• Login

مُعضلة التوازن:

صعوبات الوساطة التركية لإحياء اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية

08 September 2023


أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 31 أغسطس 2023 زيارة إلى موسكو، هي الأولى له لروسيا منذ توليه منصبه، والتقى خلالها نظيره الروسي سيرغي لافروف، ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو. وسبق تلك الزيارة، زيارة أخرى لرئيس الدبلوماسية التركية إلى كييف، في 25 أغسطس، التقى خلالها نظيره الأوكراني دميترو كوليبا، وأيضاً مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وقد ناقش فيدان خلال الزيارتين، العلاقات الثنائية، بالإضافة إلى بحث إحياء صفقة حبوب البحر الأسود، إلى جانب محاولة دفع الجهود لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية. 

أبعاد التوقيت 

تتزامن زيارة وزير الخارجية التركي إلى موسكو وكييف، مع العديد من الأبعاد التي يمكن تناول أبرزها فيما يلي:

1- لقاء بوتين وأردوغان: جاءت تلك الزيارة قبل أيام من اللقاء الذي جمع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في منتجع سوتشي جنوب روسيا، في زيارة هدفت لإحياء صفقة حبوب البحر الأسود، بعد أن انسحبت روسيا، منها في 18 يوليو 2023، وهو ما أسفر عن أزمة في واردات الغذاء العالمية، وكذلك مناقشة أسباب انسحاب موسكو من الصفقة ولاسيما العقبات؛ التي تواجه صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة. 

2- بديل القمح الأوروبي: أفرزت أزمة صفقة الحبوب الأوكرانية، بعد انسحاب موسكو منها، تزايد دور القمح الأوروبي كبديل للقمح الروسي، ولاسيما وأنه يتم بيعه بأسعار أرخص، الأمر الذي بدأ في تقويض المنافسة الروسية، بعد توجه البلدان التي كانت تشتري القمح في السابق من روسيا بشكل رئيسي، ومن بينها مصر، في التحول إلى دول الاتحاد الأوروبي المطلة على البحر الأسود؛ وأبرزها رومانيا وبلغاريا، الأمر الذي تشير بعض التقديرات إلى أنه قد يكون سبباً في إقناع موسكو وكييف بإبرام صفقة حبوب جديدة من أجل مصلحتهما المشتركة.

3- انفراجة بين أنقرة والغرب: تشهد الفترة الأخيرة انفراجة في العلاقات بين أنقرة والغرب، فقد كشفت وكالة "نوفوستي" الروسية عن وجود مفاوضات أمريكية تركية حول بدائل لصفقة الحبوب، كما أن أنقرة تواصل اتصالاتها مع الأمم المتحدة والغرب لاستئناف الصفقة، وفي أحدث مؤشرات التقارب وتحسن العلاقات بين واشنطن وأنقرة، وصلت حاملة الطائرات الأمريكية "يو أس أس جيرالد آر فورد"، أكبر حاملة طائرات في العالم، لمدينة أنطاليا جنوب تركيا، في 27 أغسطس 2023، وذلك لإجراء أكبر مناورات عسكرية مشتركة لهما منذ 7 سنوات على الأقل.

4- خطة كييف: بالرغم من توقف صفقة الحبوب بعد انسحاب موسكو، فإن كييف لم تكف عن محاولاتها لإيجاد وسائل بديلة لتصدير الحبوب تتضمن طرقاً جديدة، وذلك بمساعدة أنقرة، فقد بدأت في 17 أغسطس 2023 خطتها لمنع موسكو عرقلة تصدير حبوبها للعالم، إذ وصلت أول سفينة شحن لميناء أمبارلي في إسطنبول قادمة من ميناء أوديسا الأوكراني المطل على البحر الأسود. 

