استراتيجية انتقائية:

التحولات الأوروبية للاستفادة من التكنولوجيا الصينية الخضراء

01 July 2024


أصبحت القارة الأوروبية على مفترق طرق في ظل تحرك العالم بشكل أعمق نحو المنافسة الاستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؛ مما جعل قادة أوروبا في حاجة إلى إعادة تقييم نهجهم في التعامل مع هذا المشهد التنافسي المحكوم بعوامل التغيير والمصلحة؛ ومن ثم، سعى الأوروبيون إلى البحث عن "طريق ثالث" يضمن تحقيق معادلة متوازنة بين الجانبين، دون خسارة أي منهما.

لقد رفض قادة الاتحاد الأوروبي الانسياق الكامل وراء الإملاءات الأمريكية بشأن المضي قدماً في نهج "الانفصال" (Decoupling) عن الصين، وذلك إدراكاً منهم أن المواجهة الصينية الأمريكية لا ترتبط بتعزيز مصالح الاتحاد الأوروبي؛ بل تتعلق برغبة واشنطن في الحفاظ على وضعها المهيمن عالمياً، ونظراً لوجود مصالح مشتركة في مختلف المجالات بين العواصم الأوروبية وبكين، وانطلاقاً من دعم الأخيرة لمبدأ "استقلال أوروبا الاستراتيجي"، في سياق تنافس القوى العظمى، ومركزية التعاون الاقتصادي والتجاري كقاعدة أساسية للعلاقات، وجد الأوروبيون أنه لا غنى عن تعميق العلاقات مع الصين ولكن بشكل انتقائي، متمثلاً في تبني نهج "التخلص من المخاطر" (De-risking). 

أدرك الأوروبيون أن تفوق الصين في مجال الصناعات الخضراء الناشئة، وهيمنتها على سلسلة توريد التكنولوجيا الخضراء ستؤثر في قدرة الاتحاد الأوروبي على متابعة ملف تحول الطاقة، وأن التزامه لمعالجة أزمة المناخ لا يتواكب على الإطلاق مع العمل المناخي الأمريكي الأقل طموحاً والأكثر تذبذباً على الصعيد الدولي، وبات لسان حال الأوروبيين يقول: إن التحول الأخضر في أوروبا سيكون مستحيلاً من دون الصين.

تحول استراتيجي: 

تبلور مفهوم التخلص من المخاطر لأول مرة في خطاب رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في 30 مارس 2023؛ إذ قدمت رؤية جديدة لمستقبل العلاقات الأوروبية الصينية، تقوم على ثلاث ركائز أساسية للحد من المخاطر التي تواجه أوروبا، وهي: الدفاع عن المصالح الاقتصادية الأوروبية المشروعة؛ أهمية الحوار لمعالجة الخلافات، وأخيراً تنويع شركاء الاتحاد الأوروبي.

ويبدو أن الخطاب كان إشارة البداية لمؤسسات الاتحاد الأوروبي لتحويل هذا المفهوم إلى سياسة أوروبية تجاه الصين، وتخفيف نهج الانفصال عن الصين، الذي عكس المخاوف بشأن اندلاع حرب تجارية بين الاتحاد الأوروبي وبكين، والتي كانت ستجلب أضراراً اقتصادية بالغة على الأوروبيين جراء قطع العلاقات مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

وقد دفعت عدة أسباب القادة الأوروبيين إلى اعتماد نهج التخلص من المخاطر في قمة زعماء الاتحاد الأوروبي في بروكسل مع نهاية يونيو 2023:

• تفوق صيني منقطع النظير: أدرك قادة الاتحاد الأوروبي أن الصين أصبحت تحتل مكانة مهيمنة في القطاعات الاقتصادية المرتبطة بالتحول الأخضر، والصناعات الخضراء الناشئة؛ إذ حددت القيادة الصينية ما يُعرف بــ"الثلاثة الجديدة" (the New Three)، وهي الخلايا الشمسية، وبطاريات أيون الليثيوم، والمركبات الكهربائية، كمحركات أساسية لنمو الاقتصاد الصيني، وعلى الرغم من أن هذا التفوق الصيني من شأنه إفادة العمل المناخي الأوروبي؛ فإن الهيمنة الصينية قد تهدد القدرة التنافسية الاقتصادية الأوروبية، والأمن القومي، وأمن الطاقة، بل وحتى الأهداف المناخية للاتحاد الأوروبي.

