تعليق "بوتين" معاهدة "نيو ستارت".. "رسائل رادعة" للغرب

27 February 2023


في 21 فبراير 2023 وقبل ثلاثة أيام من الذكرى الأولى لبدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، ألقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خطاباً أمام المجلس الفدرالي (الغرفة الأعلى للبرلمان)، أكد فيه مجدداً أن بلاده تواجه خطراً وجودياً، وأنه "من المستحيل هزيمتها على أرض المعركة". كما قرر بوتين تعليق مشاركة روسيا في معاهدة "نيو ستارت" New START لخفض الأسلحة الاستراتيجية؛ وهي المعاهدة المُوقعة مع الولايات المتحدة الأمريكية في 8 إبريل 2010 بالعاصمة التشيكية براغ، ومُد العمل بها حتى 5 فبراير 2026.

مضمون الخطاب:

كان من بين أهم ما ذكره الرئيس بوتين في خطابه في الذكرى الأولى لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، النقاط التالية:

1- تحميل الغرب مسؤولية بدء الصراع الأوكراني، وتحويله من صراع محلي إلى آخر عالمي، حيث اعتبر بوتين أن الدول الغربية "أخرجت المارد من القمقم"، بالرغم من محاولات روسيا حل هذا الصراع سلمياً.

2- تأكيد مُضي روسيا قُدماً في عمليتها العسكرية، وأنها ستقرر مهامها في هذا الشأن "خطوة خطوة". ونوه بوتين إلى أن الغرب هو من يحارب روسيا في أوكرانيا، وأن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تسعى "لسلطة غير محدودة" في الشؤون الدولية، في حين حاولت روسيا إيقافها، مضيفاً "أن الغرب يخلط الأوراق ويحتفل بخياراته، فهو معتاد أن يبصق على العالم كله".

3- تعليق مشاركة روسيا في معاهدة "نيو ستارت"، وقال بوتين إنه "مضطر" لذلك، موضحاً أن الأمر يتعلق بتعليق المشاركة، وليس الانسحاب من المعاهدة، ومحذراً من أنه "لو نفذت الولايات المتحدة تجارب نووية، فستفعل روسيا المثل". وحرص الرئيس الروسي على ربط قراره هذا بدعم الغرب لأوكرانيا – على عكس الموقف الغربي الذي لا يرى أي صلة بين مشكلات الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحرب في أوكرانيا – عندما ذكر أنه عندما يحين وقت النقاش على تمديد العمل بالمعاهدة، يجب أخذ القدرة الضاربة المشتركة لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ككل، بما فيها الترسانة الاستراتيجية لكل من فرنسا وبريطانيا، وليس فقط الولايات المتحدة. وخلص بوتين إلى القول إن "الناتو يريد أولاً إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وبعد ذلك يريد أن يشرف على منشآتنا النووية.. لا يمكن لروسيا أن تتجاهل ذلك.. هذه ذروة النفاق أو السخرية.. إنهم يريدون إلحاق هزيمة استراتيجية بنا والولوج لمنشآتنا النووية".

4- توجيه رسائل إلى الداخل سواء في روسيا أو أوكرانيا، حيث أكد بوتين حرصه على استقرار الوضع الاقتصادي وحماية المواطنين، مُحملاً الغرب مسؤولية تأجيج الوضع وإطلاق الحرب الحالية. وفي البُعد الاجتماعي، اتهم بوتين الغرب بمحاولة فرض أجندته الثقافية على الكنيسة الأرثوذكسية، وفرض "المِثلية". ورأى أن "كل تلك المشكلات الثقافية هي مشكلة الغرب، أما نحن فنسعى للحفاظ على أطفالنا". وفاخر بوتين بالقول: "معظم شعبنا، متعدد الأعراق والأطياف، يدعم عمليتنا العسكرية الخاصة".


رسائل للغرب:

يمكن استخلاص عدة رسائل مهمة من خطاب الرئيس بوتين في ذكرى اندلاع الحرب الأوكرانية، ومن أبرزها الآتي: 

1- ثبات موقف روسيا وتمسكها برؤيتها للحرب في أوكرانيا: ظهرت ثوابت هذه الرؤية الروسية فيما يلي:

أ- اعتبار أن الأزمة الحالية بين روسيا والغرب لا تتعلق في المقام الأول بأوكرانيا، بل تتعلق أساساً ببنية الأمن الأوروبي. فهدف موسكو هو استبدال نظام ما بعد الحرب الباردة الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة ويُدار من خلال حلف "الناتو"، بنظام آخر تكون فيه روسيا شريكاً رئيسياً على قدم المساواة، وتنظمه اتفاقيات واضحة الحقوق والالتزامات.

