بوادر انفراج:

انعكاسات اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية على الأمن الغذائي العالمي

29 July 2022


اقترنت الحرب الروسية - الأوكرانية بأزمة مُقلقة للعالم تتعلق بإمدادات عدد من المنتجات الزراعية والغذائية الحيوية، حيث تسببت الحرب في حدوث شلل بحركة تجارة الحبوب في البحر الأسود، وفي حركة الملاحة الجوية بدولتي الصراع، مع الأخذ في الاعتبار أن كلاً من روسيا وأوكرانيا مصدران رئيسيان للمنتجات الزراعية، وكلاهما يلعب دوراً رائداً في إمداد الأسواق العالمية بالمواد الغذائية. وقد ذكر تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" أن هاتين الدولتين تستحوذان على 53% من التجارة العالمية من زيت عباد الشمس والبذور، و27% للقمح، و23% للشعير، و16% لبذور اللفت، و14% للذرة. وتعتبر أوكرانيا رابع أكبر دولة مُصدرة للقمح في العالم، وهي تنتج في العادة 42% من الإنتاج العالمي من زيت بذور عباد الشمس، و16% من الذرة، و9% من القمح. 

وعلى الرغم من أن العقوبات الغربية على روسيا لا تستهدف قطاع الزراعة بالأساس، كما أن السفن الروسية التي تحمل منتجات زراعية لا تُمنع من دخول موانئ دول الاتحاد الأوروبي؛ لكن تتهم موسكو الغرب بأن العقوبات المفروضة على اقتصادها قد أعاقت حركة الصادرات، من خلال التسبب في رفع أسعار التأمين والتأثير على وسائل وقنوات الدفع. من جهة أخرى، توقفت حركة الصادرات الزراعية من أوكرانيا بسبب ظروف الحرب والحصار الروسي للموانئ الأوكرانية. 

وفي هذا الإطار، وقّعت روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة اتفاقاً، يوم 22 يوليو 2022، لاستئناف تصدير الحبوب والأسمدة الأوكرانية من موانئ البحر الأسود؛ بهدف المساعدة في تخفيف حدة أزمة الأغذية العالمية. ويتناول هذا التحليل تداعيات هذا الاتفاق على الأمن الغذائي العالمي.  

ملامح أزمة الغذاء:

توقفت الصادرات الأوكرانية في ظل الحصار الروسي والتهديد لحركة الملاحة، كما توقفت الصادرات الروسية بفعل العقوبات الدولية من ناحية، ومخاطر السمعة التي طالت عدداً من الصادرات الروسية خارج نسق العقوبات المفروضة من المعسكر الغربي، وذلك بوازع أخلاقي من بعض الشركات الكبرى المُستوردة والرافضة للتعامل مع شركاء تجارة في دولة مُعتدية، من ناحية أخرى. وقد تسبب كل ذلك في ظهور شبح أزمة غذاء عالمية، مع ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، وفي مقدمتها الحبوب والزيوت.

وقد تكدّست في صوامع ميناء أوديسا الأوكراني وحدها، ما يقرب من 20 مليون طن من القمح الجاهز للتصدير، مما يجعل المزارع الأوكراني عازفاً عن الزراعة للموسم القادم، لعدم جدوى الإنتاج الجديد في ضوء توقّف تصريف المخزون الراكد. كذلك ارتفعت تكاليف تأمين السفن التي تدخل البحر الأسود عقب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وفرضت بعض شركات التأمين رسوماً تبلغ 5% أو 10% من قيمة الشحنة للرحلة الواحدة.

وتأتي هذه الأزمة الغذائية في ظل ظروف اقتصادية عالمية مُتردية، إذ لم يتعاف العالم بعد من تداعيات جائحة كوفيد-19، وبلغت معدلات التضخم مستويات تاريخية في كثير من الدول المُتقدمة، حيث تخطت المُستهدف بنسب كبيرة؛ مما أدى إلى الاتجاه لسياسة "التشديد النقدي"، وما نشأ عنها من رفع متتالٍ لأسعار الفائدة بغرض احتواء فائض السيولة والسيطرة على ارتفاع المستوى العام للأسعار.