فرص نجاح الوساطة: 

يلوح في الأفق العديد من فرص نجاح أنقرة في أداء دور الوساطة لاستعادة صفقة الحبوب الأوكرانية، وتتمثل أبرز تلك الفرص فيما يلي:

1- إصرار تركي: على مدار أسابيع يكافح أردوغان وحكومته بإصرار من أجل إحياء صفقة تصدير الحبوب، الأمر الذي ظهر جلياً في الجهود والمحادثات التركية المكثفة مع كافة الأطراف الدولية، واجتماعات وزير خارجية أردوغان في موسكو وكييف؛ التي أكد خلالها أنه لا بديل عن الصفقة، فضلاً عن اللقاء الذي جمع أردوغان ببوتين؛ إذ تُشير بعض التقديرات التركية لدور هذا اللقاء في استعادة موسكو للصفقة. 

2- تنسيق روسي تركي: رغم ما طرأ على العلاقات بين الجانبين التركي والروسي خلال الفترة الأخيرة من شوائب، فإن الجانبين يحرصان على الحفاظ على العلاقة المميزة التي تربطهما في ضوء المصالح المشتركة، وظهر أحدث مؤشرات ذلك في اقتراح روسيا في مطلع سبتمبر الجاري عقد اتفاق بين النظام السوري وتركيا يسمح ببقاء القوات التركية على الأراضي السورية بشكل شرعي، وذلك بعد أن أعلن وزير الخارجية الروسي أن بلاده تثمن سياسة أنقرة الخارجية، فضلاً عن أنه قد أعلن عن التزام بلاده بزيادة صادراتها من الغاز لتركيا وإنشاء مركز غاز هناك، ولاسيما وأن وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، قد أعلن في 28 أغسطس 2023 أن بلاده تجري محادثات مع روسيا وكوريا الجنوبية فيما يتعلق بإنشاء محطة نووية في إقليم سينوب بشمال البلاد، بالإضافة لذلك فإن اجتماع بوتين وأردوغان ينُم عن اهتمام القيادة السياسية في كلا البلدين بالحفاظ على التنسيق والتعاون بينهما.

3- وساطة شاملة: لم يسع أردوغان لأداء الوساطة في صفقة الحبوب فقط، بل يعتبر من أبرز جسور التواصل بين جميع الأطراف لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، في إطار مساعيه لعقد لقاء مباشر بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تركيا، فيما أكد في 23 أغسطس 2023 أن بلاده تبذل جهوداً حثيثة لإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين موسكو وكييف بهدف إنهاء الحرب واستعدادهما للجلوس إلى طاولة المفاوضات.

4- مكاسب اقتصادية وسياسية: ترجح بعض التقديرات عودة موسكو لصفقة الحبوب من خلال حليفتها أنقرة، لما في تلك الصفقة من مكاسب سياسية واقتصادية لموسكو، إذ تستخدم تلك الصفقة كورقة ضغط ومناورة على الغرب، فضلاً عن احتمالات تنفيذ الجزء الثاني من الصفقة المتعلق بوصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، بالإضافة لاحتمالات تنفيذ صفقة طحن الحبوب الروسية التي سيتم إرسالها لأنقرة لتحولها إلى دقيق لنقلها فيما بعد إلى الدول الإفريقية، والتي أعلنت عنها الأخيرة في 8 أغسطس 2023.

5- دعم دولي: أكد كبير مستشاري أردوغان، عاكف تشاغاطاي قليتش، أن بلاده تتلقى دعماً قوياً من جميع أنحاء العالم لإحياء صفقة الحبوب، الأمر الذي قد يسهم في زيادة فرص نجاح وساطة أنقرة لإحياء الصفقة، ولاسيما وأن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، قد أكد أيضاً أن الاتحاد يواصل دعم الجهود الدؤوبة لتركيا والأمم المتحدة لضمان استئناف الصفقة.

معوقات الوساطة:

بالرغم من فرص نجاح وساطة أنقرة لاستعادة صفقة الحبوب، فإنه لا تزال هناك بعض المعوقات التي تظهر أبرزها فيما يلي: 