ب- لم تكن روسيا راضية، في أي وقت، عن الهيمنة السياسية والعسكرية الأمريكية في أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة، عندما بدأت عملية توسيع "الناتو". ولفترة طويلة، عجزت موسكو عن وقف هذه العملية بالرغم من تحذيرها من مخاطرها على الأمن في أوروبا. كما كان لديها آمل في أنه بعد قبولها – على مضض – ضم دول أوروبا الوسطى والبلقان والبلطيق الثلاث إلى "الناتو"، ستكون قادرة على ممارسة درجة كافية من التأثير لمنع دول أوروبا الشرقية مثل أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا من السير في نفس الطريق. ومع ذلك، فقد تغير الوضع بشكل كبير في عام 2014، عندما جلب الغرب تحالفاً من العناصر الموالية له والمناهضة لروسيا إلى السلطة في كييف. ومنذ ذلك الحين، وبعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم، أصبح منع أوكرانيا من الانضمام لحلف "الناتو" بمثابة الأولوية في قضايا الأمن الأوروبي بالنسبة للرئيس بوتين.

ج- إن الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لا تفهم سوى لغة القوة. إذ ترى روسيا أنها بذلت جهوداً حثيثة لتسوية الصراع الأوكراني سلمياً، إلا أن التطورات أثبتت عدم نية واشنطن اتخاذ أي تحرك في هذا الملف.

د- غيّر الصراع في أوكرانيا جذرياً البيئة الخارجية لروسيا، وباتت علاقاتها السياسية مع الغرب الجماعي وحلفائه "عدائية" بشكل واضح على مختلف الأصعدة. ومن وجهة نظر القيادة الروسية، فإن هذا الصراع ليس سوى حرب يشنها الغرب بالوكالة ضد موسكو، وهو صراع عميق وطويل الأمد وعواقبه ممتدة، وبالتالي يستوجب حشد الموارد كافة لمواجهته.

ه- إن الهدف الاستراتيجي لروسيا من الحرب الأوكرانية وبعدها، هو تعزيز وضعها كواحدة من القوى العالمية الرائدة والنشطة في بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يستبعد هيمنة أي قوة دولية واحدة أو مجموعة من القوى الغربية.

2- الضغط بورقة معاهدة "نيو ستارت": تضمن قرار بوتين بتعليق مشاركة روسيا في معاهدة "نيو ستارت" – وهو القرار الذي حظي باهتمام غربي واسع - رسائل مهمة، وأبرزها الآتي:

أ- إظهار أن روسيا ما يزال لديها أوراق ذات طابع استراتيجي عالمي تستوجب عدم تجاهلها. وارتباطاً بذلك، كثيراً ما يؤكد خبراء العلاقات الأمريكية الروسية أهمية هذه العلاقات من منظور مصالح واشنطن، في ضوء عدد من الاعتبارات التالية:

- حقيقة أن روسيا قوة نووية عظمى، وبهذا المعنى هي الدولة الوحيدة التي تشكل تهديداً وجودياً للولايات المتحدة وحلفائها. وفي هذا السياق، كثيراً ما يُعرب الغرب عن مخاوفه بشأن التحديث النووي الروسي المستمر الذي مكّن موسكو من إنتاج الصواريخ وتصنيع الرؤوس الحربية، ما يساعدها في تحديث ثالوثها النووي المؤلف من قاذفة قنابل استراتيجية، وصواريخ بالستية عابرة للقارات، وصواريخ بالستية تُطلق من الغواصات. ويشار هنا إلى المخاوف من عدم تمكن واشنطن حتى الآن من اللحاق بموسكو في تطويرها المستمر لترسانتها النووية.

- امتلاك روسيا القدرة على استعراض قوتها العسكرية واستخدامها خارج حدودها، سعياً وراء رؤية تنافسية للنظام العالمي، كما أن لديها طموحات كبرى في تعظيم قوتها العسكرية.

- لدى روسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي، والذي كثيراً ما يُستخدم لإحباط المبادرات التي تدعمها الولايات المتحدة ضد دول مثل سوريا وفنزويلا وكوريا الشمالية.

وهكذا فإن العلاقات الأكثر تعاوناً بين الولايات المتحدة وروسيا من منظور خبراء غربيين كُثر، يمكن أن تساعد الأولى في مواجهة التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي الأمريكي وتحديات أخرى لا يمكن لواشنطن التصدي لها بمفردها على نحو فعّال، مثل التهديدات العابرة للحدود الوطنية كالتنظيمات الإرهابية، والمنظمات الإجرامية، والصراعات الإقليمية، والانتشار النووي، والفضاء الإلكتروني، والفضاء الخارجي.. إلخ.

