ضبط النفس النووي:

الخيار الاستراتيجي في إدارة الصراعات الدولية

08 September 2015


إعداد: أحمد عبدالعليم


 تتزايد المخاوف العالمية جراء أي احتمال للانتشار النووي، وذلك في ظل محاولة العديد من الدول الحصول على سلاح نووي بطرق غير مشروعة. ولكن المخاوف باتت أكثر بين الدول التي لديها بالفعل قدرات وإمكانيات نووية، خاصةً في المناطق التي يوجد بها عدم استقرار مثل شبه الجزيرة الكورية، حيث تهدد كوريا الشمالية باستخدام أسلحة نووية.

وفي ظل هذه الظروف، فإن العالم أصبح أكثر حرصاً على سياسة "ضبط النفس" بين كافة الأطراف، نظراً للقوة التدميرية الكبيرة للأسلحة النووية. ولذلك، فإن المجتمع الدولي لجأ إلى الضغط على إيران بسلاح العقوبات الاقتصادية حتى تمّ إبرام اتفاق معها مؤخراً يُلزمها بأن يكون برنامجها النووي سلمياً، وهو ما يتوافق مع "معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية".

وفي هذا الإطار، تأتي الدراسة المُعنونة: "المنطق الاستراتيجي من ضبط النفس النووي"، والصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، وأعدَّها "آدم ماونت" Adam Mount؛ وهو زميل معهد ستانتون للأمن النووي في مجلس العلاقات الخارجية. وتطرق الباحث إلى السلاح النووي كأداة ترهيب استراتيجي، مع تسليط الضوء على الوضع غير المستقر في شبه الجزيرة الكورية، وصولاً إلى شرح مستقبل فكرة ضبط النفس النووي في ظل المتغيرات الدولية.

السلاح النووي كأداة ترهيب استراتيجي

تشير الدراسة إلى أن الخبراء الاستراتيجيين يرجحون اللجوء لاستخدام الأسلحة النووية في أضيق الحدود، أو فقط من أجل الردع. وقد بدأ الاهتمام بهذا المنطلق مع روسيا عام 2000، عندما اقترحت فكرة مشابهة لاستخدام السلاح النووي ضمن الاستراتيجية العسكرية الوطنية بعد أن شاهدت عمليات حلف الناتو في كوسوفو عن قرب.

ويؤكد الباحث أن الدول تلجأ إلى التصعيد باستخدام السلاح النووي في حالة أن تكون على وشك الهزيمة على المستوى التقليدي. فعلى سبيل المثال، اعتمدت العقيدة الباكستانية على ذلك من أجل ردع أي هجوم من الهند، كذلك فإن فرنسا كانت قد اعتمدت موقفاً مشابهاً ضد الاتحاد السوفيتي، وذلك خلال الحرب الباردة وتعثُّر الموقف بينهما.

التهديدات النووية في شبه الجزيرة الكورية

يرى الكاتب أن السيناريو الأكثر قبولاً للولايات المتحدة هو استخدام السلاح النووي في حالات الطواري في شبه الجزيرة الكورية. فعلى الرغم من أن البرنامج النووي لكوريا الشمالية مازال في مرحلة بدائية، بيد أن التقديرات العامة تشير إلى تسارع وتيرة البرنامج منذ عام 2009، إذ تمتلك كوريا الشمالية الآن دورة وقود نووي كاملة، وترسانة نووية تضم ما يقرب من 20 رأس حربية.

وعلى الرغم من أن السنوات الماضية شهدت استقراراً نسبياً في هذه المنطقة، إلا أن جانبي المنطقة منزوعة السلاح تشهد حالة تأهب قصوى، خاصةً في ظل استمرار استفزاز كوريا الشمالية، وإن كانت تهديداتها تراجعت بشكل كبير على المستوى الفعلي.