• مخاوف من سياسات الإكراه الاقتصادي: تُتهم الحكومة الصينية من قبل الغرب بأنها تستخدم العلاقات التجارية كسلاح للإكراه الاقتصادي، وذلك من خلال الوقف المفاجئ للواردات، ومقاطعة المستهلكين، وحظر التصدير، ووضع المزيد من الحواجز غير الجمركية.

• سوق مهمة للشركات الأوروبية: يتفق الأوروبيون على أن الصين سوق مهمة للشركات الأوروبية؛ إذ توفر فرصاً كبيرة للنمو، كما أن تعطيل العلاقات التجارية بين الجانبين يضر شركات الاتحاد الأوروبي، ويؤدي إلى زيادة البطالة، ويعوق التعافي الاقتصادي في أوروبا في فترة ما بعد الوباء.

• تحقيق بُعد ثنائي للتوازن: من منطلق إدراك الاتحاد الأوروبي لتنامي النفوذ الصيني في مجال التكنولوجيا والابتكار، رأى قادة التكتل أن الطريقة المُثلى للحفاظ على مصالحه هي "تحقيق التوازن بين حماية مصالحه الاستراتيجية والحفاظ على علاقاته الاقتصادية مع الصين"؛ ولذا، وجد الاتحاد أنه من الضروري الحفاظ على التعاون الاقتصادي والتآزر مع الصين، أملاً في معالجة المخاوف المرتبطة بنقل التكنولوجيا وحماية حقوق الملكية الفكرية.

• مخاوف من التسرب التكنولوجي: رأى قادة الاتحاد أهمية إقامة الحواجز ضد ما يُعرف بـ"التسرب التكنولوجي" (technological leakage)؛ والذي يعني النقل غير المصرح به للتكنولوجيا الحساسة أو الملكية الفكرية من أوروبا إلى الصين؛ وهو ما من شأنه أن يقوض القدرة التنافسية لشركات الاتحاد الأوروبي العاملة في المجال التكنولوجي. ومن خلال هذا النهج، يعتزم التكتل تطوير آليات قوية لحماية تقنياته المتقدمة ومنع اكتسابها أو استخدامها بشكل غير مصرح به من قبل الكيانات الصينية، وربما تشمل تعزيز الضوابط على صادرات التكنولوجيا الأوروبية وفرض لوائح أكثر صرامة على الاستثمار الأجنبي في القطاعات الاستراتيجية.

وعلى هذا النحو، اعتبر الأوروبيون أن عملية التخلص من المخاطر كمفهوم موحد لمكافحة سياسات الإكراه الاقتصادي الصينية نهج أقل تصادمية، وأكثر استراتيجية لحماية الأمن الاقتصادي الأوروبي، وفي الوقت ذاته، وجدوا أن الترويج للاعتبارات المناخية هو "الحل السحري" لتبني أجندة إيجابية وتعاونية مع الصين، خاصة وأن قضايا التحول الأخضر ومكافحة التغيرات المناخية هي قضايا مرنة، توفر أرضية مشتركة للأطراف المتعاونة.

وعلى الجانب الآخر، أكد الأوروبيون أن العمليات التي تقع ضمن نهج التخلص من المخاطر تنطوي أيضاً على نهج ديناميكي لإدارة المخاطر أو ما يُعرف بتقييم المخاطر يمكن من خلاله تقييم الظروف المتغيرة في ظل بيئة جيوسياسية واقتصادية معقدة تضع في اعتبارها المصالح القومية على حساب مفردات العولمة والتعاون الدولي والاعتماد المتبادل المفرط.

