المكتسبات الاستثنائية:

الدلالة الرمزية لاحتجاجات "الورقة البيضاء" في الصين

08 December 2022


على الرغم من محاولات الصين الأمنية لإنهاء حالة الاحتجاجات غير المسبوقة التي شهدتها عدة مدن صينية على مدار الأسبوعيين الماضيين، فإنه في نهاية المطاف اضطرت إلى تخفيف قيود الإغلاق والتخلي نسبياً عن سياسة "صفر كورونا". ويأتي ذلك في الوقت نفسه التي اضطرت فيه الحكومة الإيرانية، على الجانب الآخر، إلى حل "شرطة الأخلاق" بعد طول فترة الاحتجاجات التي قادتها النساء في البداية، وذلك أيضاً بعد محاولة الدولة إنهاء حالة التظاهرات بالطرق الأمنية الاعتيادية، إلا أنها لم تأت بثمارها هذه المرة، بل كانت محفزاً لمزيد من التظاهرات حتى كاد يخرج الوضع عن السيطرة. وكانت الدولة الإيرانية قد نجحت في إنهاء حالات مماثلة من الاحتجاج ظهرت على مدار السنوات الماضية منذ 2009. ولكن كان المسلم به أن كل موجة احتجاجية كانت أقوى من السابقة لها من حيث مدتها وزيادة الفئات المشاركة فيها، حتى وصلت إلى الموضع الحالي. 

وعلى الرغم من اختلاف الحالتين، يبدو أن الحالة الإيرانية قدمت نموذجاً للمجتمعات التي تضعها القيود الأمنية أمام "المعادلة الصفرية"، وهو ما أدركته الصين في الغالب بعد أن استمرت الاحتجاجات لأكثر من 10 أيام، وانتشرت في كثير من المدن، في حالة استثنائية. ففي حالة الصين، كان خروج المواطنين في وقفات احتجاجية في الشوارع في حد ذاته، والممارسات الرمزية التي استخدمها المحتجون، هو المشهد الذي يستحق الوقوف أمامه. ففكرة الاحتجاج في الصين كانت تمثل "البجعة السوداء"، أي السيناريو الخيالي، الذي لا يمكن وقوعه حتى يوم 24 نوفمبر 2022، حين نشب حريق في إحدى البنايات السكنية بمدينة أورومتشي (Urumqi) غرب الصين، وهي المدينة التي كانت واقعة تحت إجراءات الغلق الكامل بموجب السياسة الصينية، "صفر كورونا". ونتج عن الحريق وفاة 10 أشخاص، فضلاً عن الإصابات الأخرى، وقد أرجعت الجماهير وفاة الأفراد العشرة إلى تأخر خدمات الدفاع المدني بسبب الإغلاق، فضلاً عن عدم قدرة الأشخاص على الهرب بسبب إجراءات الحجر. ومثلت الحادثة، الشرارة التي فجرت الضغط المجتمعي المستمر لدى شرائح واسعة في جمهورية الصين، التي يبلغ عدد سكانها ملياراً و400 مليون فرد. 

وبعد أسبوعين من الاحتجاجات والاشتباكات العنيفة في بعض النقاط، ألغت أكثر من 20 مدينة، بما في ذلك المدن الكبرى مثل بكين وشنغهاي وشنتشن وووهان وتشنغدو، شرط إجراء اختبارات كوفيد-19 السلبية على وسائل النقل العام، وغيرها من الأماكن العامة الأخرى مثل المراكز التجارية وغيرها، فضلاً عن تخفيف قيود أخرى. 

البجعة السوداء: 

من المعروف عن الدولة الصينية الحضور الأمني الواضح في الحياة اليومية للمواطنين. ففي المدن الكبرى في الصين، على غرار شنغهاي، تجد العناصر الأمنية واقفة عند إشارات المرور لإدارة الأعداد الكبيرة التي تعبر الشارع من جهة إلى أخرى، وكثيراً ما يتكرر مشهد المُسيّرات العسكرية في الشوارع الرئيسية، فضلاً عن تكنولوجيا التعرف على الوجه الموجودة في كل زاوية من الحيز العام الصيني، إضافة إلى مراقبة الإنترنت وغيرها. فالفرق بين الصين وأي دولة أخرى أن الحضور الأمني كثيف ومباشر وفي احتكاك دائم مع المواطنين، وقد يرجع السبب وراء ذلك إلى ضخامة عدد السكان، فماذا لو انفلت مليار و400 مليون فرد؟ ويعد ذلك من الهواجس الأساسية للحكومة الصينية. في هذا الإطار، لم تكن الاحتجاجات الصينية من المشاهد المتكررة أو خياراً سهلاً، بل حدث استثنائي، أقرب موقف مشابه له كان من عقود طويلة، يرجعه البعض إلى الاحتجاجات الطلابية في 1989. 

