• Login

رسائل متناقضة :

هل إيران جادّة في رغبتها بالعودة للمفاوضات النووية؟

04 September 2023


طالب المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، بمواصلة العمل على دفع جهود إحياء الاتفاق النووي مع الغرب، ورفع العقوبات المفروضة على بلاده، بالتوازي مع السعي لإبطال مفعول تلك العقوبات التي تؤثر في الظروف المعيشية للمواطنين، جاء ذلك خلال لقائه الرئيس الإيراني وأعضاء حكومته في الأربعاء 30 أغسطس 2023. 

أبعاد مُحيطة: 

يحيط بهذا التصريح من جانب المرشد الأعلى في إيران، عدد من السياقات، يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

1. تمسك طهران بتخصيب اليورانيوم بمعدلات مُرتفعة: قال رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي، في 27 أغسطس 2023، إن تخصيب إيران اليورانيوم مُستمر على أساس إطار العمل الذي وضعه البرلمان الإيراني، في إشارة إلى مواصلة طهران تخصيب اليورانيوم بنسب عالية، في ضوء قانون المبادرة الاستراتيجية لمواجهة العقوبات، الذي أقره البرلمان الإيراني في عام 2020، والذي يُلزم الحكومة باتخاذ تدابير من شأنها تعزيز عمليات تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز الحد المسموح به في الاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة (5+1) في 2015، وهو 3.67%، إذا لم تلتزم باقي الأطراف بما نصّ عليه الاتفاق. وقد أسفر انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018، عن اتجاه إيران إلى تخصيب اليورانيوم بمعدلات وصلت إلى نحو 84% في فبراير 2023، وهو مستوى يقترب من المستوى اللازم لإنتاج وقود يستخدم في صناعة القنبلة الذرية. كما تزامن التصريح مع إعلان طهران إنتاج النواة المُشعة لعنصر السيزيوم- 137، لأول مرة، وهي مادة تنتج من انشطار ذرة اليورانيوم، بما يُؤشر على استمرار تقدم برنامج إيران النووي.

وقد جاءت تلك التأكيدات من جانب إيران، رداً على ما كشفت عنه صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، من أن إيران أبطأت بشكل كبير وتيرة تخزين اليورانيوم المُخصّب بمستويات عالية، وقلصت بعض مخزونها، بما يعني أنها رسالة من جانب طهران بأنها ليست في وارد التنازل عن الورقة النووية، باعتبارها الورقة الأهم في مواجهة الضغوط الغربية. 

2. استمرار التقدم الصاروخي البالستي: تواصل طهران تطوير قدراتها الصاروخية البالستية، إذ أعلن المدير التنفيذي لمنظمة الرفاه الاجتماعي في القوات المُسلحة، مجيد ابن الرضا، في 17 أغسطس 2023، إن إنتاج الصواريخ الإيرانية زاد بنسبة 64%، وقد أعلنت وزارة الدفاع الإيرانية، في 22 من نفس الشهر، عن انضمام صاروخي "خرمشهر" "وقاسم سليماني"، البالستييْن إلى القوات المسلحة الإيرانية والقوات الجوية التابعة للحرس الثوري الإيراني إلى جانب الطائرة المسيرة الأحدث "مهاجر 10"، والقادرة على التحليق لمدة 24 ساعة على ارتفاع يصل إلى 7 آلاف متر بسرعة 210 كيلومترات ومدى يصل إلى ألفي كيلومتر. وقد سبق ذلك، إعلان إيران، في 6 مايو 2023، إنتاج أول صاروخ بالستي فرط صوتي يعمل بالوقود الصلب، باسم "فتّاح". 

