استعادة الدور:

الوساطة الجزائرية في الإقليم.. محفزات عديدة لا تخلو من تحديات

11 August 2021


تقوم جهود الوساطة الجزائرية على قاعدة راسخة في سياستها الخارجية، وهي العمل على تهيئة أجواء الاستقرار بالإقليم، والحفاظ على الوضع القائم، خشية أي تغيير راديكالي قد يؤدي إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. وتنبع هذه القاعدة بشكل أساسي من الذاكرة السياسية العالقة منذ أحداث "العشرية السوداء" التي كادت أن تودي بالدولة الجزائرية واستقرارها. وفي هذا الإطار، يسلط هذا التحليل الضوء على مؤشرات تصاعد الوساطة الجزائرية في العديد من أزمات المنطقة خلال الفترة الأخيرة، مثل الأوضاع في تونس بعد قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021، والأزمة الليبية وتعقد مسارات الانتقال السياسي، وأزمة سد النهضة بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى، فضلاً عن الأزمة في جمهورية مالي.

مؤشرات الوساطة الجزائرية:

انخرطت الجزائر خلال الأسابيع الماضية في العديد من مساعي الوساطة في أزمات المنطقة، خاصة بعد تعيين وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، في منصبه بالحكومة الجديدة بعد الأسبوع الأولى من شهر يوليو الماضي. وتتضح مؤشرات ذلك في الآتي:

1- الأزمة السياسية في تونس: تعتبر الجزائر أن استقرار تونس ينعكس بشكل أو بآخر عليها، خاصة أن تونس هي المنفذ البري الآمن الوحيد الباقي للجزائر بعد إغلاق الحدود الجزائرية - المغربية، والمشكلات الأمنية على الحدود مع كل من ليبيا ومالي والنيجر. وفي هذا الصدد، لم تخف الحكومة الجزائرية، وعلى رأسها الرئيس عبدالمجيد تبون، اهتمامها بمجريات الأمور في تونس، وهو ما برز في إجراء الرئيس تبون اتصالين هاتفيين مع نظيره التونسي، قيس سعيد، خلال أربعة أيام، وما صرَّح به مؤخراً للصحافة؛ قائلاً "الرئيس قيس سعيد أبلغني أموراً لا يمكن البوح بها"، وهو ما يوحي بخصوصية العلاقات التونسية مع الجزائر، خاصة أن هذا التصريح ارتبط برفض الجزائر ممارسة أي ضغوط خارجية على تونس. 

وترتبط بذلك أيضاً زيارة وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، تونس، مرتين يومي 27 يوليو الماضي و1 أغسطس الجاري. وعلى الرغم من الحديث عن وساطة جزائرية في المسألة التونسية، فإن أياً من الجانبين لم يعلن عن تفاصيل هذه الوساطة. وإذا كانت الجزائر قد أكدت أن ما يحدث في تونس شأن داخلي، بيد أنها لم تقدم دعماً صريحاً للخطوات التي أقدم عليها الرئيس سعيد، وهو ما يفسره البعض بـ "الحياد الإيجابي" الذي يضمن لها لعب دور وسيط موثوق به من كافة الأطراف التونسية.

2- الصراع السياسي في ليبيا: تحفظت الجزائر على التدخل في بدايات الأزمة الليبية، ولكنها ألقت بثقلها في متابعة تنفيذ خريطة الطريق التي أٌقرَّت في برلين عام 2020، والتي تقوم على ضرورة إجراء الانتخابات العامة بإشراف الأمم المتحدة في 24 ديسمبر 2021. وقد طلب رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، عبدالحميد الدبيبة، من الرئيس الجزائري، تبون، في أواخر مايو الماضي، دعم تحقيق المصالحة بين الأطراف كافة باعتبارها طرفاً محايداً. 

3- أزمة سد النهضة الإثيوبي: نتيجة إخفاق مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى اتفاق مُلزم بشأن سد النهضة، ووصول المفاوضات بين الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا) إلى حائط صد؛ تعمل الجزائر من خلال مبادرتها على إنهاء حالة الجمود السياسي في هذه الأزمة، وإعادة الدول الثلاث إلى طاولة التفاوض من جديد عبر إيجاد أرضية مشتركة للتوافق، وهو ما يُعد تقدماً في حد ذاته بعد طريق اللاعودة الذي وصلت له الأطراف الثلاثة. 

وجاءت استجابة إثيوبيا للوساطة الجزائرية بعد رفضها سابقاً وساطات مماثلة من تونس ودول أخرى في المنطقة، وهو ما يؤشر بشكل أو بآخر على حالة الثقة المتبادلة بين الطرفين؛ إذ فصلت أديس أبابا في النزاع الحدودي بين الجزائر والمغرب فيما عُرف بـ "حرب الرمال"، وتدخلت الجزائر كطرف محايد في النزاع الإثيوبي - الإريتري الذي قاد إلى وقف إطلاق النيران في عام 2000. وتعول الجزائر كثيراً على إنجاح هذه الوساطة، لاسيما مع الجولة الخارجية الناجحة التي قام بها وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، إلى إثيوبيا والسودان ومصر في أواخر يوليو 2021.

