فاعل عبر الأطلسي:

أسس الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة

02 September 2015


إعداد: عبدالغفار الديواني


أعلن الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2003 عن وضع أول استراتيجية أمنية للاتحاد وأعضائه، وذلك انطلاقاً من كونه أحد أهم الفاعلين في السياسة الدولية، وعليه مسؤولية الحفاظ على السلم والأمن الدوليين لبناء عالم أفضل. وكان من أهم التحديات الأمنية للاتحاد الأوروبي في هذه الاستراتيجية: الإرهاب العابر للحدود، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى الجريمة المنظمة والصراعات الإقليمية.

ولكن مع التغير الذي يشهده العالم من تحديات أمنية جديدة وضرورة تغيير السياسات الخارجية، وكذلك العلاقات الأوروبية - الأمريكية، فقد أعلنت الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي "فيديريكا موغريني"، عن ضرورة وجود استراتيجية أمنية أوروبية جديدة للتعامل مع مثل هذه التحديات والتغيرات من خلال تحليل البيئة الأمنية الحالية، والنظر في الأولويات الإقليمية للاتحاد، وإعادة تحديد العلاقات الأمنية بين الاتحاد الأوروبي و"حلف الناتو"، وصولاً إلى إيجاد حلول شاملة وموحدة على المستوى الأوروبي، سواء على المستوى الأمني أو الشؤون الخارجية. ومن المقرر أن تصدر هذه الاستراتيجية الجديدة خلال عام 2016.

في هذا الإطار، تنبع أهمية الدراسة التي صدرت عن المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، تحت عنوان: "الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة.. الفاعل عبر الأطلسي"، وأعده الباحثان في المعهد الألماني،  "أنيجريت بينديك" Annegret Bendiek و"ماركوس كايم" Markus Kaim؛ حيث تتطرق الدراسة إلى الدور الذي يجب أن تلعبه دول الاتحاد الأوروبي في العالم في ظل التغيرات الحالية، وبصفة خاصة كيف ستكون العلاقات مع الولايات المتحدة.

سياق متغير

يشير التقرير إلى وجود عدة متغيرات يتعين وضعها في الاعتبار أثناء مراجعة الاستراتيجية الأمنية الأوروبية وتحديثها، وتتمثل هذه التغيرات في الآتي:ـ

1- تأكل النظام الأوروبي- الأطلسي: إذ ينعكس ذلك سلباً على مهام المؤسسات متعددة الأطراف وضعف المبادئ المتفق عليها والقيم العالمية. والمثال في هذا الصدد، التدخل الروسي في شرق أوكرانيا وسيطرتها على جزر "القرم"، بما يعني الحد من سلطات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي لحماية حدود الاتحاد.

2- تناقضات في أهداف السياسات الخارجية: فقد أدى التدهور السابق ذكره إلى وجود أزمة في آليات احتواء الأزمة الأوكرانية، فمن ناحية استدعت هذه الأزمة فرض عقوبات واسعة على موسكو، ولكن من ناحية أخرى تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى الجانب الروسي في المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني. وكذلك فقد أدان الاتحاد الأوروبي جرائم النظام السوري، ولكنه يحتاج له في محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي.

3- الدور الأمني للولايات المتحدة: فبعد التجارب السلبية للتدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق، لجأت واشنطن تحت قيادة "أوباما" إلى تحويل بوصلة الاهتمام إلى الداخل، وبالتالي تركت فراغاً جيوسياسياً داخل حلف شمال الأطلسي، رغم وجود محاولات أوروبية لشغل هذه الفراغ.

وعلى سبيل المثال، وكما حدث في الأزمة الأوكرانية، تركت الولايات المتحدة دول الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الأزمة، وبالفعل كان ثمة تحرك ألماني وفرنسي لقيادة المفاوضات, ومن ثم من المتوقع أن يتزايد دور الاتحاد الأوروبي ومسؤوليته تجاه أزمات جيرانه، وكذلك زيادة التشاور الأوروبي - الأطلسي.

4- التوجه نحو التحالفات الثنائية أو "تحالفات الراغبين": إذ توجد دول كبرى في الاتحاد الأوروبي تعمل بتنسيق تام مع حلفائها الأوروبيين، ولكن خارج إطار عمل الاتحاد نفسه والآليات الرسمية للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة له.

5- صعود قوى دولية جديدة: فصعود قوى جديدة على المستوى الدولي قد يضغط على الاتحاد الأوروبي لتحديد أهداف معينة؛ فمثلاً أثر صعود الصين على سياسات الولايات المتحدة. ومن ثم، سيكون على الاتحاد الأوروبي جلب شركاء راغبين في الشراكة معه، وأيضاً الاعتراف بأن الأدوات المالية المحدودة للاتحاد تحد من لعب دور الشرطي العالمي الرائد.

6- انهيار فكرة الاتحاد "النموذج": فقد افترضت استراتيجية عام 2003 أن نجاح التكامل بين دول الاتحاد الأوروبي سيجعل منه "نموذجاً" تحتذي به دول العالم، ولكن هذا الافتراض لم يعد حقيقة، نظراً لوجود تغيرات إقليمية ومنظمات أخرى تكسب أرضاً ومزيداً من الثقة على المستوى الدولي، كما أن معظم الدول الأوروبية حركت بوصلتها للشأن الداخلي نظراً للأزمات الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى تصاعد الحركات القومية المناهضة لفكرة الاتحاد الأوروبي والتي تعتبره تهديداً، وتدعو إلى الانفصال، ما يؤثر على تماسك الاتحاد.

