العلم الروسي:

أبعاد الاحتجاجات الراهنة في تشاد ضد الوجود الفرنسي

24 May 2022


شهدت العاصمة التشادية نجامينا وعدة مدن أخرى بالبلاد، في 14 مايو 2022، تظاهرات واسعة ضد استمرار الوجود الفرنسي في البلاد، متهمين باريس بدعم المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، برئاسة محمد إدريس ديبي (كاكا)، وهي الاحتجاجات التي نظمتها تنسيقية منصة المجتمع المدني "واكيت تاما"، فضلاً عن مشاركة عدد من النقابات والجمعيات والأحزاب المعارضة وكذا طلاب المدارس والجامعات. وكان من اللافت أن المتظاهرين رفعوا العلم الروسي، وحرقوا العلم الفرنسي. 

غضب شعبي ضد باريس:

شهد الداخل التشادي خلال الأيام الأخيرة العديد من التطورات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- احتجاجات واسعة ضد فرنسا: شهدت عدة مدة تشادية احتجاجات واسعة، في 14 مايو الجاري، بدعوى من ائتلاف قوى المعارضة، وذلك بعدما أطلقت حركة "واكيت تاما"، والتي تضم عدة أحزاب وحركات مدنية معارضة، في 13 من الشهر ذاته دعوات للتظاهر ضد الوجود الفرنسي في تشاد.

وقام المحتجون بمهاجمة بعض محطات الوقود التابعة لشركة توتال الفرنسية، فضلاً عن تحطيم نصب الجندي الفرنسي المجهول في مدينة "أبيشي" بشرق البلاد، بالإضافة إلى مهاجمة مقر القنصلية الفرنسية والقاعدة الفرنسية في المدينة ذاتها.

2- وقوع مواجهات عنيفة: عمدت القوات الحكومية إلى استخدام العنف ضد المحتجين، كما اعتقلت القوات الأمنية العشرات من المحتجين، من بينهم قيادات من المجتمع المدني الذين شاركوا في هذه التظاهرات، بالإضافة إلى كثير من الطلاب والأستاذة الجامعيين وكذا وزير سابق في الحكومة التشادية.

ومع ذلك، لا يزال المحتجين في تشاد متمسكين بمطالبهم الرئيسة، والتي تتمثل بالأساس في خروج فرنسا من البلاد، ووضع إطار قانوني للمرحلة الانتقالية ينتهي بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية وإنهاء سيطرة المجلس العسكري الحاكم.

3- محاولة امتصاص غضب المتظاهرين: سعى المجلس العسكري الحاكم في نجامينا، برئاسة كاكا، إلى استيعاب المحتجين، وهو ما وضح في البيان الصادر عن الحكومة التشادية، والذي طالب المحتجون بالهدوء، كما دعا الأطراف التشادية كافة إلى الانضمام إلى الحوار الشامل المزمع عقده في الفترة المقبلة.

وفي المقابل، رفض المجلس العسكري التجاوب مع مطلب المحتجين برحيل القوات الفرنسية، وهو ما وضح في إعلان وزير الاتصالات التشادي، عبدالرحمن كلام الله، عن تقدير السلطات التشادية بدور المجتمع الدولي وشركاء نجامينا الدوليين، مثل فرنسا، في تقديم الدعم لتشاد خلال الفترة الانتقالية، وهو ما يعد مؤشراً على تمسك السلطات الحاكمة بعلاقتها الوثيقة بباريس.

أسباب تفجر الاحتجاجات:

ثمة العديد من المحددات الداخلية والخارجية التي يمكنها تفسير التصعيد الحالي في الموقف الداخلي في تشاد، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تعثر الحوار الوطني الشامل: أعلنت السلطات التشادية، في 8 مايو الجاري، تأجيل جلسات الحوار الوطني الشامل، والذي كان من المفترض أن ينعقد في نجامينا في 10 من الشهر ذاته، وذلك بناء على طلب الوسيط القطري، حيث تستضيف الدوحة جلسات الحوار التمهيدي بين ممثلي الحكومة التشادية وعشرات من حركات المعارضة المسلحة.

