المصري اليوم:

ضرورات «الحل الدبلوماسى» للأزمة الأوكرانية

19 January 2023


يميل المحللون والممارسون مع بداية كل عام جديد إلى التنبؤ بالتحديات القادمة التى يجب التعامل معها، والفرص المأمول اغتنامها فى العام الجديد، ولا يُستثنى عام 2023 من ذلك. فقد حفل العامان الماضيان بتوترات جيوسياسية وبتحديات متعلقة بقضايا اجتماعية واقتصادية عالمية، كما شهدا تقدمًا تكنولوجيًا وأتاحا فرصًا محتملة عديدة؛ فلم يقدم العامان مادة خصبة للتفكير والنقاش فحسب، بل كانا فى حد ذاتهما محفزين للبحث والتأمل فى نماذجنا المحلية أو الإقليمية أو العالمية.

وستؤثر العديد من القضايا فى عام 2023 على معايير النظام العالمى، أو حالة الفوضى التى نمر بها حاليًا، والتى ستسود لسنوات قادمة. أما فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، فإن أفعال وقرارات دول مثل الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين ستكون لها أهمية خاصة فى هذا الصدد. وحتى ونحن ما زلنا فى وقت مبكر من الربع الأول من العام الجديد، نرى أن الأزمة الأوكرانية ستكون قضية بارزة ذات تداعيات، ولاسيما على العلاقات الروسية الغربية.

- احتياجات أمريكية - أوروبية

هناك قضايا تحتاج الولايات المتحدة وأوروبا التعامل معها وحلها، فالأولى مازالت متأرجحة ما بين الانعزال عن العالم والانغماس فى شؤونه، أما الثانية فمنشغلة فى تحديد ما إذا كانت ستعتمد هويتها القديمة أم الجديدة بصفتها الهوية الأساسية والسائدة. وعلى الاثنتين أن تتعاونا لتحديد العوامل المشتركة بينهما بصفتهما عضوين فى حلف شمال الأطلسى أو الاتحاد الأوروبى. ولقد تصدرت العديد من هذه المؤشرات الساحة، وستُناقش فى إطار تحديد كيفية التعامل مع قضية أوكرانيا فى الأشهر المقبلة.

ولقد كانت وجهات النظر المتباينة بشأن العلاقات مع روسيا قبل تدخلها عسكريا فى أوكرانيا مثالًا على ذلك، وقد تعاود الظهور مرة أخرى مع اقتراب مسار الأزمة من الحلول الدبلوماسية، فالبعض فى الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا يرى أن روسيا ينبغى ألا تنهزم فى أوكرانيا فحسب، بل يجب أن تنهزم شر هزيمة.. بل ذهب بعض هؤلاء إلى الاعتقاد بوجوب استهداف المؤسسات الروسية، بما فى ذلك منصب الرئيس بوتين ذاته. فى حين يرى البعض الآخر أنه يجب أن تكون هناك عواقب للتدخل العسكرى الروسى، لكنهم يعتقدون أن روسيا ستظل جارة أوروبا، لذا وجب إلزامها بالنظام السائد فى القارة فى نهاية المطاف، حتى لو كان ذلك بشروط مسبقة أكثر صرامة. وسيتحدد ذلك من خلال النقاش الفكرى والسياسى، وكذلك على أرض المعركة.

ونشر وزير الخارجية السابق هنرى كيسنجر مقالًا فى مجلة سبكتاتور Spectator فى 17 ديسمبر، ذكر فيه أنه اقترب أوان دمج التغيير الاستراتيجى الذى حققته أوروبا فى هيكل جديد يهدف إلى تحقيق السلام من خلال المفاوضات. وأضاف أن عملية السلام يجب أن تربط أوكرانيا بحلف شمال الأطلسى بطريقة أو بأخرى. وذكر كذلك أنه فى حال تعذر العودة إلى الخط الفاصل بين أوكرانيا وروسيا قبل الحرب عن طريق القتال أو التفاوض، فمن الممكن تجربة اللجوء إلى تقرير المصير من خلال استفتاءات تحت إشراف دولى، يتم إجراؤها على الأراضى التى تغيرت فيها الدولة المسيطرة على مدى قرون، وتنبأ بأن شبه جزيرة القرم ستظل فى الواقع موضوعًا للمفاوضات.

وأكد كيسنجر أن الهدف من عملية السلام هو التأكيد على حرية أوكرانيا ورسم هيكل دولى جديد، لاسيما بالنسبة لأوروبا الوسطى والشرقية. ومن المثير للاهتمام أنه أضاف أن روسيا قد تجد لنفسها مكانًا فى هذا النظام الأوروبى فى نهاية المطاف.

وعلى الرغم من أن موقف كيسنجر ضد روسيا قد يبدو أكثر تشددًا، فقد كرر أن حل روسيا أو إضعاف قدرتها من أجل تبنى سياسة استراتيجية قد يكون مسعى محفوفًا بالمخاطر. ومما لا يقل أهمية عن هذا التصريح هو دعوته الصريحة للمشاركة الدبلوماسية.

