صدمات مضاعفة:

تقييم السياسات المالية العالمية من الوباء إلى حرب أوكرانيا

02 June 2022


عرض: سالي يوسف

في ظل استمرار تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وعدم التعافي من آثار وباء كورونا، تواجه اقتصادات الدول مأزقاً مالياً، بسبب تصاعد التضخم وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. من هنا، تكمن أهمية تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في أبريل 2022، لكونه يطرح تقييماً للأوضاع المالية والنقدية في مختلف اقتصادات دول العالم، فضلاً عن توقعاته للسياسة المالية والنقدية التي يمكن تطبيقها في المرحلة المقبلة، خاصة مع وجود حالة من الترقب والشكوك تجاه أثر الحرب على دول العالم.

ومنذ بداية الوباء في أوائل عام 2020، أظهرت السياسات المالية للعديد من الدول مرونة غير متوقعة، إذ تم تقديم الدعم للأسر والشركات المتضررة من الحظر والإغلاق، كما تمت مساعدة الفئات الأكثر ضعفاً، جنباً إلى جنب مع السياسات النقدية الميسرة والاستثنائية من قبل البنوك المركزية، والتي أسهمت في منع حدوث ركود في الأسواق، إلا أن كل ذلك جاء على حساب تراكم الديون العالمية المرتفعة بالأساس.

 ووفقاً لتقرير صندوق النقد، فإن الدعم الذي قدمته سياسات الاقتصاد الكلي، غير المسبوقة، في ظل نقص الإمدادات الغذائية، أدى إلى انتعاش الطلب على حساب العرض، ما ترتب عليه حدوث تضخم في العام ٢٠٢١، إضافة إلى تغير السياسات المالية، والتي تضمنت رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم في الأسواق، لتصبح بذلك قضية تخفيض العجز والديون هي المتصدرة للمشهد العام للعديد من اقتصادات الدول. 

وأشار التقرير إلى تضرر اقتصادات الدول ذات الدخل المنخفض من تضييق شروط الائتمان العالمية للحد من التضخم، مشيراً إلى أن ٦٠٪؜ من تلك الدول في خطر كبير ومعرضة لضائقة الديون، مؤكداً أن التوقعات المالية تخضع لقلق متصاعد، حيث إن العواقب الكاملة للحرب في أوكرانيا والآثار غير المباشرة للعقوبات المفروضة على روسيا غير معلومة وستختلف باختلاف البلدان.

تأثيرات متباينة:

تطرح الحرب في أوكرانيا – وفقاً لتقرير صندوق النقد - تأثيراً متبايناً لحالة عدم اليقين التي تعيشها الدول كافة، حيث سيكون التأثير الأكبر على الأسواق الناشئة والبلدان النامية ذات الدخل المنخفض بسبب ارتفاع الأسعار الدولية، خاصة أنهم مستوردون للطاقة والغذاء بشكلٍ كلي. وأشار التقرير إلى أن العديد من هذه البلدان واجهت تداعيات بسبب الوباء خلال الفترة السابقة، وليس لديها مجال مالي كبير للحد من هذه الصدمات الجديدة، وأن المستفيد الأكبر من هذه الأزمة سيكون بعض مصدري السلع الأساسية، وكبار مصدري النفط بشكل خاص في ظل المكاسب الكبيرة التي سيحصدونها.

وفي حين عانى نحو 70 مليون شخص (مؤشرات ما قبل الوباء) من الفقر المدقع في عام 2021، إلا أن مستويات الفقر – وفقاً للتقرير - كانت مستقرة أو حتى انخفضت بسبب الدعم المالي الكبير الذي قدمته بعض الاقتصادات المتقدمة والناشئة بالرغم من الركود الاقتصادي. كما ارتفعت مدخرات الأسر مقارنة بمستويات ما قبل الوباء بـ2,3 تريليون دولار مجتمعة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خلال الفترة 2020-2021؛ إلا أنه في المقابل، لم يكن الدعم المالي كافياً لمنع انخفاض دخل الأسرة في العديد من الاقتصادات النامية.

 في المقابل، توقع صندوق النقد انخفاض متوسط الدين العام في الاقتصادات المتقدمة إلى 113٪؜ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024؛ مما يعكس الانتعاش من الركود المرتبط بوباء كورونا. كما توقع استمرار الدين في الارتفاع في الأسواق الناشئة، مدفوعاً بشكل رئيسي بالصين، ليصل إلى 72٪؜ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024. توقع أيضاً أن ينخفض الدين تدريجياً بين البلدان النامية ذات الدخل المنخفض إلى 48٪؜ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024. بالإضافة إلى انخفاض الدين العام بشكل أسرع في البلدان المصدرة للسلع الأساسية، بفضل توجهات التبادل التجاري الإيجابية. إلا أن هذه التوقعات لم تمنع تقرير صندوق النقد من العودة ليشير بوجود مخاطر كبيرة تحوم حول توقعات العجز والديون خاصة في حالة النمو الاقتصادي المخيبة للآمال واستمرار التضخم.