ويُثير تقدم البرنامج الصاروخي البالستي غضب واشنطن والأطراف الأوروبية، والتي تنظر إليه باعتباره انتهاكاً لبنود القرار الأممي رقم 2231، الذي يدعو إلى التوقف عن "أي نشاط" يتعلق بالصواريخ البالستية القادرة على حمل أسلحة نووية. وفرضت الأطراف الغربية حزماً عديدة من العقوبات على إيران جراء تطوير برنامجها الصاروخي، وكان آخرها إعلان وزارة الخزانة الأمريكية، في 6 يونيو 2023، فرض عقوبات على 7 أفراد و6 شركات في إيران والصين؛ لارتباطها ببرنامج الصواريخ البالستية الإيراني. بالإضافة إلى إبلاغ طهران بخطة الاتحاد الأوروبي للإبقاء على عقوبات الصواريخ البالستية المُقرر أن تنقضي في أكتوبر 2023 بموجب الاتفاق النووي لعام 2015.

3. الحديث عن تفاهمات سرية بين طهران وواشنطن: توصلت إيران والولايات المتحدة أخيراً إلى اتفاق يقضي بنقل خمسة مُحتجزين أمريكيين في إيران إلى مقر الإقامة الجبرية داخل إيران تمهيداً لإطلاق سراحهم لاحقاً، مقابل الإفراج عن أموال إيرانية مجمدة من عائدات النفط لدى كوريا الجنوبية تقدر بنحو 6 مليارات دولار، والإفراج عن محتجزين إيرانيين في الولايات المتحدة بسبب انتهاكهما للعقوبات المفروضة على طهران. إلا أن تقارير إعلامية قد أشارت، خلال الفترة الأخيرة، إلى أن هذه التفاهمات قد شملت أيضاً الحد من تخصيب اليورانيوم بنسب مُرتفعة، ووقف إمداد طهران لموسكو بالطائرات المُسيّرة التي تستخدمها الأخيرة في حربها ضد أوكرانيا، في مقابل تخفيف القيود المفروضة على صادرات النفط الإيراني، والإفراج عن أموال إيرانية مجمدة بالخارج، وهو ما حدث بالنسبة للأموال الإيرانية لدى كوريا الجنوبية والعراق. إلا أنه، وكما تمت الإشارة آنفاً، فإن طهران قد نفت صحة الأنباء عن خفض وتيرة تخصيب اليورانيوم، كما سعت طهران إلى نفي تراجع تعاونها العسكري مع روسيا، عقب الزيارة التي أجراها وفد عسكري إيراني برئاسة قائد القوات البرية العميد كيومرث حيدري إلى موسكو، للقاء نظيره أوليغ ساليوكوف، وتأكيد موسكو أن التعاون بين الجانبين "لن يخضع لإملاءات واشنطن وتوابعها". 

دلالات مُتعددة: 

في ضوء المعطيات السابقة، فإن التصريحات الأخيرة للمرشد الأعلى في إيران، تُشير إلى عدد من الدلالات، يمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:

1. الحفاظ على خيار العودة للتفاوض: رغم ما تبديه إيران من تشدد في الملفات الخلافية مع واشنطن والأطراف الغربية، فإن ذلك لم يمنعها من تأكيد استعدادها للعودة إلى طاولة التفاوض مع تلك الأطراف، وهو ما بدا في التصريحات الأخيرة للمرشد الإيراني، والتي سبقها تصريحات مماثلة في 11 يونيو 2023، أبدى فيها خامنئي عدم ممانعته إبرام اتفاق مع الغرب حول برنامج إيران النووي. وفي ذات السياق، فقد تعهد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، قبيل توجهه للمشاركة في قمة "بريكس" بجنوب إفريقيا، في 24 أغسطس 2023، بالمضي قدماً في مفاوضات إحياء الاتفاق النووي. 

وربما أغرى طهران الاتفاق الأخير الذي توصلت إليه مع واشنطن بشأن تبادل السجناء، وما سيسفر  عنه من الإفراج عن أموالها المجمدة في كوريا الجنوبية، بإمكانية التوصل إلى اتفاق حول البرنامج  النووي معها، يرفع عنها نير العقوبات المفروضة عليها، ولاسيما بالنظر إلى تصريح رئيس هيئة الطاقة النووية الإيرانية المُشار إليه، والذي أردفه بأن طهران تستعد لزيارة مرتقبة من جانب مُساعد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما قد يؤشر على احتمالية تعاون طهران مع الوكالة، خاصة فيما يتعلق بالملف الخاص بالتحقيق في أربعة مواقع نووية سرية، قامت إيران بتقديم توضيحات بشأن اثنيْن منها، في مايو 2023، خاصة مع اقتراب الاجتماع الفصلي لمجلس محافظي الوكالة في سبتمبر 2023. 

