاقتصادي من شأنه أن يساعد الوكالات الأمريكية على تحديد النتائج المحتملة للسياسات المحددة وتحديد المناطق المحتملة للأضرار الجانبية.

- دمج الاعتبارات المناخية في سياسة الأمن الاقتصادي: هناك خطر هائل في عدم تسعير مخاطر المناخ في سياسة الأمن الاقتصادي، وينبغي النظر في الزيادات التعريفية على التقنيات الخضراء بحذر شديد بالنظر إلى أن مخاطر تسريع تغير المناخ يمكن أن تهدد سبل عيش مليارات الأشخاص في القرن الـ21، علاوة على ذلك؛ فإن إعطاء الأولوية لتغير المناخ كجزء لا يتجزأ من الأمن الاقتصادي سيمكن بشكل أكثر فعالية من تسعير مخاطر المناخ في القرارات التجارية والاقتصادية الرئيسية. 

- تدوين سياسات الأمن الاقتصادي في القانون: إن إصدار استراتيجيات الأمن الاقتصادي على مستوى السلطة التنفيذية يجعلها عرضة للتغيرات الشديدة في السياسة الداخلية، ويضمن تأمين الدعم التشريعي متانة إضافية؛ مما يوفر بدوره قدراً أكبر من اليقين للقطاع الخاص الأمريكي والشركاء الأجانب على حدٍ سواء.

أخيراً، استنتج التقرير أن الزيادات المستهدفة في الموظفين، إلى جانب الاعتماد الواسع النطاق على التقنيات المتخصصة في التجارة والاستثمار، ستعزز قدرات الحكومة الأمريكية في عصر الجغرافيا الاقتصادية. علاوة على ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة إعادة تركيز جهودها على بناء أجندة استثمارية وتجارية إيجابية، تشمل معالمها الرئيسية: تعاوناً أكبر على التعريفة الجمركية مع الشركاء المقربين، تسعير المخاطر الجيوسياسية، صندوق استثمار مشترك لشراء شركات استراتيجية تعاني من صعوبات، السعي المستمر إلى ترتيبات سلاسل التوريد القطاعية، التعاون بشأن معايير الجدارة بالثقة للتكنولوجيا، التقدم في مجال التعاون ضد الإكراه، تعميق ترتيبات التعاون البحثي خاصة في مجال التقنيات الناشئة.

ويمكن تعزيز الجهود الحالية لتعزيز أجندة الأمن الاقتصادي من خلال تنسيق أكبر بين الوكالات في الولايات المتحدة وتعميق التعاون الدولي، فمع وجود مجموعة أدوات هجومية ودفاعية أمريكية موسعة، يمكن أن يعمل التعاون الدولي الأكبر من خلال إطار موسع لمجموعة الدول السبع (G7+) على تحقيق استقرار استراتيجية الأمن الاقتصادي الدولي.

المصدر:

Benson, E., Mouradian, C., & Palazzi, A. L. (2024, July). Toward a U.S. economic security strategy: Twenty-first-century guidance for domestic and international policymaking. Center for Strategic and International Studies. https://www.csis.org/analysis/toward-us-economic-security-strategy