العوامل الأربعة:

معوقات نشوب حرب مذهبية شاملة في الشرق الأوسط

21 September 2014


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الثاني، سبتمبر 2014.

تنحو العديد من التحليلات والآراء الأكثر تشاؤماً، سواء من داخل إقليم الشرق الأوسط أو من خارجه، إلى أن المنطقة تمر بحالة حرب مذهبية، أو أنها في طريقها إلى الانزلاق إلى حرب طائفية ومذهبية شاملة في أقرب وقت، إذ تشير هذه التحليلات إلى أن تطورات الأوضاع في المنطقة العربية، وتصاعد حدة الصراعات في دول مهمة مثل العراق وسوريا واليمن، وارتباط هذه الدول تحديداً بوجود انقسامات على أساس مذهبي بين السنة والشيعة، إلى أن هناك أزمة قادمة بالفعل.

وتعود هذه الآراء إلى عشر سنوات خلت، شهد إقليم الشرق الأوسط خلالها أحداثاً ضخمة، أفضت بالفعل إلى بروز الانقسامات الداخلية بشكل فجائي ومتسارع، خصوصاً مع تداعيات ما بعد "الثورات" العربية. فالتحذيرات أُطلقت قبل نحو عشر سنوات، وتدور حول "الهلال الشيعي"، ذلك المصطلح الذي أطلقه الملك عبدالله الثاني- ملك الأردن- في حوار مع صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عام 2004، أثناء زيارته للولايات المتحدة، عبرت بالفعل عن تخوفه من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد، تتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال يخضع للنفوذ الشيعي، يمتد إلى لبنان، ويخل بالتوازن القائم مع السنة.

هذه التحذيرات كانت تشير بشكل قاطع إلى التخوف من أن تحل ديكتاتورية شيعية يمثلها نظام الحكم العراقي الجديد محل الدكتاتورية السنية التي مثلها الرئيس العراقي السابق صدام حسين،  وتلتقي مع التوجهات الإيرانية، فيتشكل ذلك الهلال الذي يضم العراق وسوريا ولبنان من خلال حزب الله، وامتداداته التي قد تصل إلى اليمن بتحريك الحوثيين فيها(1).

لقد أعقبت تحذيرات الملك عبدالله الثاني دعوات إلى التفكير في تأثيرها على استقرار المنطقة، من منطلق أن حرباً مذهبية شاملة يمكن أن تنشب، وهو ما ينبئ باحتمالات تغيرات كبرى في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لدول المنطقة، باعتبار أن هذا الهلال الشيعي سيؤدي إلى وجود اصطفاف مذهبي، يقود الدول السنية في المنطقة العربية إلى التكتل بقوة لمواجهة هذا الخطر. وساهم في ترسيخ مثل هذه الرؤية، أن الفترات السابقة شهدت أعلى مظاهر الصدام بين السنة والشيعة، متمثلة في الحرب الإيرانية-العراقية التي اصطفت فيها الدول السنية إلى جانب العراق بعد تهديدات إيران بتصدير الثورة "الإسلامية"؛ وهو ما قاد إلى توتر كبير في علاقات إيران مع أغلب الدول العربية، خصوصاً مصر ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والأردن.

في هذا السياق يذهب هذا التحليل إلى محاولة قراءة الأحداث بصورتها الشاملة في المنطقة، وينطلق من حقيقة أنه على الرغم من أن الأحداث الداخلية في عدد من دول المنطقة تشير إلى حضور الحرب المذهبية، فإنه يؤكد على فكرة أساسية مفادها أن الاصطفاف الراهن ليس اصطفافاً من الأطراف والقوى السنية كافة ضد الأطراف الشيعية كافة - وإن كانت الأخيرة أكثر تجانساً وتقارباً - بل إنه يحمل أيضاً اصطفافات داخلية تتصارع فيها قوى سنية مع قوى سنية أخرى، وقوى شيعية مع قوى شيعية أخرى بدرجات أقل كثيراً، وبصور وأشكال مختلفة(2).