إشكالية الثقة: 

تجد القارة الأوروبية نفسها أمام ثلاثة مسارات في طريق التحول التكنولوجي الأخضر بمشاركة صينية؛ المسار الأول يكمن في إعطاء الثقة الكاملة للشركات الصينية لتكون بمثابة العمود الفقري للتحول الأخضر الأوروبي، وعلى نقيضه المسار الثاني الذي يدعو إلى ضرورة تبني نهج التخلص من المخاطر عبر تقليل التعرض للصين في قطاع التكنولوجيا الخضراء قدر الإمكان مع تعزيز القدرات البديلة، في حين أن المسار الأخير هو الطريق الثالث الذي يضع في اعتباره معياري الانتقائية والتوازن عند التعامل مع الشركات الصينية، كي لا تعمل في مجالات تضر بالأمن القومي الأوروبي. وفيما يلي الخيارات المتاحة أمام صانع القرار الأوروبي في كل مسار على حدة: 

1) إعطاء الثقة الكاملة للشركات الصينية: يتعين على صناع القرار الأوروبيين في هذا المسار أن يعملوا على صياغة خيارات سياسية أكثر مرونة، تقبل قدراً أعظم من الاعتماد على المنتجات الصينية، وسيفعلون ذلك وهم واثقون من أنهم سيحصدون فوائد انخفاض أسعار تلك المنتجات لصالح المستهلك الأوروبي؛ ومن ثم، سيعزز هذا الأمر سهولة وسرعة التحول الأخضر. وبتطبيق هذا المسار على قطاع إنتاج السيارات الكهربائية؛ فإنه من المتوقع أن تحفز أوروبا الشركات الصينية على الإنتاج في أوروبا؛ إذ ستكون تلك الشركات سوقاً واعدة للعمالة الأوروبية.

2) انعدام الثقة في الشركات الصينية: إن نهج التخلص من المخاطر في هذا المسار سيكون الأكثر صرامة؛ إذ سيتم تجنب التعامل مع الشركات الصينية قدر الإمكان في مجال التكنولوجيا الخضراء، وسيتعين على صناع السياسات أن يستفيدوا من كل الموارد الأوروبية الممكنة، حتى لو كان ذلك على حساب ارتفاع أسعار المستهلك الأوروبي، أو حتى تحقيق أهداف المناخ بشكل أبطأ. وفي هذا السياق، سيحتاج القادة الأوروبيون إلى فرض تعريفات عالية على المنتجات الصينية لحماية الصناعات القائمة في أوروبا وبناء سلاسل توريد جديدة مع دول ثالثة صديقة مثل: الهند أو إندونيسيا أو كوريا الجنوبية أو اليابان أو فيتنام.

3) الطريق الثالث: يحمل نهج التخلص من المخاطر في هذا المسار عنوان: "لا نثق في الشركات الصينية... ولكن"، بمعنى أنه لا يمكن التعامل مع الشركات الصينية دون انتقائية وحذر وتأكد من أن المجالات التكنولوجية ليست ذات صلة بالأمن القومي أو السيبراني. وفي هذا المسار، يمكن انتقاء التعامل مع بعض الشركات الصينية العاملة في مجال التكنولوجيا الخضراء، مع ضرورة منع استيراد أية أجهزة قد يكون لها أي اتصال بشبكات ذكية في المستقبل. وبدلاً من التخلي الفوري عن الواردات الصينية، يمكن تقليل الاعتماد بشكل تدريجي من خلال وضع خطط زمنية من شأنها ألا تُسبب أزمات دبلوماسية مع الاتحاد أو -على أقل تقدير- تجعل الأخير مؤهلاً للاعتماد على نفسه عبر مزيد من الابتكار أو تنويع وارداته. 