وكان لزيادة أسعار الفائدة أثر شديد السلبية على الدول المدينة التي تعاني ارتفاع قيمة خدمة الدين الخارجي، مع نقص حاد في موارد النقد الأجنبي، وبما يرفع من احتمالات التعثر المالي والمجاعة في عدد من الدول الأكثر فقراً. ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فقد تسبب انقطاع صادرات الحبوب تحت الحصار البحري الروسي في ترك نحو 47 مليون شخص حول العالم في حالة جوع حاد. 

وفي هذا السياق، يذكر بنك التنمية الأفريقي أن أوكرانيا وروسيا تزودان القارة السمراء عادة بأكثر من 40% من احتياجاتها من القمح. وأدت الحرب الحالية إلى نقص مقداره 30 مليون طن من الغذاء في أفريقيا، وهو ما زاد من أسعار الغذاء في عموم القارة بنسب دارت حول 40%. فمثلاً، أدت هذه الحرب إلى زيادة أسعار المواد الغذائية الأساسية في نيجيريا بنسبة 50%. 

وبالمثل في مناطق الصراعات بالمنطقة، فإن اليمن يستورد عادة أكثر من مليون طن من القمح سنوياً من أوكرانيا، وتقول الأمم المتحدة إن الانخفاض في الإمدادات خلال الفترة بين يناير ومايو 2022 قد سبب ارتفاعاً في أسعار الطحين والخبز في اليمن بنسبة 42% و25% على التوالي. أما سوريا التي تعتبر من كِبار مُستوردي القمح الأوكراني، فقد تضاعف سعر الخبز فيها خلال الفترة الماضية. 

اتفاق الحبوب:

من هنا، كانت أهمية اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية الذي تم توقيعه في 22 يوليو 2022 في قصر "دولما بهجة" في مدينة إسطنبول بوساطة تركية ورعاية الأمم المتحدة، والذي جاء بعد أسابيع من المفاوضات المُطولة، حيث يهدف إلى استمرار وتأمين تدفق الحبوب وبعض المُنتجات الغذائية المهمة مثل زيت عباد الشمس، من موانئ البحر الأسود عبر ممرات آمنة نحو مضيق البوسفور التركي، ومنه إلى مختلف الموانئ بحراسة أمنية أممية وتركية. 

ويتضمن الاتفاق إنشاء مركز تحكّم في إسطنبول، يعمل به مسؤولون من الأمم المتحدة وتركيا وروسيا وأوكرانيا، مع تفتيش السفن لدى عودتها من رحلاتها التجارية، للتأكد من خلوها من أية أسلحة يُمكن استخدامها في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، مع ضمان استفادة موسكو من الاتفاق فيما يخص السلع غير المُتضمنة في العقوبات الدولية، ومنها القمح. ويسري الاتفاق لمدة 120 يوماً.

ومن المُتوقع، وفقاً للاتفاق المُشار إليه، أن تُستأنف صادرات الحبوب بحرياً خلال أسابيع قليلة، وربما يرتفع الحجم المُتاح للتصدير من القمح الأوكراني إلى 75 مليون طن بعد موسم الحصاد الحالي، ومن ضمنها 20 مليون طن مُخزنة في الصوامع، وفقاً لتصريحات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي. 

ويُذكر أنه عشية الحرب الراهنة، كانت أوكرانيا تُصدر أكثر من 90% من صادراتها الغذائية عبر البحر. وبعد فرض الحصار على موانئها، كانت تحاول تصدير أكبر قدر ممكن عبر الطرق البرية باستخدام الشاحنات والقطارات. وحاول الاتحاد الأوروبي المساعدة في ذلك من خلال إقامة ممرات تتيح شحن القمح الأوكراني عبر صنادل الشحن مروراً بنهر الدانوب ووصولاً إلى موانئ ميناء كونستانتا في رومانيا، وموانئ بحر البلطيق أيضاً. 

لكن إحدى المشكلات التي واجهت تلك الخطة، تمثلت في أن سكك القطار الأوكرانية أعرض من نظيراتها في بقية أوروبا، وهذا يعني أن يتم تفريغ القمح من عربات القطار عند الحدود الأوكرانية، ومن ثم إعادة تحميلها على عربات القطارات الأوروبية. وتستغرق تلك الرحلة ثلاثة أسابيع، كي يعبر القمح إلى أوروبا ويصل إلى الموانئ على بحر البلطيق. ويقول اتحاد تجار الحبوب الأوكراني إن 1.5 مليون طن فقط من القمح على أقصى تقدير، يتم تصديره شهرياً بهذه الطريقة، مقارنةً بنحو 7 ملايين طن شهرياً قبل الحرب. 