2. تمسك واشنطن بالدبلوماسية: ما زالت الولايات المتحدة متمسكة بالدبلوماسية في التعامل مع إيران، باعتبارها خياراً مفضلاً لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، منذ توليها زمام الأمور في البيت الأبيض، في يناير 2021. وقد رحّب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بما تناقلته وسائل الإعلام بشأن إبطاء إيران وتيرة تخصيبها لليورانيوم، رغم عدم تأكيده صحة ما جاء في تلك التقارير، وهو أمر يتماشى مع التصريحات التي كان قد أدلى بها الوزير نفسه من قبل، بتأكيده تمسك بلاده بالخيار الدبلوماسي في التعامل مع إيران.

هذا إلى جانب أن انخراط المسؤولين الأمريكيين في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع المسؤولين الإيرانيين، في كل من نيويورك ومسقط، خلال الأشهر القليلة الماضية، يُعبر عن التوجه الأمريكي باستمرار تفضيل هذا الخيار في التعامل مع إيران، وإن كان هذا الأمر يواجه بمعارضة من جانب نواب الكونغرس، الذين يضغطون على إدارة بايدن لاتخاذ موقف أكثر حزماً مع إيران.

3. محاولة تفادي تجدد الاحتجاجات: تُشير تلك التصريحات من جانب خامنئي إلى رغبة النظام الإيراني في احتواء استياء المواطنين جراء تدهور الظروف المعيشية والاقتصادية، نتيجة لاستمرار العقوبات، خاصة في الوقت الذي يقترب فيه موعد الذكرى الأولى للاحتجاجات التي اندلعت في إيران، في منتصف سبتمبر 2022، على إثر وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني. وقد أكدّ خامنئي، خلال اللقاء مع أعضاء الحكومة، أن خفض التضخم أهم مؤشر لإجهاض العقوبات، مبدياً دعمه لحكومة رئيسي في العمل على تخفيف وطأة تلك العقوبات على حياة المواطنين.

ويتخوف النظام في إيران من تجدد الاحتجاجات، ولاسيما وأن مطالب المتظاهرين لم تتم تلبية أي منها، أي أن مسببات تجدد تلك الاحتجاجات ما زالت موجودة، لذا يسعى النظام في الوقت الراهن إلى تحقيق مكتسبات على المستوى الخارجي، مثل الانضمام إلى التكتلات الاقتصادية مثل "شنغهاي" و"بريكس"، بالتوازي مع القيام بحملات أمنية واسعة تستهدف النشطاء والمعارضين في الداخل.

4. تعزيز مصداقية الخيار العسكري: رغم تمسك واشنطن بالدبلوماسية في التعامل مع إيران، فإن ذلك يتم بالتوازي مع إيصالها رسائل تهديد لإيران، إذ عَمدَتْ الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة إلى تعزيز حضورها العسكري في المنطقة، في محاولة لردع إيران، وخاصة محاولات الاستيلاء ومهاجمة السفن والناقلات التجارية التي تمر عبر الممرات الرئيسية في المنطقة، وفي القلب منها الخليج العربي ومضيق هرمز، ومنها على سبيل المثال الإعلان عن إرسال 3 آلاف جندي من المارينز لنشرهم على متن تلك الناقلات لحمايتها من هجمات القوات الإيرانية، وإرسال مقاتلات من طرازي "أف- 16" و "أف- 35" وبوارج وقطع حربية أخرى إلى المنطقة.