ويعود ذلك إلى أن "الثورات" العربية وتفاعلاتها التالية قد أفرزت مستجدات عميقة التأثير، أوجدت مخاوف جديدة تراجع معها ما كان يُعدُّ من الثوابت التقليدية في السياسة الخارجية لدول المنطقة، فلم تعد إيران هي مصدر التهديد الرئيسي، أو حتى إسرائيل، لتصبح جماعات الإسلام السياسي، خاصة الجهادية والمتطرفة منها، والتي نجحت في ركوب موجة الثورات هي عامل القلق الأول على أمن واستقرار العديد من الدول العربية، بما فيها دول الخليج، لاسيما جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإرهابية التي برزت مؤخراً، خاصة تنظيم "داعش"، لتتوحد دول المنطقة تقريباً ضد خطر ينتمي من الناحية المذهبية إلى الإسلام السني.

أولاً: الانتماء الوطني للشيعة العرب

منذ نشوب الثورة الإيرانية في عام 1979، تحول التوتر المذهبي بين الشيعة والسنة إلى أحد القضايا الرئيسية التي تشغل المنطقة، وتمثل مصدر التهديد الرئيسي لاستقرارها. وشهدت المنطقة سجالات كبرى حول أسئلة مذهبية بحتة، وحول قضايا مجتمعية تتخذ من المذهب وسيلة لتحليل المشكلات وتفسيرها وتبريرها. ومنذ منتصف عام 2003، أي مع الحرب الأمريكية ضد العراق وإسقاط نظام صدام حسين، أصبحت العراق بؤرة أساسية للتوتر المذهبي، وتصاعد الحديث عن الحرب المذهبية الشاملة في المنطقة والهلال الشيعي الذي سبقت الإشارة إليه، مما يعني وجود تخوفات من أن التكتل المذهبي في هذه الحالة قد لا يقتصر على الدول المتحالفة، بل قد يشمل السكان الشيعة الذين يمثلون نسباً مختلفة من سكان عدد من دول المنطقة، ومنها البحرين والسعودية والكويت، والعراق واليمن.

من جانب آخر تتفاوت أوضاع الشيعة في دول المنطقة بين من يصرحون بوجود تمييز تمارسه الحكومة ضدهم مثل البحرين، ومن ينخرطون بشكل واضح في الحياة السياسية كالكويت وإن كانت لهم مطالب بتمثيل أكبر في الحكومة، ومن يسيطرون على الحكومة كالعراق. أما شيعة السعودية فيطالبون بتحسين أوضاعهم، وأن تتاح لهم الفرص لتقلد مناصب عليا في مجلس الوزراء والسلك الدبلوماسي والأجهزة العسكرية والأمنية، ورفع نسبتهم في مجلس الشورى. وبذلك فإن السمة الغالبة للمطالب الشيعية في حالات أغلب دول المنطقة الخليجية أنها لم تتعدَ حدود الوطن. وهناك التزام عام بين شيعة الخليج في عمومهم بانتماءاتهم الوطنية، فهم يؤكدون أنهم جزء من النسيج الوطني الخليجي، وليس لديهم ولاءات سياسية خارجية أو حتى طموحات داخلية من شأنها أن تؤثر في وحدة النظم الخليجية واستقرارها. أما في العراق، فقد تعرض الشيعة للاضطهاد طوال سنوات حكم صدام حسين، وهو ما انعكس على أدائهم في الحكومات التي أعقبت ذلك والتي هيمنت عليها محاولة تعويض سنوات القهر بممارسته على الفئات والطوائف الأخرى، لاسيما السنة.

ويظل التعامل الحكومي مع الشيعة في دول المنطقة المعيار الأساسي الذي يمكن من خلاله الحكم على إمكانية تحول الصراعات الحالية إلى حروب مذهبية شاملة. فقدرة الدولة على التعامل مع مطالب ومشاكل الأقليات الشيعية فيها أساس مهم، ذلك أن الصراع المذهبي لا يستمد وقوده من الوصف الديني أو المذهبي للأقلية، بل من كون الجماعة أقلية تعامل على نحو مختلف عن بقية المواطنين، ما يعني فرص تحول الأقلية إلى مصدر لعدم الاستقرار(3).