ولذلك، فوقوع "احتجاجات" في الصين يوشي بمشكلة جذرية لدى المجتمع أو فئات كبيرة منه، خاصة أن هذه الاضطرابات تأتي بعد مؤتمر الحزب الشيوعي الـ 20 والذي يتم فيه تحديد الإطار العام لسياسات الدولة للسنوات الخمس القادمة. والذي كانت الآمال معلقة عليه لإنهاء أو تخفيف سياسة "صفر كورونا"، بينما أصبحت الإجراءات أكثر صرامة. وتنص هذه السياسة على إلزام السلطات المحلية بفرض عمليات إغلاق صارمة - حتى لو عثر على عدد قليل من الإصابات بفيروس كورونا، ويتم إجراء اختبارات جماعية بالأماكن التي تم الإبلاغ فيها عن الحالات. ويتم عزل المصابين في المنزل، أو في المرافق الحكومية، ويتم إغلاق الشركات والمدارس وكذلك المتاجر ما عدا المختصة بالطعام. وتستمر هذه الحالة من الإغلاق إلى الوقت الذي لا يبلغ فيه عن إصابات جديدة. وبالتالي لايزال يعيش عشرات الملايين في الصين تحت إجراءات الإغلاق في الوقت الذي تخلص فيه العالم أجمع من مظاهر الجائحة كافة. 

ونتجت عن هذه السياسة المستمرة لمدة ثلاث سنوات ضغوطات اجتماعية واقتصادية من الصعب تحملها، فضلاً عن الضغوط الاقتصادية جراء وقف العمل، فكان من بين شعارات بعض المحتجين، "نحن جائعون". فلم تلتفت الصين إلى أن تداعيات هذه السياسة تمتد لتقليص أهم إنجازات تجربتها، وهي القضاء على الفقر، وتوفير معايير الحياة الكريمة لغالبية السكان، وهو الركيزة التي تأسس عليها ضمنياً العقد الاجتماعي بين الأفراد والدولة، والذي بموجبه لم يهتموا بقضايا الحريات والسياسة وغيرها (وإن كان ثمة اختلافات مع الأجيال الأصغر). وما ضاعف الأزمة، حالة التراجع التي يشهدها الاقتصاد الصيني بشكل عام والذي مر بعدة أزمات كبيرة منذ اندلاع الجائحة، على غرار أزمة العقارات. 

على الجانب الآخر، وقبل اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، أدت الإجراءات الصارمة لسياسة "صفر كوفيد"، والخوف المجتمعي منها، إلى بعض مظاهر الفوضى في بعض المناطق والقطاعات. فعلى سبيل المثال، اتخذت بعض السلطات المحلية إجراءات متشددة، مثل إجبار العمال على النوم داخل المصانع حتى يتمكنوا من العمل أثناء الحجر الصحي. وفي المقابل، أشارت وسائل الإعلام الدولية، في بداية نوفمبر الجاري، إلى الهروب الجماعي الذي نظمه العمال في مصنع فوكسكون في تشنغتشو الذي يصنع أجهزة آيفون، بسبب المخاوف من إبقائهم في الداخل. وقبلها في أغسطس الماضي، تدفق المتسوقون إلى خارج أبواب متجر إيكيا في شنغهاي للهروب إثر شائعة باحتمال حبسهم داخله.

الاحتجاج بـ "الحيلة": 

أسس عالم الاجتماع الأمريكي، جيمس سكوت، لمفهوم "المقاومة بالحيلة"، والذي شرح من خلاله كيف يلجأ الأفراد إلى الآليات غير المباشرة والخطابات الضمنية للاحتجاج، وأكد من خلال كتابه الذي يحمل اسم "المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم"، أنه في أقصى سياقات السلطوية، يمارس الأفراد ممارسات احتجاجية من دون الاحتكاك المباشر مع السلطة، حيث يبتكرون لغة وتعبيرات لا يفهمها سواهم. فالتلميحات والرموز والنكات والأغاني والخدع اللغوية والأساطير والحكايات من بين الآليات التي يبتكرها الأفراد للاحتجاج "المحصن". وكانت الوسيلة الأهم - وفقاً لـ "سكوت"- هي ابتكار نمط من الخطاب لا يعيه إلا الأفراد المعنيين. 