وأبرز التقرير خطوات حكومات دول العالم لحماية اقتصاداتها من الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة والغذاء، مشيراً لإمكانية أن تساعد هذه التدابير في حماية الأسر الضعيفة، إلا أنه قد يكون لها أيضاً عواقب وتكاليف مالية كبيرة لا يمكن تحديدها. ففي كثير من الحالات، اتخذت البلدان تدابير للحد من ارتفاع الأسعار المحلية (تخفيض الضرائب أو سحب الدعم المالي)، وهو ما ينذر بتفاقم الاختلالات العالمية بين العرض والطلب، وبالتالي، زيادة الضغط على الأسعار الدولية، ونقص سلع الطاقة والغذاء، وهو ما سيضر بمزيد من البلدان منخفضة الدخل المعتمدة على الاستيراد. كما أشار أيضاً لما قدمته العديد من الحكومات من إعانات أو تحويلات مالية داعمة، مما قد ينطوي على تكاليف مالية كبيرة.

ضغوط العجز المالي:

تناول تقرير صندوق النقد الدولي التأثيرات الواقعة على بعض الاقتصادات العالمية جراء الوباء والحرب، ومن أبرزها، ما يلي:

1. الاقتصادات المتقدمة: أكد التقرير على انخفاض مستوى العجز المالي فيها خلال عام 2021 عن مستوياته السابقة لعام 2020، ومن المتوقع أن ينخفض أكثر في عام 2022، وذلك بفضل انتعاش الإيرادات الضريبية، وسحب الإمدادات المالية لدعم اقتصادهم خلال الوباء، إلا أنه شكك في إمكانية ذلك نظراً للحرب في أوكرانيا. وهو ما دفع عدد من الدول لزيادة الاستثمار العام السنوي على المدى المتوسط بمقدار 0,5٪ من الناتج المحلي الإجمالي. فعلى سبيل المثال، أعلنت اليابان عن حزمة مالية جديدة (5٪ من إجمالي الناتج المحلي) للفترة 2022 - 2023، فيما تتضمن خطة المملكة المتحدة زيادة صافي استثمار القطاع العام إلى 2,7٪ في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي خلال 2024 – 2025؛ لتحقيق النمو في مجالات البنية التحتية والمهارات والابتكار، أي ما يقرب من ضعف متوسط السنوات الأربعين الماضية.

2. الأسواق الناشئة: أكد التقرير انخفاض مستوى العجز فيها خلال عام 2021، ليتراجع جزئياً عن الزيادة الكبيرة التي حققها في عام 2020 ليتقلص بمقدار 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وشهدت البلدان صاحبة أكبر زيادة في العجز في عام 2020 كالبرازيل والمملكة العربية السعودية، أكبر انخفاض في العجز في عام 2021. كما أشار التقرير لحدوث انحراف لبعض الآفاق المالية عن مسارها في بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا مع زيادات كبيرة في العجز، حيث أدت الحرب والعقوبات الاقتصادية إلى تقليص الأنشطة الاقتصادية، وفقاً لـتقرير آفاق الاقتصاد العالمي في أبريل 2022. 

ومن المرجح أيضاً أن يواجه مستوردو السلع الأساسية تدهوراً في ديناميكيات المالية العامة مع زيادة ضغوط الإنفاق. وأشار التقرير إلى إعلان العديد من البلدان عن إجراءات جديدة للإنفاق والضرائب استجابة لارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.

3. الصين: من المتوقع أن تؤدي احتياجات الإنفاق إلى دفع العجز المالي في الصين لحوالي 7٪؜ من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة الدين العام من 73٪؜ في عام 2021 إلى حوالي 86٪؜ من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2024 مقارنة بـ 57٪؜ من الناتج المحلي الإجمالي في العام السابق للوباء. وأيضاً، في جنوب أفريقيا، من المتوقع أن تتجاوز نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهي التي ارتفعت بشكل كبير خلال الوباء، 75٪؜ من العامين المقبلين. وعلى المدى المتوسط، من المتوقع أن يرتفع متوسط فاتورة الفائدة الإجمالية لهذه البلدان من حوالي 3 إلى 3.5٪؜ من إجمالي الناتج المحلي.