ويمكن القول إن العقد الأخير قد شهد تطورات تضمنت منح الشيعة كثيراً من الحقوق والحريات، ففي السعودية مثلاً، أشركت الدولة قوى وشخصيات شيعية في جلسات الحوار الوطني، ونجح البعض منهم في الانتخابات البلدية عام 2005، ووافقت على مطالب الشيعة بإقامة مجلس بلدي منفصل لبلدية القطيف والقرى المجاورة ذات الأغلبية الشيعية.

ثانياً: «الثورات» العربية متغير فارق

يبدو أن المخاوف من "الهلال الشيعي" توارت بدرجة كبيرة مع التفاعلات التي خلفتها أحداث "الثورات" العربية، في المنطقة، بدءاً من عام 2011، فقد ظهر خطر يعتبر أكثر تهديداً من الخطر الإيراني الشيعي، تمثل في وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم. وكانت الدول العربية قد شهدت منذ حرب الخليج الثانية في عام 1991 نمواً كبيراً في الحركات الإسلامية بصفة عامة، وتياراتها المسلحة بصفة خاصة. واستمرت عملية نمو هذه التيارات التي اختلفت من حيث مستويات تشددها ومناهج عملها، فكان من بينها ما يهدف إلى الوصول إلى الحكم، ما دفعها إلى الانخراط في العمل السياسي ودخول الانتخابات، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، كما هي الحال في مصر والكويت والأردن على سبيل المثال. ومثلت مرحلة ما بعد "الثورات" فرصة ذهبية للإسلاميين الذين تمكنوا من الوصول إلى الحكم في مصر وفي تونس، مستفيدين من أخطاء الحكومات السابقة، ومن قدرات تنظيمية كبيرة وتمويل سخي وشبكات للخدمات الاجتماعية في مقابل القدرات المحدودة لقوى المعارضة الأخرى، ولعب الإخوان المسلمون على وتر الدين في الانتخابات، وعقدهم تحالفات مصلحية مرحلية مع قوى إسلامية أخرى، كالسلفيين، وكذلك مع بقايا الأنظمة السابقة لتحقيق هدف الوصول إلى الحكم.

ومع نجاحهم في امتلاك السلطة، بدأ الإسلاميون في لعب دور شديد السلبية في مجتمعاتهم، مستغلين الدين في تمكين هيمنتهم، وفي اتخاذ إجراءات لتقييد المعارضة وإقصائها، ومستغلين في هذا الصراع إشعال خطابات من قبيل: هوية الدولة، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وأسلمة الدولة، لاكتساب الأنصار وإحلال الانتماء الديني الإسلامي محل المواطنة في تغيير واضح لأسس الدولة الحديثة. والأخطر أن الإخوان المسلمين، الذين تنتشر تنظيماتهم في كل الدول العربية تقريباً، حركوا أذرعهم والجماعات التابعة لهم في مسعى لتوسيع نفوذهم وضم مزيد من البلدان، بما في ذلك دول الخليج، إلى نطاق سلطتهم.

هذه الأوضاع أفرزت حالة من عدم الاستقرار السياسي، شملت انعكاساتها دول المنطقة كافة، حيث شهدت مصر مواجهة سياسية حادة بين الإخوان وباقي القوى المدنية والمؤسسات الوطنية مثل القوات المسلحة. وعلى مستوى المنطقة كلها تقريباً، ازداد الأمر تعقيداً بوقوف بعض دول المنطقة، خاصة قطر، بكل ثقلها وراء جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من تهديد الجماعة لاستقرار دول مجلس التعاون الذي تنتمي إليه قطر. وعلى الرغم من اكتشاف خلايا إخوانية تعمل بدأب على إسقاط نظم الحكم، كما حدث في دولة الإمارات التي كشفت عن امتدادات لهذه الخلية الإخوانية، تنظيماً وتمويلاً، في دول خليجية مجاورة، فقد ظهرت كذلك بوادر لتشكيل تحالف بين الإخوان المسلمين في مصر، وهي الحركة السنية الكبيرة، وإيران، الدولة الشيعية الكبرى؛ ما ينفي نسبياً أن الصراع بالمنطقة يكون على أساس المذهب، بقدر ما أن التحالفات تتشكل في لحظة ما من أجل تحقيق مصالح سياسية برجماتية تنحي المذهب جانباً في علاقات الدولة الخارجية، حتى وإن أشعلت فتيله داخلياً لتمرير مشروعها "الإسلاموي" المزعوم.