4- النزاع الحدودي بين الخرطوم وأديس أبابا: في ضوء ثقة الحكومة الإثيوبية بالجزائر كطرف موثوق به، دعت إثيوبيا الحكومة الجزائرية لتبني وساطة بينها وبين الحكومة السودانية لإنهاء النزاع الحدودي بين الجانبين حول منطقة الفشقة، من خلال إقناع الخرطوم بضرورة وجود تفاهمات مع أديس أبابا لطرح تسوية سياسية. وبالرغم من أن هذه المبادرة جاءت في خضم ملف أكبر وهو تسوية أزمة سد النهضة، فإنها ربما تعكس سعي إثيوبيا لتصفير مشاكلها مع السودان عبر الوساطة الجزائرية وقطع الطريق أمام أي تعاون مصري - سوداني في حال فشل التسوية السلمية لأزمة سد النهضة. 

5- الأزمة السياسية في مالي: أفضت الوساطة الجزائرية في جمهورية مالي عام 2015 إلى التوصل لاتفاق السلم والمصالحة، أو ما عُرف بـ "مسار الجزائر". وتعول أطراف الأزمة في مالي على هذا الاتفاق لتجاوز الأزمة السياسية الحالية، مستغلة في ذلك علاقاتها وثقلها السياسي في منطقة شمال مالي الممتد مع القبائل ورجال الأعمال. وترمي الجزائر بثقلها في هذا الملف؛ رفضاً لأي دور فرنسي على حدودها الجنوبية، وتخوفاً من توظيف الحدود الجنوبية لاختراق العمق الاستراتيجي للبلاد عبر الجماعات الإرهابية وتنظيمات الجريمة المنظمة، مثل الهجرة غير الشرعية والإتجار في المخدرات.

دوافع عديدة:

ثمة العديد من المُحفزات والدوافع التي تُفسر محاولات الوساطة الملحوظة للجزائر في بعض أزمات المنطقة، ويتمثل أبرزها في الآتي:

1- الخبرة التاريخية: نشطت الوساطة الجزائرية تاريخياً في ظل حالة الوهج الثوري التي تلت مرحلة التحرير فيما يُطلق عليه الجزائريون "المرحلة الكلاسيكية للوساطة الجزائرية"، والتي استطاعت خلالها وقف الحرب بين إريتريا وإثيوبيا في عام 2000، إضافة إلى نجاح وساطتها في مدغشقر ومالي والنيجر. وتبنى الرئيس تبون عملية إعادة بلاده إلى الواجهة الدبلوماسية في مسألة الوساطة باعتبارها طرفاً موثوقاً به خلال حملته في الانتخابات الرئاسية، وهو ما ترجمه بصورة جليّة في تعيين الدبلوماسي الجزائري المخضرم رمطان لعمامرة وزيراً للخارجية في الحكومة الجديدة بقيادة الوزير الأول أيمن بن عبدالرحمن.

2- ضمان الاستقرار في دول الجوار: تُعد مسألة الاستقرار السياسي والأمني في محيط الجزائر، خاصة منطقة الساحل والصحراء، مسألة محورية في محددات السياسة الخارجية الجزائرية التي تقوم على ضرورة سيطرة أنظمة سياسية مستقرة على حدودها المتسعة، لاسيما على الحدود الشرقية، حيث ليبيا وتونس، والجنوبية حيث مالي والنيجر. وفي هذا السياق، تتخوف الجزائر من تدفق الأسلحة إلى عمقها الاستراتيجي من دول الجوار، وما يتصل بذلك من تخوفات تتعلق بنشاط التنظيمات الإرهابية، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، لاسيما مع استمرار حالة الفراغ السياسي في ليبيا ومالي، وما يستتبعه من قوة انتشار تنظيم بوكو حرام، وتمدد الميليشيات والتنظيمات الإرهابية المسلحة في ليبيا. 

3- الطرف المحايد والموثوق به: تُقدم الجزائر نفسها للمجتمع الدولي والإقليمي كطرف محايد يُمكن الوثوق به في عمليات الوساطة باعتبار أنها تقوم على مبدأ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول"، وإعلاء سياسة "الحوار والنقاش" بين الأطراف المتنازعة لإزالة الغموض والتوصل لحلول دبلوماسية مرضية للأطراف كافة وفق "سياسة إخماد الحرائق" واحتواء الأزمات التي سبق أن تبنتها في الحرب الإثيوبية - الإريترية، وأزمات مالي والنيجر وغيرها. 