محددات اتخاذ القرار: 

إذا كان الطريق الثالث يبدو أحد البدائل الأكثر توازناً وعقلانية تجاه التعامل مع التكنولوجيا الخضراء الصينية، فإن معيار نجاح السير في هذا الطريق يتطلب أن يقوم قادة الاتحاد الأوروبي بما يلي:

1- وحدة القرار الأوروبي: يتعين على زعماء الاتحاد التنسيق الكامل فيما بينهم بشأن ضرورة أن تكون عملية صنع القرار الأوروبية متوافقة مع مبدأ الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، والذي يهدف إلى بناء السيادة الأوروبية مع اتخاذ خطوات لتعزيز الكتلة ككيان جيوسياسي موحد، وخاصة مع تنامي الحديث بأن الكتلة ليست كتلة واحدة في نهاية المطاف؛ فهناك خلافات داخلية مثيرة للانقسام في المناقشات الداخلية للاتحاد الأوروبي حول نهج التخلص من المخاطر، فعلى سبيل المثال، تحتاج ألمانيا إلى أن تقرر ما إذا كانت قادرة على تحمل الانتقام المحتمل لبكين من مصنعي السيارات لديها باسم حماية شركات صناعة السيارات في الاتحاد الأوروبي بشكل عام، أم ستستمر في سياساتها الداعمة لمصلحتها الوطنية.

2- انضباط القواعد: يجب أن يواكب الأوروبيون التطورات المتعلقة بمجال صناعة التكنولوجيا الخضراء عبر تحديد قواعدهم الخاصة، واستخدام قوتهم في السوق، وتوليد الإرادة السياسية التي من شأنها أن تعكس تبني الاتحاد الأوروبي نهجاً شاملاً وأكثر حزماً في التعامل مع أية مسائل قد تُفضي نحو الإكراه الاقتصادي. 

3- استعراض المخاطر: يتعين على صُناع القرار الأوروبي توضيح وتوحيد مدركاتهم بشأن المخاطر لتوفير وجهة نظر أكثر وضوحاً تجاه تعقيدات الخيارات المتاحة، بدلاً من ترك المخاطر لتوظيفها سلبياً من قبل الأحزاب اليمينية الشعبوية الموجودة على الهامش السياسي. وبوجه عام يمكن تصنيف مخاطر التكنولوجيا الخضراء على النحو التالي:

شكل (1) 

الطريق الثالث:

 يمكن القول إن مجالي الألواح الشمسية والمركبات الكهربائية من أفضل المجالات التي يمكن من خلالها رسم العلاقة المستقبلية بين بكين وبروكسل، وذلك على النحو التالي: 

أولاً: الألواح الشمسية (Solar Panels)

أ‌) تقييم المخاطر: يواجه الأوروبيون مخاطر اقتصادية وسياسية بشأن صناعة الألواح الشمسية، فمن الناحية الاقتصادية، تُعد الصين الفاعل الرئيسي في سلاسل التوريد المتعلقة بمكونات ألواح الطاقة الشمسية الكهروضوئية حول العالم، ولاسيما أنها تنتج ثلثي المعروض من البولي سيليكون في العالم. كما أن تقلص تكاليف إنتاج وحدات الطاقة الشمسية في الصين إلى 0.15 دولار/واط - مقارنة بـ0.30 دولار/واط في أوروبا و0.40 دولار/واط في الولايات المتحدة أمر في صالح الصين في الوقت الذي يزداد فيه الطلب الأوروبي على الطاقة البديلة نتيجة انخفاض إمدادات النفط الروسي منذ عام 2022. ومن الناحية السياسية، يواجه الأوروبيون معضلة ترتبط بتصنيع نحو 35% من البولي سيليكون العالمي في مقاطعة شينجيانغ الصينية، وهي المقاطعة التي تُعد محل انتقاد دائم من قبل منظمات المجتمع الدولي؛ بسبب العمل القسري وغيره من انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث داخل الإقليم ضد الأقليات العرقية؛ الأمر الذي يُحرج الأوروبيين نتيجة التواطؤ مع الممارسات الصينية من خلال شراء المنتجات من تلك المقاطعة.