وبناءً عليه فإن الدول الخليجية ومصر والأردن، أصبحت في مواجهة، مستترة أولاً ومعلنة ثانياً، مع دولة سنية أخرى (قطر)، فيما سعت جماعة الإخوان السنية وإيران الشيعية إلى تعاون يتجاوز الخلاف المذهبي، على الرغم من أن جماعة الإخوان كانت تحظى بدعم من جماعات سلفية تناصب الشيعة عداء مذهبياً عميق الجذور.

ثالثاً: تنظيم «داعش» و «الهلال السني»

يمكن بالطبع وصف ما يمر بالعراق اليوم، وتحديداً منذ سيطرة "داعش" في يونيو 2014 على مناطق وأراض ومدن بالعراق، باعتباره حرباً مذهبية، تدور ما بين الحكومة العراقية ذات الأغلبية الشيعية وتنظيم داعش السني، لكن ذلك لا يمنع النظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، وهي أن سعي رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، إلى الاستمرار في السلطة والهيمنة عليها هو ما أوجد هذه الحالة التي يمكن أن تنتهي بوجود حكومة أقل فساداً وأقل لجوءاً إلى الورقة الطائفية كورقة لتثبيت الهيمنة؛ فجزء كبير من مشكلات التوتر الشيعي ـ السني بالعراق لايزال يمكن احتواءه عبر شراكة حقيقية في السلطة والحكم وبناء صفحة جديدة أقل سواداً داخل العراق.

لكن الأمر الغريب قطعاً أنه مع تصاعد أقصى مظاهر العنف، متمثلة في تنظيم "داعش" الذي تجسدت فيه أقسى صور الوحشية المستندة إلى أساس مذهبي سني، وسيطرته السريعة على مناطق واسعة في العراق وسوريا، وإعلانه "دولة الخلافة" التي تمتد من العراق والكويت والأردن والسعودية إلى فلسطين وإسرائيل ولبنان؛ تم طرح قضية جديدة (على شاكلة الهلال الشيعي)، وهي الحديث عن (الهلال السني)(4)، ليضاف عامل جديد شديد الأهمية سوف يغير كثيراً من أسلوب التعاطي مع فكرة إمكانية نشوب حرب على أسس مذهبية.

لقد عمل "داعش" للوصول إلى هدفه وفق سياسة ممنهجة لإحداث الفوضى، وضرب المجتمع، وتغذية الفكرة المذهبية لجذب العدد الأكبر من المناصرين، خاصة الشباب، مستغلاً بالتأكيد تهميش السنة بالعراق وفوضى سوريا؛ وهو ما اتضح من خلال العمليات الانتحارية التي كان ينفذها قبل أن يتمكن من إحكام السيطرة على مناطق واسعة من العراق، فاستهدفت هذه العمليات في جانب كبير منها الشيعة لإضفاء الطابع المذهبي على الحرب. وعلى الرغم من أن النداءات التي أطلقها عدد من المراجع الشيعية لمواجهة "داعش" قامت على أساس مذهبي واضح، فإن مجريات الأحداث في العراق تثبت أن "داعش" يخوض الحرب ضد الجميع، بمن فيهم سنة العراق، وأن قوى سنية عراقية تخوض هي الأخرى حرباً شرسة ضده، وأن التنظيم لا يفرق في عنفه بين سنة العراق وشيعته، وأن ثمة خلافات شيعية ـ شيعية واضحة حول التعامل مع أوضاع العراق تبرز في فتاوى مرجعيات شيعية عراقية مختلفة انتقدت دعوات القتال التي أطلقها البعض مثل آية الله علي السيستاني.