ولم تبتعد ممارسات المحتجين الصينين، إلى حد كبير، عن مقولات سكوت، حيث طوروا آليات للاحتجاج تبعدهم بقدر الإمكان عن الاحتكاك المباشر مع قوات الأمن والتي كان من أهمها "الورقة البيضاء"؛ والتي اعتبروها طريقة للتعبير عن موقفهم ضد الإجراءات المتشددة لسياسة "صفر كورونا"، من دون أن يتم إلقاء القبض عليهم، فحمل ورقة بيضاء يعكس كل ذلك من دون قول أي شيء. 

ووفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أشار بعض المتظاهرين إلى أن الأوراق البيضاء اُستلهمت من نكتة من الحقبة السوفييتية، حيث اتهمت الشرطة منشقاً بتوزيع منشورات في ميدان عام وأن المنشورات كانت فارغة، وعندما سُئل عن جدوى ذلك، أجاب بأنه "لا حاجة للكلمات لأن الجميع يعلم".  

ولا تعد الورقة البيضاء الأداة الوحيدة التي تم ابتكارها، فقد طور آخرون حيلاً لغوية تحمل رسائل ضمنية، وذلك كما ظهر بالقرب من جامعة تسينغهوا في بكين، حيث حمل بعض الطلاب لافتة تعرض معادلة رياضية للفيزيائي ألكسندر فريدمان، والذي يُطلق على لقبه باللغة الصينية "رجل حر"، في إشارة إلى مطالبتهم بالحرية من إجراءات الغلق. كما تحايل الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي على عمليات حذف المحتوى السلبي من خلال استخدام وضع كلمات لا يصنفها النظام الإلكتروني بأنها سلبية، ونشروا على صفحاتهم الشخصية كلمات لا يقصد بها المعنى المباشر، مثل جيد جداً. 

وتصعب هذه الآليات من مهمة الأجهزة الأمنية، حيث يتحدى المحتجون الشرطة، وكأنهم يتساءلون "هل ستعتقلوننا لأننا نحمل ورقة بيضاء لم نكتب عليها شيئاً، أو لأننا نقول جيد جداً، أو رافعين ورقة عليها معادلة رياضية؟" 

في الختام، لم يكن مصدر القلق الأساسي من الاحتجاجات الصينية في احتمالات تطورها لما هو أبعد من ذلك، خاصة مع صعوبة هذا الخيار، بينما تمثل في فكرة وقوع احتجاجات عامة، موجهة ضد سياسة وضعتها الدولة المركزية.  فغالباً ما كانت تركّز الاحتجاجات النادرة التي تمت في الصين على مسؤولين محليين وشركات، مع الاستنجاد ببكين لكي تتحرّك وتُنقذ السكان من السلطة المحلية. بينما في هذه التظاهرات، يتمّ استهداف الحكومة المركزية ذاتها، صاحبة سياسة "صفر كوفيد". ووفقاً لعدة مصادر، فإن هذه الاحتجاجات من حيث الحجم والانتشار الأولى من نوعها منذ 1989 كما تمت الإشارة سابقاً. وعلى الرغم من حذر غالبية المحتجين من استخدام شعارات مضادة للحكام، فإن بعض الأصوات تعدت مسألة الإغلاق إلى المناداة بتغييرات سياسية، ومنح بعض الحريات وغيرها من المطالبات المشابهة. 

فضلاً عن ارتباط تلك الاحتجاجات، إلى جانب إجراءات العزل، بتراجع معدلات الإنتاج داخل الصين، وبالتالي تراجع إمداد بعض المنتجات، وهو ما ظهر في اضطراب مصنع لهواتف آيفون يقع في وسط مدينة تشنغتشو وتملكه شركة "فوكسكون" التايوانية العملاقة، وظهرت بعض التوقعات بتأخيرات في إنتاجية آيفون من ذلك الصنع.