ب‌) الأدوات المتاحة: إن الاتحاد الأوروبي ليس عاجزاً على نحو كلي بشأن هدف تقليل الاعتماد المفرط على الصين في مجال صناعة الطاقة الشمسية، فهناك بعض الآليات التي يمتلكها الاتحاد التي يمكن أن تُسهم في تعزيز قدراته لتطوير هذا المجال، ولعل أهمها:

- خطة الاتحاد الأوروبي (REPowerEU): والتي تهدف إلى تسريع تمويل التحول الأخضر؛ إذ تتضمن ما يقرب من 300 مليار يورو جاهزة للإنفاق في قطاعات طاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرها من قطاعات الطاقة المتجددة.

- صندوق الابتكار الأوروبي: والذي تبلغ قيمته 40 مليار يورو؛ ويهدف إلى خلق استثمارات في الجيل التالي من تكنولوجيات الطاقة الشمسية.

- قانون الصناعة الصفرية الصافية: الذي يجبر دول الاتحاد الأوروبي على تنويع مصادرها من الألواح الشمسية، فضلاً عن هدفه المتمثل في أن تصل سعة التصنيع بالاتحاد الأوروبي للتقنيات خالية الانبعاثات إلى 40% على الأقل بحلول 2030.

ج‌) البحث عن حلول وسط: من المهم تنويع مصادر واردات الاتحاد الأوروبي من الألواح الشمسية، وهي خطوة ستخلق فرصاً لشراكات جديدة مع المنتجين الناشئين في بلدان ثالثة، وفي الوقت ذاته، فإنه من الضروري الاستمرار في تقديم إعانات دعم ضخمة للشركات الأوروبية العاملة في مجال الطاقة الكهروضوئية، علاوة على تقديم مزيد من الإعفاءات الضريبية؛ مما يحفز الأوروبيين على التوسع في هذا القطاع. 

ثانياً: المركبات الكهربائية (Electric vehicles) 

أ‌) تقييم المخاطر: إذا استمر الاعتماد الأوروبي بشكل مفرط على السيارات الكهربائية الصينية؛ فإن الاتحاد الأوروبي يواجه أمرين في منتهى الخطورة: الأول يكمن في القدرات التنافسية لصالح الصين، فلا شك في أن الأسعار المنخفضة للسيارات الصينية إلى جانب التحسن السريع في جودتها عوامل قد تُشكل خطراً هائلاً على منافسة صناعة السيارات الأوروبية، التي توظف نحو 13.8 مليون شخص بشكل مباشر وغير مباشر. في حين أن الخطر الثاني يعكس أبعاداً أمنية؛ إذ إن تلك السيارات مجهزة بمصفوفات من أجهزة الاستشعار التي تراقب الجزء الداخلي للسيارة والمناطق المحيطة بها؛ مما يُنذر بأن تلك السيارات ستكون كنزاً من البيانات الحساسة التي قد يتم نقلها من أوروبا إلى الصين؛ وهو ما يثير تساؤلات جدية حول مخاطر التجسس والمراقبة وغيرها من تهديدات الأمن السيبراني التي قد تهدد يوماً ما الأمن القومي الأوروبي. 

ب‌) الأدوات المتاحة: يبدو أن صندوق أدوات الاتحاد الأوروبي في هذا القطاع فقير، ولا يحتوي على أدوات فعالة لمقاومة الهيمنة الصينية على سوق السيارات الكهربائية العالمية، ومع ذلك، فإن إعلان المفوضية الأوروبية في 13 سبتمبر 2023 عن فتح تحقيق رسمي بشأن فرض رسوم جمركية لحماية المنتجين المحليين من فيضان واردات السيارات الكهربائية الصينية الرخيصة التي تستفيد من الإعانات الحكومية، يُعد بمثابة "بارقة أمل" من شأنها أن تساعد على التحقق من العواقب المحتملة للاستمرار في الاعتماد على السيارات الكهربائية الصينية. 