- عجز روسيا أم أمن إقليمى؟

وقد نعترض على بعض الخيارات المفضلة التى يذكرها كيسنجر، مثل خيار «روسيا العاجزة»، ولكنى أرى أن بعض آرائه يجب أن يدعمها إطار أمنى إقليمى، وتحكّم فى الأسلحة، وفرض قيود على الانتشار العسكرى، والاستعانة بأنظمة الإنذار المبكر لتقليل الهجمات غير المتوقعة وإتاحة قدرات لإدارة الأزمات. ومع ذلك، فإن دعوته إلى الدبلوماسية تستحق الدراسة.

وعلى الرغم من أن إجراء استفتاء يُدار دوليًا على الأراضى التى ضمتها روسيا بالفعل هو اقتراح مثير للاهتمام، وينبغى وضعه فى الاعتبار، فإننى أشك فى نجاحه. وإذا حدث ونجح، فهل يمكن محاكاة هذه الاستفتاءات فى الأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة الغربية وقطاع غزة كجزء من تشكيل هيكل أمنى جديد فى الشرق الأوسط؟

ولقد اقترحت فى مقالات سابقة أن يبادر الأمين العام للأمم المتحدة والعديد من الأعضاء غير الدائمين فى مجلس الأمن ببذل جهود دبلوماسية بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا فى مجالات مختلفة، وما زلت على رأيى هذا، على الأقل حتى تتقبل الأطراف المتنازعة هذا الأمر دبلوماسيًا، وكذلك باعتباره وسيلة ممكنة لحفظ ماء الوجه عند اتخاذ أى خطوة سياسية. ومع ذلك، فإن المفاوضات الحقيقية والحاسمة ستدور فى الغالب خلف الأبواب المغلقة وفى القنوات الخلفية.

وعلى روسيا من جانبها أن تحدد فى القريب العاجل الخسائر الاستراتيجية الناجمة عن استمرار الوضع الحالى فى أوكرانيا، أو تقرر الاستمرار فى عدم وضعه على قمة أولوياتها، كما عليها أن تقيّم المكاسب المحتملة من وراء إطالة أمد الصراع المستمر إلى ما بعد هذا الشتاء. وعلى روسيا فى الوقت نفسه أيضًا تحديد الوضع العالمى الذى تريد اتخاذه - بعيدًا عن الأزمة الأوكرانية - بعد انتهاء العمليات العسكرية. وبقدر ما يتعين على أوروبا أن تقرر كيف تنوى التعايش مع جارتها الكبيرة، يجب على روسيا هى الأخرى أن تحدد كيف ستتعايش مع أوروبا. وسواء أكان هناك نظام عالمى جديد أم لا، ستظل أوروبا وروسيا مرتبطتين ببعضهما البعض، لذا عليهما أن تتوصلا لطريقة عمل بينهما.

ومن وجهة نظر روسيا، يجب أن يأتى هذا بقدر محدود، ما لم يكن بإمكانها تغيير الوضع عسكريًا على الأرض فى أوكرانيا تغييرًا جذريًا. ولن يتأتّى ذلك سوى من خلال الاستحواذ الشامل على أراضٍ جديدة، وهو ما يبدو مستبعدًا للغاية، أو من خلال اللجوء لأسلحة نووية تكتيكية، وهو الأمر الذى نفت روسيا مرارًا وتكرارًا اللجوء إليه، علاوة على تلقيها تحذيرات عامة وخاصة ضده.

وغنىّ عن القول إن العديد من مقترحات كيسنجر لن تلقى قبولًا لدى روسيا. وحتى الأقرب للقبول منها سيكون موضع تعديلات لا نهاية لها. ومع ذلك، فإنه يقبل- من حيث المبدأ - ضمنيًا وجليًا المكاسب الإقليمية لروسيا، سواء فى شبه جزيرة القرم أو تلك الناتجة عن الاستفتاءات فى الأراضى المتنازع عليها، حيث يقيم معظم المتحدثين بالروسية فى أوكرانيا.

إن بدء المساعى الدبلوماسية بحلول الربيع، على أقصى تقدير، هو أمر جوهرى، سواء أكان ذلك بناءً على مقترحات كيسنجر أم بناءً على اقتراحات الآخرين. وسواء أنجحت هذه المساعى أم فشلت، فستكون ذات تأثير مهم فى أوكرانيا، كما ستضع حجر الأساس لطريقة تعامل الغرب وروسيا مع بعضهما البعض فى ظل النظام العالمى دائم التغير.. بل سيتجاوز هذا التأثير فى الواقع القارة الأوروبية، فالصين وغيرها تقيّم أفضل السبل للدفاع عن مصالحها للمضى قدمًا، لا سيما فى حدود نطاقهم الجغرافى المباشر وما وراءه. وفى رأيى أن ما يحدث فى أزمة أوكرانيا فى النصف الأول من عام 2023 سيؤثر على السياسات، ليس داخل أوروبا فحسب، بل فى آسيا والعالم بأسره كذلك.. وستزرع مثل هذه السياسات بذور نموذج النظام العالمى الجديد.

*لينك المقال في المصري اليوم*