ويعي الزعيم الكوري الشمالي "كيم جونغ أون" أنه بحاجة إلى استعراض القوة من أجل الإبقاء على حكمه ودعم نظامه، وبالتالي هو يحاول تصعيد الوضع العسكري في شبه الجزيرة الكورية من خلال إجراء تجارب نووية.

ومن هنا يأتي الموقف الصيني القلق من تواجد سلاح نووي في شبه الجزيرة الكورية، مُطالباً بضرورة نزع هذا السلاح من خلال الحوارات والمشاورات بين كل الأطراف المعنية. وجدير بالذكر أن تهديدات بيونج يانج جاءت في أعقاب إعلان واشنطن رسمياً أن قواتها المتمركزة في اليابان سوف تكون مستعدة للدخول إلى شبه الجزيرة الكورية في حال حدوث أي طارئ، وذلك دون أي إذن من الحكومة اليابانية، وهو ما حدا بكوريا الشمالية إلى أن تعلن أنها ستعزز من قدراتها النووية الدفاعية في المنطقة.

وتؤكد الدراسة أن أي ضربة نووية للولايات المتحدة ضد القوات التقليدية لكوريا الشمالية، لن تنجح إلا في ظل توافر معلومات استخباراتية كافية تحجم أي رد فعل نووي كوري شمالي، مُحذرةً من فشل تلك الضربة النووية في حال كانت المعلومات الاستخباراتية غير دقيقة، بل ستقوم حينها كوريا الشمالية بضربة انتقامية لكوريا الجنوبية.

وبالتالي، فإن فكرة ضبط النفس تتجلى من خلال تفكير الولايات المتحدة في سُمعتها العالمية في حال اتجهت إلى ضربة نووية، وكذلك فإنها تفكر في الحجج الصارمة لإقناع الرأي العام بمدى قدرتها على تجاوز رد الفعل الكوري الشمالي، وكذلك عليها أن تكون مُتيقنة من المعلومات الاستخباراتية المتاحة لها. وبناءً عليه، فإنه من المستبعد اللجوء إلى ضربة نووية في شبه الجزيرة الكورية.

"السُمعة الدولية" كعامل حاسم في ضبط النفس النووي

حسب ما ورد في الدراسة، فإن الولايات المتحدة لا تدخر جهداً في ردع الأسلحة النووية على هامش تفاعلاتها الاستراتيجية المختلفة، بالإضافة إلى جهودها التقليدية في مجال عدم الانتشار النووي. كذلك فإنها قد اتخذت خطوات كبيرة من أجل تقليل اعتمادها على الأسلحة النووية، وتغيير استراتيجيتها في هذا المجال، وذلك بالحديث عن أن العالم بدون أسلحة نووية سوف يصبح عالم أكثر أمناً واستقراراً، وهو ما تجلّى في اقتراح الولايات المتحدة على روسيا مواصلة عملية التقليص المتبادل للترسانة النووية في البلدين.

ودعت واشنطن أيضاً إلى نقاشات متعددة الأطراف حول الحد من الأسلحة النووية، وبدء تنفيذ معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. وقد قطعت كل من واشنطن وموسكو خطوات جيدة في إطار تقليص أسلحتهما النووية وفقاً للمعاهدة التي أُبرمت بينهما في عام 2010، حيث تستهدف تقليص الترسانة النووية للبلدين، والصواريخ العابرة للقارات، والصواريخ الباليستية، بالإضافة إلى الرؤوس الحربية.

ويشير الكاتب إلى أن تلك الجهود الدولية مُرتبطة بفكرة "السُمعة الدولية"، فالصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة كان معتمداً بشكل أساسي على "السُمعة الدولية". ولذلك فإن فكرة الانتقام النووي من الخصم باتت بعيدة في ظل رفض المجتمع الدولي وتنديده لأي ممارسات نووية.