ضمانات التنفيذ: 

حاولت الأطراف الدولية المُشاركة في اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، تقديم ضمانات كافية لطرفي الحرب من أجل الالتزام ببنود الاتفاق، وتمثلت في قيام سفن أوكرانية بتوجيه السفن التي تحمل القمح في طريق دخولها وخروجها من مياه الموانئ الأوكرانية المُلغمة، على أن توافق روسيا على هدنة أثناء تحرّك الشحنات. وبدورها، تقوم تركيا بتفتيش السفن لتهدئة مخاوف روسيا من تهريب الأسلحة. كما سُمح للصادرات الروسية من القمح والأسمدة بالمرور عبر البحر الأسود.

وعلى أثر الاتفاق، بدأت أسعار القمح العالمية في التراجع بنسب ملحوظة على خلفية موسم حصاد ناجح للقمح الصيني، حتى أن أسعار العقود المستقبلية قد عادت إلى مستوياتها قبل اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. كما يرى المتخصصون في مجال التأمين أن هذا الاتفاق يعني انخفاضاً في تكاليف التأمين على شحنات الحبوب المنقولة من موانئ البحر الأسود.

اختبار الاتفاق:

اُختبر اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية بعد نحو 24 ساعة من توقيعه، بعدما تعرض ميناء أوديسا للقصف، الأمر الذي شكك في مصداقية الجانب الروسي والتزامه بالاتفاق. وقد نشرت قيادة العمليات الجنوبية في أوكرانيا على حسابها بموقع "تليجرام" ما ترجمته: "هاجم العدو ميناء أوديسا التجاري بصواريخ كروز من طراز كاليبر، وأسقطت قوات الدفاع الجوي صاروخين، فيما أصاب صاروخان البنية التحتية للميناء". وردت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بما مفاده أن صواريخ روسية دمرت بنى تحتية عسكرية في ميناء أوديسا الأوكراني.

لكن لا يُتوقع أن يؤدي هذا الحادث إلى إفشال الاتفاق، خاصةً أن بنوده وتفاصيله لم تدخل بعد حيز التنفيذ، كما أن غياب الضامنين (الأممي والتركي) عن المشهد حتى اللحظة، ربما ساعد على خرق مضمون الاتفاق على الأرض قبل أن تضطلع الأطراف بمسؤولياتها.

وطبقاً للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، يعد هذا الاتفاق هو الأول من نوعه بين دولتين في حالة حرب، ورأى أنه إذا أمكن الالتزام به فإنه يمثل مكسباً للأطراف كافة. فمن ناحية، ستتمكن روسيا وأوكرانيا من حصد ثمار إنتاجهما الزراعي لتعويض النقص في موارد النقد الأجنبي، وتشجيع الإنتاج المحلي والتخلص من تراكم المخزون وتكاليفه الباهظة.

ومن ناحية أخرى، سوف تتمكن الدول المُستوردة للغذاء من مواصلة الاعتماد على مُنتجات الحبوب والزيوت الأوكرانية والروسية، على نحو ما كانت عليه حركة التجارة قبل اندلاع الحرب، الأمر الذي سوف ينعكس على المعروض العالمي، ويؤدي إلى تراجع فوري في أسعار العقود المستقبلية وعقود الأسواق الحاضرة وتكاليف النقل والتأمين للمنتجات الغذائية المُهمة، ويُقلل من الضغوط التضخمية ومن مخاطر المجاعات وأزمات نقص الغذاء في مختلف دول العالم، خاصةً الدول النامية والناشئة والأقل تقدماً.

ختاماً، يتعين القول إنه للتأكد من تحقيق اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية نتائج إيجابية، من المهم توسيع نطاقه ليشمل دولاً غربية أخرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، خاصةً أن القوى الغربية أصبحت أطرافاً مُنخرطة في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، لاسيما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي منها.