4- التنافس الجزائري - المغربي: تتصل التحركات الخارجية للجزائر بقضية الصحراء والنزاع الجزائري - المغربي حول الحدود. وهنا ترى الأوساط السياسية في المغرب أن التحركات الجزائرية الأخيرة، لاسيما في ملفي ليبيا ومالي تهدف بشكل أساسي إلى تقويض الدور المغربي في أفريقيا، وتستند هذه الرؤى إلى مهاجمة الجزائر القادة الجدد في مالي وعملها على الاستعانة بنخبة الشمال القريبين منها (رجال الأعمال والسياسيين) لإعادة ترتيب الأوراق خاصة أن الرئيس الانتقالي في مالي قريب بشكل أو بآخر من الأوساط السياسية المغربية. وفي الحالة الليبية، تتنافس الجارتان حول لعب دور مؤثر في مسار التسوية السياسية.

5- كبح جماح التدخلات الفرنسية: تنطلق الرؤية الجزائرية حول الدور الفرنسي في أفريقيا، لاسيما في دولة مالي، من قاعدة رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ إذ تعتمد باريس في سياستها في شمال مالي على توظيف القوة العسكرية. وتعود هذه الرؤية لدى النخبة الجزائرية إلى "النظرة الكولونيالية أو الاستعمارية" للدور الفرنسي في أفريقيا باعتباره قائماً على نهب خيراتها وتأجيج الصراعات المحلية. لذا تحاول السياسة الجزائرية سد الشواغر لقطع الطريق أمام أي دور لفرنسا، وهو ما يظهر جلياً في حالة ليبيا؛ إذ ترفض الجزائر أي دور سياسي للمشير خليفة حفتر، نكاية في فرنسا. وكذلك تتابع الجزائر تطورات الأوضاع السياسية في تونس بعد قرارات 25 يوليو الماضي، في ظل تخوف واضح من الأولى من أن يكون هناك دور فرنسي في رسم خريطة تونس السياسية خلال المرحلة المقبلة. 

6- عودة الدبلوماسي الجزائري رمطان لعمامرة: قد تمثل عودة الدبلوماسي المخضرم رمطان لعمامرة على رأس ملف السياسة الخارجية للجزائر، فرصة لاستعادة الأخيرة ريادتها الدبلوماسية، خاصة أن الرجل لديه خبرة دولية كبيرة في ملف الوساطة وتحديداً في أفريقيا؛ إذ عمل على هندسة أكثر من 40 عملية سلام خلال توليه مفوضية السلم والأمن على مستوى الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى شغله عضوية المجلس الاستشاري رفيع المستوى للأمين العام للأمم المتحدة المعنيّ بالوساطة. 

7- الدور الخارجي للمؤسسة العسكرية الجزائري: سمحت التعديلات الدستورية الأخيرة بتكليف الجيش الجزائري بمهمات عسكرية خارج البلاد وفق البند (30) من الدستور الجديد بعد أن كان غير ممكن في السابق. ووفق هذا التعديل، سُمح للجيش الجزائري بالمشاركة في المهام الخارجية في سياق جهود الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، لإحلال الأمن والسلم العالمي. وبالتالي يوفر هذا التعديل دعماً لجهود الوساطة الجزائرية.


ختاماً؛ يُعد نموذج الجزائر في الوساطة أحد أبرز نماذج الوساطة الناجعة في الإقليم؛ وذلك لاعتبارات تتعلق بموقعها الجغرافي الحساس وسط بيئة تعج بالصراعات والنزاعات، وكذلك الفاعلية الإقليمية التي تتمتع بها، لاسيما في إطار الاتحاد الأفريقي ومنظماته المختلفة، وعملها على النأي بالنفس عن سياق التجاذبات والأحلاف، سواءً الإقليمية أو الدولية، وهو ما جعل الأطراف الخارجية تثق بتدخل الجزائر، سواءً كان ذلك على مستوى الدول كما في حالة أزمة سد النهضة، أو الجماعات والتيارات المختلفة كما في حالة جمهورية مالي.

وعلى الرغم من ذلك، قد تجد الوساطة الجزائرية عراقيل في ملفات أخرى؛ بسبب تمسكها بمواقفها كما حدث في الحالة الليبية، حيث تبنت توجهات حكومة الوفاق السابقة بقيادة فايز السراج نكاية في فرنسا، فيما علل المسؤولون الجزائريون حينها هذه الخطوة باعتراف الأمم المتحدة بحكومة السراج، وتجاهلوا بذلك مستجدات الأمور الأخرى مثل التدخل التركي، والزج بالمرتزقة الأجانب في أتون الحرب الأهلية.

ويبقى أمام تصاعد الوساطة الجزائرية في أزمات الإقليم، مجموعة من التحديات، لعل أبرزها ما يتعلق بعدم ارتباط الوساطة الجزائرية بأدوار تنموية وإغاثية فاعلة في بؤر الصراع التي تحتاج إلى معالجات اقتصادية وتنموية على غرار الأزمات في أفريقيا. وعلى الرغم من إنشاء الجزائر منظمة إغاثية مؤخراً، فإن دورها لا يزال ضعيفاً، ويحتاج إلى مضاعفة الجهود.