وبالتالي، فإن عملية ضبط النفس النووي تفرض نفسها في ذلك الوضع باعتبارها خياراً أفضل. ومن جانب آخر، فإن اللجوء لاستخدام السلاح النووي من شأنه أن يقضي على جهود حظر الانتشار النووي بشكل يزيد من وتيرة الدول الساعية إلى امتلاك سلاح نووي، وهو ما يعتبر بمثابة كارثة على المجتمع الدولي بأكمله.

ومن ثم، تعد فكرة ضبط النفس النوي بمثابة مظهر قوي من مظاهر عدم فعالية الأسلحة النووية في ظل المعطيات الدولية الحالية، لأن تحقيق الأهداف الوطنية لا يرتبط بشكل مباشر بامتلاك أسلحة نووية، خاصةً في ظل اعتبار اللجوء إليها يعتبر عملاً غير أخلاقي. كذلك فإن مجازفة أي طرف باستخدام السلاح النووي يعتبر ضربة قاضية للنظام الدولي الحالي، حيث يتحول من حالته الراهنة إلى حالة الفوضى التي سوف تُطال الجميع. ولذا فإن "السُمعة الدولية" عامل هام في منع استخدام الأسلحة النووية، وكذلك في عدم ادخار أي جهد من أجل تقليل الترسانات النووية أو التأكيد على حظر الانتشار النووي.

ابتكار آليات جديدة لحل الأزمات الدولية

يُوجز الباحث أسباب لجوء الولايات المتحدة إلى ضبط النفس النووي في أي صراعات حالية أو مستقبلية وذلك لعدد من الاعتبارات، هي كالتالي:ـ

  • يساعد ضبط النفس النووي الولايات المتحدة على حل إيجابي لأي أزمة في متناول اليد.
  • يساهم في استقرار النظام الدولي على المدى الطويل.
  • لجوء الخصوم إلى فكرة الانتقام النووي، وما لذلك من تكاليف باهظة.
  • السُمعة الدولية للولايات المتحدة في ظل اتجاه المجتمع الدولي إلى رفض واستنكار الضربة النووية الأولى.
  • اللجوء إلى استخدام السلاح النووي لا يؤدي بالضرورة إلى إحداث استقرار شامل.

وإجمالاً، تشير الدراسة إلى أن ضبط النفس النووي يكون أقل احتمالاً في ثلاث حالات فقط، وهي: إذا كان الهجوم الأول مُدمِّراً بشكل كبير، وإذا كان الخصم لديه قوات كبيرة ذات جاهزية عالية وقدرة على البقاء، وأخيراً إذا كان التوازن في الأسلحة التقليدية متقارب للغاية.

ختاماً، يؤكد الكاتب أن الأولوية لابد أن تكون لإيجاد آليات جديدة لحل الأزمات الإقليمية، وأن يكون ثمة ديناميكية جديدة منعاً للتصعيد في هذه الأزمات، وعلى نحو يحول دون جعل استخدام السلاح النووي حلاً قائماً.

يتطلب ذلك مواقف معتدلة وغير مندفعة من صانعي السياسات في الدول، من أجل ألا يستيقظ العالم على كابوس فشل الردع النووي، وانتهاء فكرة ضبط النفس النووي بشكل قد يجعل كل الأطراف خاسرة في النهاية، وهو ما يؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار على المستوى العالمي. وبالتالي، فإن التفكير يتعين أن يكون قائماً على أسس أخلاقية تُغلّب مصلحة المجتمع الدولي قبل مصالح أي دولة منفردة، وكذلك فإنه على الولايات المتحدة أن تناقش مع حلفائها وشركائها حول العالم فوائد ضبط النفس النووي.


 * عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "المنطق الاستراتيجي من ضبط النفس النووي"، والصادرة عن "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) في أغسطس 2015.

المصدر:

Adam Mount, The strategic logic of nuclear restraint, Survival: Global Politics and Strategy, Volume 57, number 4 (London, The International Institute for Strategic Studies, August – September 2015) pp 53 – 76.