ج‌) البحث عن حلول وسط: يمكن للأوروبيين تنويع وارداتهم من السيارات الكهربائية، فبدلاً من استمرار شكواهم بشأن ارتفاع تكلفة الواردات من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، أو الاقتصار على واردات السيارات الصينية، يمكن توجيه الأنظار إلى شركات السيارات الكهربائية في الهند أو فيتنام مثل: شركتي "تاتا" (Tata) الهندية أو "فين فاست" (VinFast) الفيتنامية. ومن المهم أيضاً تقديم إعانات دعم سخية لمصنعي السيارات الأوروبية الكهربائية؛ لإنتاج سيارات بأسعار معقولة تكلف أقل من 17 ألف يورو، في محاولة على الأقل لتضييق فجوة الأسعار مع المنتجات الصينية.

وإذا كان مسار الطريق الثالث هو الأفضل للابتعاد عن التصادم مع الصين، فإن المخاطر الأمنية في قطاع السيارات الكهربائية، والتي قد تمتد لمراقبة أوروبا والتجسس عليها وسرقة بياناتها، تجعل من الصعب اتباع نهج وسطي فقط دون سرعة اتخاذ حلول جذرية لوقف طموحات الصين العالية بشأن تغذية السوق الأوروبية بالسيارات الكهربائية، فمن الأفضل للأوروبيين حالياً اتخاذ حلول عاجلة وإن كانت غير تصادمية؛ لتضييق فجوة المنافسة وحماية الأمن الأوروبي.

وفي الختام، على الرغم من أن الطريق الثالث هو المسار الأكثر عقلانية وتوازناً تجاه الصين؛ إذ سيحول دون تفاقم الخلافات السياسية بين بروكسل وبكين؛ فإن التحدي الأكبر في الاتحاد الأوروبي يبقى "سياسياً" بالأساس؛ بسبب عدم التوافق الأوروبي بشأن كيفية التعامل مع بكين، خاصة أن حالة عدم التوافق تأتي بسبب أمرين يتعلقان بتفضيل المصلحة الوطنية على حساب المصلحة فوق القومية؛ إذ يتعلق الأمر الأول بعدم وحدة التكتل الأوروبي في عملية صنع القرار، فهناك دول مثل المجر لا ترغب في اتخاذ مواقف صارمة ضد الصين، ولا تعنيها الأهداف المناخية الطموحة لأوروبا أو المخاوف التي تتعلق بالأمن الاقتصادي الأوروبي، في حين يرتبط الأمر الثاني بتصاعد قوة وشعبية تيار اليمين الأوروبي، مع توقعات بأن يكون هذا التيار، الذي حصل على نتائج إيجابية خلال انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024 أكثر مرونة وتسامحاً مع الصين في سبيل تحقيق أهدافه، والتي تبتعد تماماً عن أهداف أحزاب الخضر والتكتلات الليبرالية الطموحة بشأن الأهداف المناخية. وعليه، يمكن القول إن صناعة القرارات الأوروبية ستجد صعوبة سياسية خلال الفترة المقبلة في النظر إلى فرض تدابير تلزم الشركات الصينية بإثبات امتثالها لقواعد أمن البيانات في الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل الوصول إلى توافقات بشأن الحد من الاعتماد المفرط على شركات صناعة السيارات الصينية.

ومجمل القول، إنه إذا كانت التحديات السياسية تقف عائقاً للمضي قدماً في تنفيذ نهج التخلص من المخاطر فيما يتعلق بالتكنولوجيا الخضراء الصينية؛ فإن الخروج من عنق الزجاجة، بما في ذلك تحويل مبادئ التخلص من المخاطر إلى سياسات فعلية، لا يحتاج إلى زعامة أوروبية قوية أو إجماع بقدر ما يحتاج إلى الدفع السياسي الجذري نحو سياسة صناعية أوروبية شاملة تتبع خطى الصين والولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ ستكون الحل الوحيد لتعزيز وحدة التكتل ونهضته من جديد من خلال التمتع بثمار العوائد الاقتصادية من القطاع الصناعي المتقدم.