1- شروط موسكو وتعنتها: على الرغم من إعلان موسكو استعدادها استئناف العمل بصفقة الحبوب مباشرة عقب استيفاء كافة بنودها المتعلقة بالجانب الروسي، فإن شكوك موسكو لا تزال قائمة بشأن تنفيذ الغرب لتلك البنود؛ إذ أكد وزير الخارجية الروسي أنه لا توجد مؤشرات على احترام الغرب للجزء الذي يؤثر في بلاده من الصفقة، فضلاً عن ذلك فإن موسكو تظهر بعض التعنت باتجاه العودة لتلك الصفقة، فعلى الرغم من الإعلان عن مقترح يقدم بديلاً لصفقة الحبوب؛ يقضي بإرسال موسكو مليون طن من الحبوب لأنقرة بسعر مخفض بدعم مالي من الدوحة، ثم يتم معالجتها في أنقرة وإرسالها للدول الأكثر احتياجاً،  لكن المتحدث باسم الكرملين، خرج لينفي وجود اتفاق جاد بهذا الصدد خلال الوقت الراهن، رغم تأكيده وجود خيارات تعاون مختلفة تشارك بها قطر.

2- ملفات خلافية: تواجه العلاقات الروسية التركية بعض الملفات الخلافية التي قد تسهم في إضعاف وساطة أنقرة في صفقة الحبوب، ومن بين أبرز تلك الملفات، التنافس بين البلدين على مناطق النفوذ في البحر الأسود؛ فلدى أردوغان مخاوف طويلة الأمد من أن البحر الاستراتيجي لا ينبغي أن يكون بحيرة روسية، فضلاً عن تكرار أردوغان عدم اعتراف بلاده بضم القرم لروسيا ودعم وحدة الأراضي الأوكرانية، وفي أبرز المؤشرات الملموسة للخلاف، داهمت القوات الروسية في 13 أغسطس 2023 سفينة شحن متجهة لكييف يملكها مواطن تركي ويديرها طاقم تركي في المياه الدولية في البحر الأسود، قبالة الساحل التركي، الأمر الذي فسرته بعض التقديرات على أنه اختبار من موسكو لعزيمة أردوغان، مما قد يزيد من مخاطر مساعيه لإقناع موسكو بالعودة إلى صفقة الحبوب.

3- معضلة تحقيق التوازن: تواجه أنقرة معضلة كبيرة في تحقيق التوازن بين روسيا والغرب، إذ تعتبر موسكو حليفاً استراتيجياً قوياً، وترتبط معها بعلاقات متينة للغاية على كافة المستويات، بيد أنها بحاجة أيضاً لعلاقاتها مع شركائها الغربيين؛ الذين ترتبط معهم في حلف "الناتو"، وما يزيد من حدة تلك المعضلة، ما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال" بشأن خطط واشنطن اتخاذ إجراءات صارمة ضد أنقرة لدعمها موسكو في تخطي العقوبات الغربية، إذ يسجل التعاون الروسي التركي مستويات غير مسبوقة رغم هذه العقوبات، على الرغم من التقارب الحالي بين أنقرة والغرب.

4- إلغاء زيارة بوتين: كان من المقرر أن يزور بوتين أنقرة خلال أغسطس 2023، ولكن تم إلغاء تلك الزيارة لأسباب غير معلنة، وبدل من ذلك قرر الاجتماع مع أردوغان في مدينة سوتشي الروسية، في مؤشر على توتر العلاقات حتى ولو بدرجة غير كبيرة، فضلاً عن زيادة عدم ثقة بوتين في أردوغان وقلقه من زيارة دولة من دول حلف "الناتو" الذي يفرض عليه عقوبات دولية منذ الحرب الروسية الأوكرانية، ولاسيما بعد الخطوات المختلفة التي اتخذتها أنقرة، وتمهيد الطريق أمام توسع "الناتو".

وفي التقدير، يمكن القول إنه في ضوء معطيات الموقف الراهن فإنه يبدو أن الوساطة التركية، والتي تمثلت في التحركات التي قام بها وزير الخارجية التركي، والتي أعقبتها زيارة الرئيس التركي إلى روسيا ولقائه بوتين في سوتشي، قد فشلت، وهو ما يؤكده موقف روسيا الرافض للعودة لاتفاق الحبوب إلا بعد تحقيق مطالبها سواءً المتعلقة بتأمين السفن المستخدمة لنقل الحبوب الروسية عبر الموانئ الأوروبية، أم بربط البنك الزراعي الروسي بنظام "سويفت" المالي العالمي.