وفي هذا السياق، بدا الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مهتماً بالتواصل مع موسكو بعد تنصيبه مباشرة، عندما قام بتمديد العمل بمعاهدة "نيو ستارت"، وفي إبريل 2021 اتصل بنظيره الروسي بوتين مرة أخرى لمناقشة مجموعة من القضايا، وأعقب ذلك اقتراحه أن يجتمع الرئيسان في أوروبا لمناقشة خفض تصعيد التوترات والدخول في حوار حول الاستقرار الاستراتيجي لمتابعة التعاون بين الجانبين في مجال ضبط التسلح والأمن. وقد تم ذلك بالفعل في قمة جنيف يوم 16 يونيو 2021، حيث صدر في ختامها ما سبق للرئيسين السابقين ريغان وغورباتشوف تأكيده في عام 1985، بأن "الحرب النووية لا يمكن كسبها، ولا ينبغي أبداً شنها". وتعهد الجانبان الأمريكي والروسي بالعمل معاً على إطلاق حوار استراتيجي في المستقبل القريب، يشمل تحديث اتفاقات ضبط التسلح. وجرت بالفعل ثلاث جلسات محادثات رفيعة المستوى بين البلدين على مستوى نائبي وزير الخارجية؛ اثنتين منها في يوليو 2021، والثالثة في سبتمبر من العام ذاته، بيد أن هذه الجلسات لم تسفر عن أي نتائج. وكانت النتيجة الوحيدة التي أسفرت عنها القمة الأمريكية الروسية هي عودة سفيري البلدين، اللذين كان قد تم استدعاؤهما في مارس 2021.

وبسبب المخاوف الأمريكية، كانت قد جرت اتصالات مباشرة بين وزير الدفاع الأمريكي ونظيره الروسي في يوليو 2022، بعد إثارة الجانب الروسي مخاوف بشأن احتمال استخدام أوكرانيا "قنبلة قذرة". كذلك جرى اتصال هاتفي آخر، في أواخر أكتوبر 2022، بين رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، ونظيره رئيس الأركان العامة الروسي الجنرال فاليري جيراسيموف، أُعلن بعدها أن الجانب الروسي أوضح أن استخدام الأسلحة النووية سيتم بما يتفق مع فهم واشنطن للعقيدة النووية الروسية.

وكانت واشنطن وموسكو قد أعلنتا في أواخر العام الماضي أنهما سيستأنفان حوارهما الاستراتيجي حول قضايا ضبط التسلح في القاهرة، إلا أن أجواء التصعيد والتوتر بسبب الصراع الأوكراني حالت دون ذلك.

ب- بالرغم مما تقدم، جاء حديث الرئيس بوتين عن تعليق انخراط روسيا في الأنشطة المرتبطة بمعاهدة "نيو ستارت" محسوباً وحذراً. ففضلاً عن تأكيده أنه مضطر إلى ذلك، أوضح أن الأمر يتعلق بتعليق المشاركة وليس الانسحاب من المعاهدة. كذلك أصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً بعد خطاب بوتين مباشرة، يؤكد أن موسكو ستواصل احترام القيود على ترسانتها النووية (بموجب المعاهدة) بالرغم من قرارها بتعليق المشاركة فيها، وذلك حتى انتهاء العمل بها في فبراير 2025. واستدعت الخارجية الروسية السفيرة الأمريكية لدى موسكو، لين ترايسي، بشأن ما وصفته الوزارة بـــ"المسار العدواني" المتزايد لواشنطن، متهمة إياها بتوسيع انخراطها في الحرب الأوكرانية. وقال البيان إنه "من أجل تهدئه الوضع، يتعين على واشنطن اتخاذ خطوات نحو سحب قواتها وعتادها التابع لحلف الناتو في أوكرانيا، ووقف أنشطتها المعادية لروسيا". 

الردع الحذر:

هكذا بدا واضحاً أن تعليق الأنشطة بموجب معاهدة "نيو ستارت" من قِبل روسيا، قُصد به التأثير في السياسة الغربية بردع حلف "الناتو" عن الانخراط بشكل مباشر في دعم أوكرانيا وأيضاً التأثير في السلوك الأمريكي في هذا الشأن. ويُلاحظ هنا وصف الرئيس بايدن قرار التعليق بأنه: "خطأ كبير.. ليس قراراً مسؤولاً تماماً". ومع ذلك، أكد بايدن أنه لم يفسر قرار نظيره الروسي على أنه مؤشر على تفكير في استخدام للأسلحة النووية. وفي أكتوبر 2022، كان بايدن قد صرح بأن "بوتين لاعب عقلاني أخطأ في حساباته"، إلا أنه "سيتجنب استخدام الأسلحة النووية". ولقي تقييم بايدن هذا تأييد بعض كبار المسؤولين في الغرب، بما فيهم وزير الدفاع البريطاني، بن والاس.

ختاماً، ما زالت التقديرات الأمريكية، في مجملها، ترى أن موسكو لم تتخذ أي خطوات غير عادية، وأنه لا يوجد ما يؤشر على أن روسيا تنشر أياً من أسلحتها النووية قصيرة المدى. وحتى عندما يتم انتقاد بايدن بأنه "شديد الحذر" في إرسال المساعدات العسكرية إلى الحليف الأوكراني، يؤكد المسؤولون في الإدارة الأمريكية أن أولويته القصوى هي ضمان عدم تصعيد الحرب الحالية في أوكرانيا إلى صراع نووي بين روسيا والغرب.