وكذلك فإن الصراع الدامي في سوريا بين "داعش" وتنظيم "جبهة النصرة" السني المتطرف أيضاً، والذي يشارك "داعش" منطلقاته الفكرية الجهادية، وكذا ما يخوضه "داعش" على النحو نفسه من معارك ضد تنظيمي "الجبهة الإسلامية" و"أحرار الشام" اللذين يشاركانه المذهب والأساس الفكري أيضاً، لهو دليل إضافي على أن العنف والعنف المضاد ليس سنياً شيعياً بالمطلق.

رابعاً: متغيرات إيرانية جديدة

على الرغم من أن العلاقات الإيرانية مع دول المنطقة تتخذ أحياناً مظهراً مذهبياً، بين محور شيعي تقوده إيران ومحور سني تقوده السعودية؛ فإن واقع الأمر يشير إلى أن الأمر هو صراع على النفوذ في المنطقة. ولعل هذا ما يفسر العلاقات القوية الإيرانية مع حركات فلسطينية ذات أصول سنية، مثل الجهاد الإسلامي وحماس، وكذلك مع الأكراد في أربيل بهدف تشكيل حلفاء لها في العالم العربي. ولا ينفي ذلك في الوقت ذاته أن إيران تدعم جماعة الحوثيين في اليمن والقوى التي تثير الاضطرابات في البحرين. ويلاحظ من جانب آخر أن علاقات إيران ببعض دول الخليج ظلت متواصلة منذ الثورة الإيرانية، ولم تنقطع، مثل سلطنة عُمَان التي ساعدت إيران على التقارب مع الولايات المتحدة، ولعبت دور الوسيط في المفاوضات بين البلدين التي قادت إلى تحول استراتيجي مؤثر فيما يتعلق بالمفاوضات حول برنامج إيران النووي، والذي من شأنه إذا تم أن يدفع إيران إلى أن تكون سياساتها أكثر اعتدالاً.

وثمة كذلك درجة من الانفتاح التدريجي في العلاقات بين إيران من جانب ودول الخليج العربية الأخرى من جانب آخر في الوقت الراهن. فقد تراجعت مظاهر التوتر بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإيران، على الرغم من تواصل الإجراءات الإيرانية الاستفزازية على الجزر الإماراتية المحتلة، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وهو ما يتضح في تصريحات سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، من أن العلاقات بين الإمارات وإيران هي علاقات قديمة وتاريخية تضرب بجذورها في عمق التاريخ وترتكز على أسس متينة من الاحترام المتبادل والتعاون المشترك من أجل أمن واستقرار المنطقة، وأن إيران شريك استراتيجي لدولة الإمارات، ولا يقتصر الأمر على التجارة والعلاقات الاقتصادية فحسب على الرغم من أهميتها، بل يعود إلى روابط ثقافية وحضارية، جاء ذلك خلال لقاء سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان مع محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني خلال زيارة الأخير لأبوظبي(5).

وتشير الأمور إلى أن توتر العلاقات السعودية ـ الإيرانية قد أخذ في التراجع، ففي نهاية شهر أغسطس 2014، قام مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية، حسين أمير عبداللهيان، بزيارة للسعودية، هي الأولى من نوعها لمسؤول إيراني إلى المملكة منذ تولي الرئيس حسن روحاني الرئاسة في إيران في أغسطس 2013. ووصف سفير طهران لدى منظمة التعاون الإسلامي، السفير رضا حميد دهقان، الزيارة بأنها تأتي في سياق تقارب البلدين و"إيمانهما بجسامة التحديات التي تواجهها المنطقة".