نقاط ضعف

يتطرق التقرير إلى ما يعتبره نقاط ضعف لدى الاتحاد الأوروبي وأعضائه، ما يؤثر على مستقبل الاتحاد ودوره على المستوى الدولي، ومنها:ـ

1- الشراكة مع الولايات المتحدة: فرغم ما لها من مميزات، إلا أن أوروبا لا تمتلك سوى قدرات محدودة للعمل بشكل مستقل في القضايا الدولية، فلا يستطيع الاتحاد الأوروبي وقف التنافس النووي بين إسرائيل وإيران، كما أنه لن ينجح في وقف سقوط وانهيار الدول العربية بكل ما يترتب عليه من هجرة وإرهاب عابر للحدود. ومن ثم، فإن الاتحاد الأوروبي يظل في حاجة دائمة للولايات المتحدة لحل هذه الصراعات، وهو الأمر الذي يمثل خطراً على دول الاتحاد.

2- تمدد دور "حلف الناتو": فقد ساعد هذا التمدد على استمرار محدودية الإنفاق في مجال الأمن والدفاع لأعضاء الاتحاد الأوروبي، إن لم يكن قد تقلص. وفي هذا الإطار، فإن ضم روسيا لجزر القرم، وحالة عدم الاستقرار أثارت التحرك نحو الدفاع الجماعي تحت مظلة "حلف الناتو"، وبالتالي تميل الدول الأوروبية الأعضاء في "حلف الناتو" إلى الاعتماد أكثر على الحلف بدلاً من الاتحاد الأوروبي.

3- ضعف القدرات العسكرية الجماعية، وعدم فعالية وبطء عملية صناعة القرار، كما أن مشاركة الاتحاد الأوروبي في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة هي مساهمة ضئيلة وغير ملائمة لوضع الاتحاد على المستوى الدولي.

استراتيجية أمنية أوروبية جديدة

يشير الباحثان في هذا السياق إلى أهم النقاط التي يجب أخذها في الاعتبار عند بناء الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة، وهي:

1- الأولوية الاستراتيجية "strategic premium" للتحركات الخارجية: بمعنى أن ثمة أولويات في التحركات الأوروبية من أجل تحقيق طموح الاتحاد الأوروبي كفاعل دولي محوري ومتكامل، وهي الاهتمام بمناطق الجوار الواسع، وذلك من خلال تحمل الاتحاد مسؤولياته الجيوسياسية تجاه مناطق المحيط الأوروبي – الأطلسي (شمال إفريقيا، الشرق الأوسط، ودول الجوار الشرقي).

2- إدارة الشراكة: يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى شركاء دوليين يكون لديهم توافق مع دول الاتحاد حول الأهداف والأدوات لفرض النظام على المجتمع الدولي.

3- التعاون في مجال الأمن الداخلي والأمن السيبراني: يتعين مراجعة الاستراتيجية الحالية للأمن السيبراني، فمن خلال معرفة التهديدات وردود الفعل، يتم الربط بين الشؤون الداخلية والخارجية، ومثال على ذلك المقاتلون الأوروبيون في تنظيم "داعش".

وفي هذا الإطار، يستطيع الاتحاد الأوروبي العمل مع "حلف الناتو" لاتخاذ مواقف مشتركة من أي تهديد، ويمكن استخدام هذا الأسلوب على مستوى المنظمات الدولية في وضع قواعد وقيم خاصة في مجال "الحروب الهجينة" hybrid warfare.

كما يجب تكثيف تبادل المعلومات بين أجهزة الاستخبارات في دول أعضاء الاتحاد الأوروبي ومع "حلف الناتو"، ووضع قواعد قانونية تضبط العلاقات بين الدول في هذا الشأن. وتنبع أهمية ذلك من كون الوصول إلى المعلومات ومصداقيتها وسريتها عامل فعَّال في حروب القرن الحادي والعشرين.

4- المساهمة بقوة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة: وذلك في ظل انخفاض المشاركة الأوروبية بشكل مطرد، حيث تقدم الدول الأوروبية حالياً عدد 6000 جندي فقط في بعثات الأمم المتحدة. ويساعد زيادة نسبة المشاركة في الحصول على مكاسب جيوسياسية، كما تبعد الشكوك عن الاتحاد الأوروبي في أنه يعمل من أجل مصالح دوله فقط.

وفي ظل ما تشهده العلاقات الأوروبية – الأطلسية في المجال الأمني، من تزايد الشكوك المتبادل بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تحتاج الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة إلى إعادة تقييم العلاقة بين الدول الأوروبية و"حلف الناتو"، وبين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وبالطبع تحسين العلاقات بين الاتحاد والحلف وزيادة التعاون الأمني والدفاعي بينهما.

وفي ختام التقرير، يشير الكاتبان إلى أن الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة تحتاج إلى ثلاثة متطلبات، أولها أن تأخذ في الاعتبار إطار السياسة المتغيرة، بما في ذلك الشؤون الأوروبية ومنها الأمن. وثانيها أن تكون صياغة طموحات السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي أكثر واقعية. وثالثها ضرورة وضع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أساس جديد، بما في ذلك الأفكار المشتركة حول النظام الدولي، والعلاقات مع غيرهم من القوى الفاعلة في المجتمع الدولي.


* عرض مُوجز لدراسة: "الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة.. الفاعل عبر الأطلسي"، والصادر في يونيو 2015 عن "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية".

المصدر:

Annegret Bendiek and Markus Kaim, New European Security Strategy – The Transatlantic Factor (Berlin, German Institute for International and Security Affairs, June 2015).