وعلى الرغم من مرور شهرين على بداية جلسات الحوار التمهيدي، فإنها لم تفرز، حتى الآن، أي نتائج حقيقية، وذلك نظراً لرفض السلطات الحاكمة في نجامينا مطالب المجموعات الثلاث لحركات المعارضة المسلحة، على الرغم من التوافق في عدد من النقاط.

كما ألمحت بعض قوى المعارضة المسلحة بأنها باتت لديها قناعة بأن المجلس العسكري الحاكم، وبدعم من باريس، غير جاد في التوصل إلى تفاهمات حقيقية مع المعارضة.

2- حصول فرنسا على قواعد إضافية: أشارت بعض التقارير المحلية في تشاد خلال الأيام الأخيرة إلى أن المجلس العسكري الحاكم سمح لفرنسا بإنشاء خمس قواعد عسكرية جديدة على أراضيها، وهو ما لاقى اعتراضات واسعة لدى قوى المعارضة. ونفت باريس هذه التقارير، غير أن المعارضة تؤكد صحتها بناء على تطورات الوضع في مالي.

فقد ربطت قوى المعارضة بين هذه الأخبار وإنهاء مالي مؤخراً اتفاقيات التعاون العسكري كافة الموقعة مع باريس، والتي مثلت الإطار القانوني الحاكم للحضور العسكري الفرنسي في مالي، وهو ما يعزز من اتجاه باريس للبحث عن تمركزات أخرى في المنطقة غير باماكو، وتعد تشاد من بين هذه الدول المرشحة لاستقبال القوات الفرنسية.

3- دعم باريس نظام ديبي: تمثل تشاد أهمية خاصة للاستراتيجية الفرنسية في الساحل الأفريقي، حيث تعد نجامينا مقر القيادة المركزية لعمليات فرنسا في الساحل لمكافحة الإرهاب، وهو ما يفسر الدعم الواسع الذي يحظى به النظام القائم في نجامينا، سواء في فترة إدريس ديبي الأب، أو حتى ما قبله، حيث تدخلت باريس في عدة مرات لإنقاذ نظام إدريس ديبي من السقوط، وهو الأمر الذي استمر حالياً مع ديبي الابن، ولذلك اتجهت باريس لدعم نقل السلطة للابن بشكل غير دستوري، بل أن ثمة اعتقاد بات سائداً في الداخل التشادي بأن فرنسا هي من صاغت عملية تولي محمد كاكا الحكم خلفاً لوالده، وهو ما زاد حدة الاحتقان الداخلي ضد فرنسا.

4- تدهور الأوضاع الاقتصادية: تتمتع تشاد بثروات نفطية، غير أن الأوضاع المعيشية تعاني تدهوراً حاداً، حيث بلغ نسبة المواطنين تحت مستوى خط الفقر نحو 86% من إجمالي حوالي 16 مليون نسمة، منهم حوالي 63% يعانون الفقر المدقع. وفي هذا الإطار بات هناك اقتناع داخلي في تشاد بأن الوجود الفرنسي في البلاد يستهدف استغلال ثروات تشاد لصالح باريس.

ارتدادات محتملة:

يلاحظ أن هناك عدداً من الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن تفرزها حالة الاحتقان القائمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- تعزيز الانقسامات المجتمعية: تتسم تشاد بتنوع إثني وديني كبير، حيث تتشكل من حوالي 200 إثنية مختلفة، تتحدث أكثر من 100 لغة، فضلاً عن الانقسامات الدينية بين مناطق الجنوب ذات الأغلبية المسيحية من القبائل الأفريقية التي تمتهن الزراعة وتحظى بأوضاع اقتصادية وتعليمية أفضل، ومناطق الشمال والشرق ذات الطبيعة الصحراوية، والتي تقطنها أغلبية مسلمة من القبائل العربية على غرار قبيلة "الزغاوة" التي ينتمي إليها إدريس ديبي، والتي تسيطر على حكم البلاد حالياً.

ويعزز من هذه الانقسامات تدهور الأوضاع المعيشية، فضلاً عن خسارة مناطق الجنوب هيمنتها على المشهد بعدما ظلت مسيطرة على الحكم طيلة العقدين الأولين من استقلال تشاد عن فرنسا.

2- تكرار سيناريو مالي: تتشابه الاحتجاجات الراهنة في تشاد مع تلك التي شهدتها مالي وبوركينا فاسو في وقت سابق، والتي انتهت بحدوث انقلابات عسكرية أنهت هيمنة السلطات القائمة التي كانت قريبة من باريس، مقابل تمدد النفوذ الروسي في هذه الدول.