توصيات الصندوق:

طرح تقرير صندوق النقد توصيات لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة في العالم، من بينها، تعبئة الإيرادات الضريبية وإنفاذ القواعد الضريبية والتخفيف من عوامل تغير المناخ. أضف لذلك، فإن التعاون الدولي بشأن تبادل المعلومات قد يحد من التهرب الضريبي في الخارج. وبناءً على التقدم المحرز من خلال المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات للأغراض الضريبية، سلط التقرير الضوء على ثلاثة اتجاهات للإصلاح الضريبي، أولها، إنشاء سجلات تتضمن الممتلكات الفعلية، أو وضع آليات بديلة فعَّالة نسبياً، بحيث يمكن للسلطات الضريبية الوصول لمعلومات موثوقة ومحدثة عن الممتلكات. ثانيها، استخدام آليات لتحليل البيانات وإنشاء الوحدات المتخصصة في الإدارات الضريبية، خاصة في البلدان منخفضة الدخل، لدعم الامتثال الضريبي. ثالثها، تعديل السياسة الضريبية، خاصة تلك المعنية بتوزيع الدخل.

وأشار التقرير إلى أن الاختلافات الملحوظة بين البلدان تتطلب استراتيجيات مالية متنوعة. ففي الاقتصادات الأكثر تضرراً من الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا، ستحتاج السياسة المالية إلى الاستجابة الفورية للأزمة الإنسانية. فمنذ بدء هذه الحرب، فر أكثر من 4,5 مليون لاجئ من أوكرانيا إلى أوروبا، بالإضافة إلى ضرورة معالجة الاضطرابات في إمدادات الطاقة والغذاء.

وبالنظر إلى ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، ينبغي أن يكون الدعم المالي موجهاً بشكل تفضيلي إلى المناطق الأكثر تضرراً وحماية الفئات الأكثر ضعفاً من أثر ارتفاع أسعار السلع على حياتهم المعيشية.

على الجانب الآخر، أشار التقرير إلى أهمية تكييف السياسات العامة مع الظروف الخاصة بكل بلد وتصميم الدعم المالي بطريقة تحافظ على موارد السوق، لاسيما في البلدان ذات الحيز المالي المحدود. ومن شأن الاستراتيجيات التالية أن تساعد الحكومات على تحقيق هذه الأهداف:

- دعم موجه ومباشر للأسر الضعيفة، مع السماح للأسعار المحلية بالتكيف مع الأسعار الدولية تدريجياً.

- يمكن للبلدان التي لديها شبكات أمان اجتماعي ضعيفة أن توسع من برامجها الأكثر فاعلية وتستفيد من الأساليب الرقمية لتحديد الأسر المؤهلة للحصول عليها مع توفير آليات للتسليم.

- يمكن للحكومات الإفراج عن الاحتياطات الغذائية للتعويض جزئياً عن نقص الإمدادات على المدى القصير، ويجب على صانعي السياسات النظر في إمكانية استخدام الذرة لإنتاج الوقود الحيوي بدلاً من الإمداد بالغذاء.

وأكد التقرير على ضرورة تجنب البلدان الإجراءات أحادية الجانب التي تزيد من أسعار الغذاء العالمية، إذ يمكن أن تكون قيود التصدير ضارة بالأمن الغذائي العالمي وتؤدي بشكل جماعي إلى نتائج عكسية، كما أنها تمثل مشكلة عندما تتعلق بالمنتجات الأولية المشاركة في عمليات الإنتاج مثل الأغذية الأساسية، وأيضاً عندما تمتلك الاقتصادات التي تفرض القيود حصة كبيرة من السوق العالمية. 

كما يمكن لهم أيضاً تقليل حوافز الإنتاج وزيادة حوافز التهريب إلى البلدان ذات الأسعار المرتفعة وأن تعمل معاً لتطوير أنظمة غذائية مستدامة وفعَّالة. وأشار لأهمية اتخاذ إجراءات للتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة خاصة مع الزيادات الكبيرة في أسعار الوقود الأحفوري مع تشجيع الاستثمار فيها وزيادة كفاءة الطاقة.

واختتم تقرير صندوق النقد عرضه بأنه في خضم المشهد السياسي المتغير، لا يزال التعاون العالمي ممكناً وضرورياً أكثر من أي وقت مضى لتلبية الاحتياجات الفورية الناجمة عن ارتفاع الأسعار، ومكافحة تغير المناخ، وتسوية الديون السيادية، وبشكل أعم، تعزيز التنمية المستدامة مع ضرورة القضاء على الفقر والجوع.

المصدر: 

International Monetary Fund, Fiscal monitor, Fiscal Policy from Pandemic to War, APR 2022.