ومن جهة أخرى، عاودت إسرائيل هجماتها على المواقع التابعة لمليشيات إيران داخل سوريا، خلال الأسابيع الأخيرة، وذلك لحرمان إيران من استغلال سوريا جبهة متقدمة لتهديد أمن إسرائيل، إذ قصفت مطار حلب، في 28 أغسطس 2023، مما تسبب في أضرار بمدرج المطار وخروجه من الخدمة، وقد سبق ذلك بأسبوع، قصف ثلاثة مواقع في محيط دمشق، أسفر عن مقتل شخصيْن.

ولا شك أن واشنطن تضغط باستخدام تلك الأدوات على إيران، بأنه في حال لم تبد مرونة بشأن شروطها في المفاوضات، فإن البديل سيكون التصعيد العسكري ضدها، أو منح الضوء الأخضر الإسرائيلي لتنفيذ هجمات ضد منشآتها النووية. 

سيناريوهات مُتوقعة: 

من الممكن أن تسفر تلك التطورات عن تحقيق أحد المسارات التالية:

1. التوصل لاتفاق جزئي: في ضوء استمرار تمسك الطرفان الأمريكي والإيراني بالعودة للتفاوض حول برنامج طهران النووي، فإنه من المرجح أن يتوصل الطرفان لاتفاق جزئي، يسهم من ناحية في الحد من خفض وتيرة تطور البرنامج النووي الإيراني، ويحول دون وصوله للمستويات التي تسمح بصناعة القنبلة النووية، في مقابل تخفيف واشنطن بعض عقوباتها المفروضة على إيران، ولاسيما ما يتعلق منها بالإفراج عن أموال إيرانية في الخارج، أو السماح بتصدير النفط، وربما يدعم هذا السيناريو أن طهران بحاجة إلى التخفيف من الآثار الاقتصادية والمعيشية الصعبة للعقوبات على المواطنين، بما يخفف الضغط على النظام، إلى جانب أن واشنطن قد تقبل بهذا الحل، في ضوء أنه لن يكون بحاجة إلى موافقة الكونغرس، كما أن الإدارة الأمريكية قد اختبرت نوعاً ما الاتفاقات الجزئية مع طهران، من خلال التوصل إلى اتفاق حول تبادل السجناء، دون أن يكون هناك معارضة قوية من جانب الكونغرس. 

2. فشل العودة للمفاوضات: قد يُسفر استمرار تصعيد إيران في ملفيها النووي والصاروخي وإمداد روسيا بالطائرات المسيرة، عن زيادة تشدد واشنطن والأطراف الأوروبية تجاه إيران، والإحجام عن التوصل لأي اتفاق معها، قد يعرض حكوماتها لانتقادات داخلية حادّة، كما أن المتغير الخاص بقرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2024، قد يرجئ أي محاولة أمريكية أو أوروبية للتوصل لاتفاق مع إيران، هذا إلى جانب أن الأخيرة ذاتها قد تكون بحاجة إلى معرفة نتائج هذه الانتخابات المرتقبة، حيث إن قدوم رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض سوف يجعل فرص انهيار أي اتفاق تكون طهران قد توصلت إليه مع واشنطن كبيرة مثلما حدث في عهد ترامب وانسحابه من اتفاق 2015. 

وفي التقدير، يمكن القول إن فرص عودة الطرفين الأمريكي والإيراني إلى الاتفاق النووي ما زالت متاحة، إلا أن كلاً منهما يسعى لتسجيل أكبر قدر من النقاط لصالحه في مواجهة الطرف الآخر، والدليل على ذلك هو استمرار تواصل مسؤولي الطرفين عبر القنوات المختلفة، إلى جانب مواصلة الوساطة الخليجية، عبر سلطنة عُمان ودولة قطر، لتقريب وجهات النظر بين الجانبين، إلا أن ذلك لا يمنع أن تشهد الفترة المقبلة توتراً في العلاقات بين الجانبين الإيراني من ناحية والأمريكي والإسرائيلي من ناحية أخرى، سواءً في سوريا أم العراق أم الخليج.