ومن أبرز القواسم المشتركة حضور العلم الروسي في الاحتجاجات، فقد عمد المحتجون إلى إحراق العلم الفرنسي، وإنزال علم باريس من على القواعد التي تمت مهاجمتها، كما رفع المحتجون، في المقابل، العلم الروسي، في تكرار للمشهد ذاته الذي شهدته الاحتجاجات السابقة في بعض دول الساحل الأفريقي.

ويجب الأخذ في الاعتبار وجود حالة من الانقسام داخل أسرة ديبي، سواء من قبل هؤلاء المقيمين في نجامينا، على غرار إبراهيم كورسامي، صهر دوسا ديبي، الأخ الأكبر للرئيس السابق، إدريس ديبي، أو حتى من قبل تيمان إرديمي، ابن عم رئيس المجلس العسكري الحاكم، محمد إدريس كاكا، بل أن إرديمي كان قد طلب دعماً مباشراً من قبل عناصر فاجنر الروسية في فبراير الماضي، للتخلص من نظام ديبي الابن حليف فرنسا.

ويجيء هذا التطور في الوقت الذي تسعى فيه باريس لإعادة تشكيل قوة إقليمية جديدة بديلة عن مجموعة الخمس، تكون نواتها تشاد والنيجر، وربما تضاف لها دول جديدة، وذلك بعد خروج مالي من المجموعة، وبالتالي يبدو أن باريس لن تتخلى بسهولة عن نفوذها الراهن في نجامينا، الأمر الذي ربما يزيد من حالة الاستقطاب الداخلي والخارجي، خاصةً حال تزايد الدعم الروسي لبعض قوة المعارضة.

3- تداعيات مباشرة على الحوار: قد تكون لاحتجاجات نجامينا انعكاسات على الحوار التمهيدي الذي تستضيفه الدوحة، سواء من خلال إمكانية الضغط على السلطات التشادية لتقديم تنازلات للمعارضة المسلحة، لتجنب خروج الأوضاع عن السيطرة، أو من خلال اتجاه بعض الحركات للانسحاب حال فشل التوصل لنتائج ملموسة خلال الأيام المقبلة، والاتجاه لدعم الاحتجاجات الداخلية، لزيادة حدة الضغط على المجلس العسكري الحاكم، خاصةً أن المجموعات الثلاث المشاركة في الحوار شكلت مؤخراً لجنة موحدة من 15 عضواً ممثلين عن الحركات الـ 52 المشاركة في الحوار، في محاولة ربما تكون الأخيرة للتوصل إلى تفاهمات مع السلطات الحكومية.

4- تحديات أمام المعارضة التشادية: لا يزال المجلس العسكري الحاكم في نجامينا يعول على الوقت لتعزيز سلطته داخلياً وخارجياً، مستفيداً من الدعم الفرنسي الواسع، بيد أن تصاعد حدة الغضب الداخلي من الوجود الفرنسي ذاته ربما يضيق الخناق على السلطات التشادية الحالية، خاصة إذا ما تواصلت الاحتجاجات، بصورة تشجع الجيش التشادي على القيام بانقلاب. 

ومع ذلك، فإن هناك عاملاً يصب في صالح النظام وهو تشرذم المعارضة، سواء الداخلية والخارجية، وبينما تتولى باريس صد أي أخطار خارجية قد تقوم بها حركات المعارضة المسلحة لإزاحة نظام ديبي الابن، كما فعلت سابقاً مع نظام والده، تتولى القوات الحكومية التعامل مع المعارضة الداخلية التي تفتقر كثيراً لأوراق ضغط حقيقية.

وفي الختام، فإن هناك إمكانية لتكرار ما حدث في مالي وبوركينا فاسو وغينيا في الحالة التشادية، في ظل تصاعد الاحتجاجات، والتراجع الملحوظ في النفوذ الفرنسي وشعبيتها في الساحل، إلا إذا نجح ديبي في احتواء المعارضة الداخلية، وتوصل إلى تفاهمات سريعة مع حركات المعارضة المسلحة في الحوار التمهيدي، تمهيداً لانطلاق جلسات الحوار الشامل.