وفي هذا الصدد، أشار تقرير صادر عن معهد بروكينجز الأمريكي بالدوحة، المعروف عنه إثارة المسألة المذهبية، في يوليو 2014، إلى التغير إزاء الصراع المذهبي في المنطقة، وما شهده من تحولات. فقد أشار التقرير إلى الأوضاع في المنطقة بوصفها تمر بحالة حرب باردة تلعب فيها إيران والسعودية أدواراً رئيسية، حيث تتسابقان إلى كسب الأنظمة السياسية الداخلية في الدول الضعيفة في المنطقة. وأشار إلى أنه على الرغم مما تتضمنه المواجهة الحالية بينهما من عنصر مذهبي بارز، فإنه لا يمكن توصيفه باعتباره مجرد نزاع بين السنة والشيعة، أو أنه نزاع يجر المنطقة إلى حرب مذهبية شاملة. ويؤكد أن الاعتماد على البعد المذهبي يؤدي إلى تشويش التركيز التحليلي وتبسيط الديناميكيات الإقليمية أكثر مما يجب، والتضليل في فهم دوافع إيران والمملكة العربية السعودية، ويغفل عوامل أخرى؛ فالرياض وطهران تلعبان لعبة توازن القوى وتستخدمان الطائفية في هذه اللعبة، لكن كلتاهما تجاوزتا خط المذهبية في السعي وراء التحالفات الإقليمية(6). فكما سبقت الإشارة، طورت إيران علاقات وثيقة مع حماس والجهاد الإسلامي السنيتين، ومن جانبها دعمت السعودية القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي الشيعي العلماني.

خاتمة

وفقاً لهذه الأبعاد السابقة، يمكن القول إنه ليس متصوراً نشوب حرب مذهبية في المنطقة، بمعنى حدوث مواجهة واسعة وشاملة بين الشيعة والسنة في المنطقة ككل، فلا تتجه الاصطفافات في المنطقة نحو بناء التحالفات على أساس طائفي بحت، بل إن تأثير هذا العنصر تراجع كثيراً في الأشهر الأخيرة من العام الجاري بوجه خاص.

لقد غيرت "الثورات" العربية أولويات العديد من الدول العربية، إذ برز خطر امتداد تنظيمات الإسلام السياسي وجماعاته، وهي تنظيمات سنية أساساً، على استقرار دول المنطقة وأمنها. وجاء دخول "داعش" كلاعب جديد إلى المنطقة ليجعل أهداف إيران ودول الخليج العربية تلتقي على مواجهته، على الرغم من تباعد الرؤى والمصالح.

وعلى الرغم مما سبق، فسوف تظل الطائفية ورقة مؤثرة في سياسة دول المنطقة، وسوف تستمر في إثارة الصراعات والمواجهات، لكنها - على الأغلب - ستكون مواجهات داخل كل دولة على حدة، لاسيما في الدول التي لم تستقر الهياكل السياسية فيها بعد، مثل العراق وسوريا واليمن، وبدرجة أقل في لبنان. وعلى الأرجح، لن يتطور الأمر إلى مواجهة كاملة أو اصطفاف حاد يشمل الجميع، وإن كان الأمر يظل مرتبطاً بالأساس بالآليات التي ستعتمدها الدول في سياساتها الداخلية في التعامل مع الأقليات المذهبية فيها، ومدى نجاحها في تلبية مطالبها الأساسية، ما يقطع الطريق أمام أي محاولات استغلال للنزعات المذهبية داخل دول المنطقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

1) Kayhan Barzegar, Iran and The Shiite Crescent: Myths and Realities, The Brown Journal of World Affairs, Fall/Winter 2008, Vol. XV, issue 1, p. 87

2) Burhanettin Duran and Nuh Yilmaz Islam, Models And The Middle East: The New Balance Of Power Following The Arab Spring, Perceptions, Winter 2013, Vol Xviii, No. 4, p. 160

3) توفيق السيف، المسألة الطائفية: بحثاً عن تفسير خارج الصندوق المذهبي، مركز الخليج لسياسات التنمية، نقلاً عن مجلة الكلمة، 14 - 6 – 2008.

4) Katerina Dalacoura, The Arab Uprisings Two Years On: Ideology, Sectarianism And The Changing Balance Of Power In The Middle East, Insight Turkey, vol 15, no 1, p83

5)  صحيفة البيان الإماراتية، 16-4-2014

6) غريغوري غوس، ما وراء الطائفية: الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط، (الدوحة: مركز بروكينجز، دراسة تحليلية رقم 11، يوليو 2014)، ص 5